السيول والفيضانات تقطع شرايين الحياة في السودان

عاين-15 أغسطس 2024

حولت كارثة السيول والأمطار، السودان إلى جزر معزولة نتيجة لانقطاع طرق ومعابر رئيسية، الشيء الذي زاد العزلة الموجودة أصلاً بسبب الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع المستمرة لأكثر من عام، وهو ما يترتب عليه مزيدا من التدهور في الوضع الإنساني والمعيشي لدى المواطنين في مختلف أنحاء البلاد.

من إقليم دارفور غربي البلاد إلى شمال وشرق السودان، ترسم السيول واقعاً أكثر مأساوية يتجسد في مضاعفة أسعار المواد الغذائية الأساسية مع ندرة في بعض البضائع إثر توقف حركة التجارة والإمداد السلعي، بينما التهمت الكارثة المصادر الشحيحة للكسب المالي التي كانت متاحة لبعض المواطنين.

موجة الغلاء شملت عدد من الولايات إذ ارتفعت أسعار المواد الغذائية بمعدل يتراوح بين 30 – 50 بالمئة خلال الفترة أعقبت كارثة السيول والأمطار

وتشهد الحركة التجارية في ولاية نهر النيل شمالي السودان وهي الأكثر تأثرا بالسيول، شللا تاما، وصارت مدنها الرئيسية بمثابة جزر معزولة بعد أن انقطعت كافة الطرق المؤدية إليها، الأمر الذي سيقود إلى ارتفاع في أسعار السلع، وربما ندرة في بعض الأصناف قريباً، وفق ما نقله عضو في الغرفة التجارية بالولاية لـ(عاين).

وبحسب أصحاب محال تجارية، فإن موجة الغلاء شملت كذلك إقليمي دارفور وكردفان، وولاية البحر الأحمر شرقي البلاد والنيل الأبيض، إذ ارتفعت أسعار المواد الغذائية بمعدل يتراوح بين 30 – 50 بالمئة خلال الفترة أعقبت كارثة السيول والأمطار.

خسائر فادحة

التداعيات السالبة للسيول والأمطار لم تتوقف عند الحد الاقتصادي والمعيشي، لكنها امتدت إلى خسائر بشرية في الأرواح، حيث أدت إلى وفاة 83 شخصاً في 7 ولايات، ومئات المصابين، وفق وزارة الصحة السودانية، بينما ذكرت جمعية الهلال الأحمر السوداني أنها أحصت 34 حالة وفاة وإصابة 588 آخرين جراء السيول والأمطار في محلية أبو حمد وحدها.

ووفق الهلال الأحمر، انهيار 24104 منازل بشكل كلي و8016 منزلا بشكل جزئي، وانهيار 150 مرفقا حكوميا، وتضرر أكثر من 96 ألف أسرة في مدينة أبو حمد بولاية نهر النيل جراء السيول الجارفة والأمطار العالية التي وصلت كميتها إلى 142 ملم، فيما ذكرت وزارة الصحة بالولاية الشمالية إن السيول تسببت في 29 شخصا فيها وإصابة 125 آخرين، وتضرر 2835 أسرة.4.

انهيار 24104 منازل بشكل كلي و8016 منزلا بشكل جزئي، وانهيار 150 مرفقا حكوميا، وتضرر أكثر من 96 ألف أسرة في مدينة أبو حمد بولاية نهر النيل جراء السيول الجارفة

وتسببت السيول في قطع الطريق الرابط بين حلفا – دنقلا وهو المسار الوحيد لحركة التجارة بين السودان ومصر، ويمثل خروجه الخدمة ضربة اقتصادية كبرى، ويؤثر بشكل واسع على الإمداد السلعي، وبحسب الطيب محمد أحمد وهو تاجر إجمالي من عطبرة، فإن شمال السودان منذ اندلاع الحرب أصبح يعتمد على مصر في الحصول على السلع والبضائع بنسبة 80 بالمئة، مقابل كميات قليلة تصل عبر الموانئ في شرق البلاد.

قطعت السيول كذلك، طريق دنقلا – كريمة، وطريق مروي – عطبرة في مكانين، بجانب طريق عطبرة – أبو حمد، وطريق التحدي شندي – عطبرة، وعطبرة – هيا، بورتسودان، فضلا عن انهيار كبري أم دوم الذي يربط مروي مع منطقة تنقاسي، وجميعها طرق ومسارات حيوية وهامة لحركة التجارة المحلية ونقل المنتجات مثل الخضروات والفواكه من مناطق الإنتاج إلى الاستهلاك، وفق التاجر الطيب.

ولم يلاحظ عضو الغرفة التجارية بولاية نهر النيل خالد بابكر، أي تغييرات في الأسعار بمدينة عطبرة عقب كارثة السيول والأمطار التي تشهدها المنطقة، لكنه يتوقع تأثيرات واسعة خلال أسبوع قادم إذا مضت الأمور بالوتيرة نفسها، نظراً لتوقف حركة الإمداد السلعي نتيجة لانقطاع الطرق والمسارات الرئيسية.

ويشير بابكر الذي تحدث لـ(عاين) إلى أن عطبرة أصبحت منطقة تجميع السلع وسوق كبير ومركز رئيسياً يغذي نحو ربع السودان بما في ذلك مدينة أمدرمان وغرب البلاد بالبضائع والسلع الغذائية، وبعد انقطاع طريق معبر ارقين القادم من مصر والطريق إلى بورتسودان سيحدث شلل في حركة البضائع والسلع.

تمور غارقة

 تمتد آثار السيول لتشكل ضربة اقتصادية لمنتجي التمور، إذ يتوقع فشل الموسم الحالي؛ نظرا للحساسية العالية للتمور تجاه مياه الأمطار والتي تؤدي إلى تلفها، ما يلحق ضرر واسع بسكان شمال السودان الذين يعتمدون على البلح بشكل أساسي في كسب معاشهم، وفق ما يقوله محجوب علي، وهو أحد منتجي التمور لـ(عاين).

حصاد النخيل في شمال السودان

ويضيف علي: “لم نشهد قريبا معدلاً كهذا من السيول والأمطار، ونخشى أن يؤدي ذلك إلى فشل موسم التمور، ففي الوقت الحالي النخيل في المراحل النهائية من النضج على أن يبدأ حصاده منتصف سبتمبر المقبل، ويتكمل مطلع أكتوبر من كل عام”.

وتابع: “في هذه المرحلة لا يستحمل النخيل أي مياه مباشرة تصب عليه، فهو لا يتأثر بالسيول تحته، لكنه يتضرر بالأمطار، فإذا سقطت نقطة مياه على سبيطة البلح ستؤدي إلى تلفها وسقوطها على الأرض، وتكون غير صالحة”.

 تداعيات سالبة للسيول، تلحق بقطاع التعدين عن الذهب في ولايات نهر النيل والبحر الأحمر والشمالية، وقادت إلى توقف كامل لهذا النشاط، ووضع نحو مليوني شخص ينقبون يدويا عن المعدن النفيس على شفا العطالة.

السيول غمرت كل آبار التنقيب عن الذهب في منطقتي أبو حمد والعبيدية بولاية نهر النيل

منقب تقليدي

ويكشف أحمد قاسم، أحد العاملين في قطاع التعدين التقليدي لـ(عاين) إن السيول غمرت كل آبار التنقيب عن الذهب في منطقتي أبو حمد والعبيدية بولاية نهر النيل، والتي كان يعمل فيها نحو 750 ألف شخص، ويعولون آلاف العائلات من هذا النشاط، وصاروا بلا عمل الآن، بل يواجهون معاناة معيشية كبيرة، بعد أن دمرت السيول الأسواق والطرق التي تمكنهم من مغادرة المنطقة.

ويقول قاسم “أثرت السيول كذلك على مناطق أخرى للتعدين التقليدي مثل وادي العشار في ولاية البحر الأحمر، والخناق في الولاية الشمالية، ويواجه المعدنين في كل هذه المناطق أوضاع صعبة، كما فقدوا فرص عملهم في ظل استمرار الحرب”.

غلاء طاحن

ولم ينج شرق السودان من التأثيرات الاقتصادية الواسعة للسيول والأمطار، إذ شهدت أسعار الخضروات والفواكه تحديدا ارتفاعاً كبيراً في مدينتي سواكن وبورتسودان، نظراً لتوقف الإمداد من مدينتي كسلا وعطبرة نتيجة السيول التي اجتاحتهما وانقطاع بعض الطرق الرابطة، وذلك وفق ما نقلته إيمان عبد الله وهي مواطنة من بورتسودان لـ(عاين)

وقالت إيمان: “وصل سعر كيلوغرام من الطماطم إلى ثلاثة عشر ألف جنيه في مدينتي بورتسودان وسواكن، إذ تجاوز سعر الكرتونة مئة وثمانين ألف جنيه، ويشمل الارتفاع كل أسعار الخضروات والفواكه نتيجة السيول في كسلا وولاية نهر النيل، بينما لم يحدث أي تصاعد جديد في أسعار السلع والبضائع الأخرى، وظلت على حالها الذي هو في الواقع غالي جداً، ويفوق طاقتنا كمواطنين متأثرين بالحرب”.

السيول تجرف جسر لعبور القطارات في مدينة أبو حمد شمال السودان

وبحسب حمد سليمان، وهو صحفي مقيم في النهود، فإن أسعار مجمل السلع الاستهلاكية بنسبة تصل حتى 50 بالمئة لبعض الأصناف، فقد قفز ثمن جوال السكر زنة 50 كيلوغراماً إلى مئة وثمانين ألف جنيه، وصعد سعر جوال الدقيق زنة 25 كيلوغراماً إلى خمسة وستين ألف جنيه بدلا عن 50 ألفاً في السابق، وسط ندرة في العديد من البضائع.

وقال سليمان في حديثه لـ(عاين) “يعود السبب إلى السيول والأمطار التي أعاقت حركة شاحنات البضائع، والتي أصبحت تحتاج إلى أسبوعين على الأقل لقطع المسافة من الدبة في الولايات الشمالية إلى النهود نسبة لوعورة الطريق غير المسفلت، حيث تعطلت العديد، وانقلبت بعضها الشيء الذي أدى إلى زيادة الأسعار، فالوضع كارثي إلى حد بعيد.

والتهمت موجة الغلاء الناجمة عن السيول الأمطار مدينة الأبيض عاصمة ولاية شمال كردفان التي أصبحت تعتمد على البضائع القادمة عبر الدبة ومنطقة المزروب بعد تدهور الأوضاع الأمنية في النيل الأبيض وسنار، حيث تشهد الآن ارتفاع مضطرد في أسعار كافة السلع الاستهلاكية بما في ذلك السكر والدقيق والذرة.

في إقليم دارفور تسببت الأمطار في إعاقة وصول البضائع عبر طريق الدبة في الولاية الشمالية، منذ منتصف يوليو الماضي، مما أسهم في زيادة تدهور الأوضاع الإنسانية بالإقليم الغربي

وفي إقليم دارفور تسببت الأمطار في إعاقة وصول البضائع عبر طريق الدبة في الولاية الشمالية، والذي تعطلت الحركة خلاله منذ منتصف يوليو الماضي، مما أسهم في زيادة تدهور الأوضاع الإنسانية في الإقليم الغربي، فهو كان بمثابة الشريان الوحيد الذي يغذي مواطني دارفور بالسلع والمواد الغذائية.

ويوم الاثنين الماضي، دقت منظمة أطباء بلا حدود الفرنسية ناقوس الخطر، بعد تسبب السيول والأمطار في انهيار جسر حيوي يربط بين ولايات غرب ووسط وجنوب وشرق دارفور، وهو الطريق الآمن الوحيد لإيصال المساعدات الإنسانية من دولة تشاد المجاورة، مما يشكل عقبة رئيسية أخرى أمام جهود إيصال المساعدات المنقذة للحياة إلى دارفور.

السيول بولاية غرب دارفور

يقع جسر “أزوم” على طريق الإنقاذ الغربي، غرب من مدينة زالنجي عاصمة ولاية وسط دارفور مع مدينة الجنينة، عاصمة غرب دارفور. وهو أحد أهم الجسور الاستراتيجية التي تربط بين ولايات دارفور الخمس وطريق هام لنقل البضائع والمسافرين، ويقع ضمن الممر الإنساني الذي حددته الأمم المتحدة مؤخراً لإدخال المساعدات الإنسانية إلى أربع ولايات في الإقليم.

أعاقت الأمطار الغزيرة ثلاثة ممرات حيوية تربط ولاية شرق دارفور وغرب كردفان مع دولة جنوب السودان

مراسل لـ(عاين)

وبحسب مراسل لـ(عاين) فقد أعاقت الأمطار الغزيرة ثلاثة ممرات إنسانية حيوية تربط ولاية شرق دارفور وغرب كردفان مع دولة جنوب السودان وهي ممرات إنسانية حيوية يستخدمها المدنيون في نقل الحالات المرضية الحرجة إلى جوبا، بجانب إدخال الأدوية والوقود، ويستخدمه الآلاف السودانيون للجوء إلى أوغندا.

مآسي تتفاقم

وقال الخبير في مجال العمل الإنساني في إقليم دارفور صالح محمدين إن “الأمطار الغزيرة وفيضانات الأودية في السودان أفرزت واقعاً إنسانياً معقداً للغاية في دارفور، وأثرت بصورة مباشرة على القدرة المحدودة أصلاً لوكالات الإغاثة في الوصول إلى المحتاجين”

وتوقع محمدين في حديثه لـ(عاين) عمليات نزوح جديدة خلال الشهر المقبل؛ بسبب الأمطار لجهة أن المنظمات الإنسانية لا يمكنها الوصول إلى المناطق حاليا والمحتاجين في أشد الحاجة إلى الإغاثة خلال موسم الخريف، لأن كل ما لديهم من غذاء مدخر سوف ينفد وليس أمامهم سوى خيار النزوح.

من جانبه، شدد رئيس الإدارة المدنية التابعة لقوات الدعم السريع في ولاية غرب دارفور تجاني كرشوم، بأن انجراف الطريق الرابط بين ولايتي غرب ووسط دارفور بمنطقة مورني؛ بسبب السيول والفيضانات أضر كثيرا بحياة المواطنين.

وأوضح كرشوم لـ(عاين) أن إنسان غرب دارفور انفصل بصورة كاملة عن مدن دارفور الأخرى، في وقت يعتمد آلاف السكان على المواد الغذائية والأدوية المنقذة للحياة عبر طريق زالنجي – الجنينة.

ويشير كرشوم إلى أن التداعيات السلبية انعكست على حياة المواطنين، إذ ارتفعت أسعار السلع والمواد الاستهلاكية الرئيسية في ظل المخاوف من صعوبة وصول إمدادات تجارية جديدة؛ بسبب عدم صلاحية الطرق البديلة في فصل الخريف.

وبحسب المنسقية العامة للنازحين، فإن النازحين في المخيمات ودور الإيواء أيضاً تأثروا بالسيول والأمطار، وصارت معسكرات مثل كلمة منفصلة تماما، ولا يستطيع النازحون التواصل مع المناطق الأخرى للحصول على احتياجاتهم، مما فاقم معاناتهم الإنسانية.