فيضانات السودان وسد النهضة.. جدل واتهامات ونفي

عاين- 6 أكتوبر 2025

جلس المزارع السوداني، محمد نبيل على حافة حقله الغارق بالمياه في شمال الدمازين بولاية النيل الأزرق جنوبي السودان، محاولا استيعاب حجم الكارثة التي حلت به بعد أن ابتلعت مياه فيضان نهر النيل الأزرق محصوله من الطماطم والفلفل والبصل والشطة والبرسيم وشتول الموز، التي أنفق عليها مبالغ كبيرة.

روى نبيل لـ(عاين)، كيف أن فيضان 25 سبتمبر الماضي، المفاجئ، أغرق كل شيء بين ليلة وضحاها، وحوّل موسم زراعي كان يسير على ما يرام إلى مأساة كبيرة. وأشار إلى أن الفيضان استمر حتى 28 سبتمبر، ما غمر كامل الأراضي، وألحق أضرارًا بأشجار الليمون والجريب فروت والبرتقال، رغم أن بعضها نجا جزئيًا.

حال محمد يشبه قصص مئات المزارعين في ولايات الجزيرة وسنار والنيل الأبيض والخرطوم، الذين فقدوا مساحات واسعة من الأراضي الزراعية والقرى المحاذية للنيل. بعضهم فقد القصب والبرسيم في لحظات، فيما اضطر آخرون لترك أراضيهم ومنازلهم بعد عجزهم عن إنقاذ أي شيء.

الموسم الزراعي كان يسير بشكل جيد منذ بدايته، لذلك استثمر نبيل مبالغ كبيرة في التقاوي الهجينة والمدخلات الزراعية. وأشار إلى أن الفيضان يشبه ما حدث في عام 1988، ولم يتكرر منذ ذلك الحين وفق ما رواه له والده، مؤكداً أن الأمر قد يكون مرتبطاً بسد النهضة أو بخزان الرصيرص، لكنه أشار إلى أن النتائج كانت كارثية على الأرض الزراعية.

وأضاف نبيل لـ(عاين): أن “الحكومة لم تقدم أي دعم للمزارعين المتضررين، وأن الأزمات السابقة مثل أزمة الوقود والطاقة لم تُحل بالشكل المطلوب”، موضحًا أنه يعتمد على جهوده الخاصة لتجهيز الموسم القادم، وسيحاول إعادة زراعة الموسم الشتوي رغم التأخر الكبير.

لكن الأخطر أن الطمي الذي كان يغذي الأراضي الخصبة أصبح محجوزًا خلف السد، ما قلل من خصوبة التربة وأضعف إنتاجيتها، وفقا لحديث نبيل، لافتًا إلى تأثير سد النهضة على طبيعة الفيضانات، حيث أصبحت المياه المتدفقة غير منتظمة وسريعة، ما أدى إلى انجراف الأراضي وتقليل المساحات الزراعية سنويًا، وزاد صعوبة التحكم بتدفق المياه.

أما عثمان الجندي، فقد تحدث لـ(عاين) عن الخسائر التي لحقت بمزرعة شقيقه في الريف الشمالي لأمدرمان خلال الفيضان الأخير، موضحًا أن الأراضي كانت مخصصة للبستنة إلى جانب مساحة واسعة مزروعة بالبرسيم. ومع ارتفاع منسوب النيل، غمرت المياه الأراضي بالكامل، بينما نجت أشجار البستنة مثل المانجو والليمون التي تتحمل الغمر لفترات متفاوتة.

وأضاف الجندي: أن “الأراضي المنخفضة بدأت تفقد المياه تدريجيًا بفعل التبخر، وأن بعض الحقول أصبحت غير صالحة للحراثة التقليدية باستخدام الجرار، ما دفع المزارعين إلى الاعتماد على طريقة السلوكة، التي تسمح بنثر البذور عشوائيًا دون الحاجة إلى الحراثة أو السقي لمدة تصل إلى ثلاثة أشهر، مع تكاليف أقل مقارنة بالطرق التقليدية.

في الجزيرة سلانح شمال أم درمان، رغم انحسار مياه النيل إلى مجراها الطبيعي، لا تزال بعض الأراضي الزراعية محتجزة للمياه بين الجداول والتروس، مما يعرقل استئناف النشاط الزراعي، ويزيد حجم الخسائر التي تكبدها المزارعون.

جدل سد النهضة

رافق هذا الفيضان جدلاً واسعاً حول تأثيرات سد النهضة الإثيوبي على مجرى النيل الأزرق، خصوصًا بعد افتتاحه رسميًا في سبتمبر الماضي. امتد الفيضان إلى العاصمة الخرطوم، ولم تسلم المناطق الأخرى من الكارثة، شملت النيل الأبيض والنيل الأزرق وولايات سنار والشمالية، نهر النيل حيث غمرت المياه المنازل، ودمرت الأراضي الزراعية على طول مجرى النيل من المقرن وحتى المناطق الحدودية مع مصر. فيما أعلنت منظمة الهجرة الدولية، الخميس، نزوح نحو 120 أسرة من مناطق عدة في مدينة بحري شمال العاصمة جراء الفيضانات الأخيرة لنهر النيل، موضحة أن الفيضانات تسببت في تدمير عدد من المنازل كليًا وجزئيًا في مناطق الفكي هاشم والجعليين والخليلة ودرملي. وأظهرت آخر الإحصاءات الرسمية تأثر نحو 24 ألفًا و992 أسرة، بما يعادل 125 ألفًا و56 شخصًا منذ بداية موسم الأمطار حتى 25 سبتمبر، وامتدت الأضرار لتشمل ست ولايات.

أسباب الفيضان: المناخ أم السد؟

مع أن وزارة الزراعة والري الجديدة في حكومة بورتسودان لم تتحدث صراحة عن أن سد النهضة هو سبب الفيضان، واكتفت بالتلميح إلى أن ارتفاع المناسيب جاء متزامنًا مع تصريف مياه السد بعد اكتمال التخزين، ذكرت السبب الرئيس في بيانها بأن التغيرات المناخية، بما في ذلك تأخر موسم الأمطار وامتداده حتى نهاية أكتوبر، وزيادة غير مسبوقة في إيرادات النيل الأبيض وعطبرة، كانت العامل الأساسي.

الفيضانات الأخيرة في السودان مرتبطة جزئيًا بفتح بوابات سد النهضة الإثيوبي بشكل مفاجئ

مستشار سابق في وزارة الري السودانية

 ومع ذلك، حمل خبراء ووزراء مياه سابقون السد الإثيوبي القريب من خزان الرصيرص مسؤولية الأزمة.

المستشار السابق لوزير الري والموارد المائية المهندس عمر العوض، أكد أن الفيضانات الأخيرة في السودان مرتبطة جزئيًا بفتح بوابات سد النهضة الإثيوبي بشكل مفاجئ. وقال العوض لـ(عاين): إن “إثيوبيا كانت من المفترض أن تكمل تخزين مياهها خلال أغسطس وسبتمبر وأكتوبر للوصول إلى منسوب 640 مترًا بحلول 31 أكتوبر، وهو المنسوب المخصص للفيض المراقب”. لكنه أشار إلى أن الاحتفال بافتتاح السد في سبتمبر دفع السلطات الإثيوبية لتسريع ملء الخزان بشكل غير تقني، ما أدى إلى وصول المنسوب إلى 640.5 متر قبل الموعد بنصف متر، فتدفقت كميات كبيرة من المياه إلى خزان الرصيرص والمجاري التالية.

سد النهضة الأثيوبي

وأضاف العوض: أن “تصريف المياه بدأ بمعدل 150 مليون متر مكعب يوميًا، ولم تُظهر الأيام الأولى مشكلات، لكن هطول الأمطار لاحقًا رفع الوارد إلى نحو 450–500 مليون متر مكعب، ما رفع التصريف إلى حوالي 700 مليون متر مكعب. وأوضح أن تراكم المياه بعد أسبوع تسبب في ظهور مشاكل للجانب السوداني، مما استدعى التواصل مع المسؤولين الإثيوبيين لتخفيف الأضرار”، مشيرًا إلى أن بعض الخزانات مثل مروي ساعدت في تخزين جزء من المياه لتقليل التأثير في المناطق المنخفضة.

غياب التنسيق

فيضان هذا العام كان يمكن تفاديه لو تم تفعيل الآلية المشتركة لإدارة منظومة النيل، كما نص إعلان المبادئ بين السودان وإثيوبيا عام 2015 واتفاق الخرطوم 2022، وفقًا لحديث وزير الري والموارد المائية الأسبق د. عثمان التوم، مشيرًا إلى أن السد العملاق حمى السودان خلال السنتين الماضيتين من فيضانات مدمرة، لكنه أشار إلى أن الملء السريع للسد بهدف افتتاحه في 9 سبتمبر رفع منسوب البحيرة فوق الحد المتوقع بنصف متر، ما تسبب بتدفق كمية كبيرة من المياه دفعة واحدة إلى خزان الرصيرص ومجاري النهر وصولًا إلى الخرطوم وشمال البلاد.

وأشار التوم في مقابلة مع (عاين)، إلى أن الفيضان جاء في توقيت غير معتاد، إذ لم يشهد التاريخ فيضانًا في نهاية سبتمبر وبداية أكتوبر، وهو الوقت الذي يبدأ فيه المزارعون بزراعة المحاصيل الشتوية، ما زاد حجم الخسائر. وأضاف: أن “الوارد اليومي وصل حينها إلى 750 مليون متر مكعب”، مشيرًا إلى أن تخفيف السحب من البحيرة إلى 100–200 مليون متر مكعب يوميًا يمكن أن يخفف الضغط تدريجيًا، بحيث يشعر سكان الخرطوم بانخفاض مستويات الفيضان خلال خمسة أيام. كما شدد على أن تفعيل الآلية المشتركة بصلاحيات حاكمة وإمكانات عملية كان سيتيح إدارة ملء السد تدريجيًا، مع تخزين جزء من المياه وإطلاق البقية دون تجاوز حد الفيضان، ما يحمي الأراضي والمزارعين.

القاهرة وأديس أبابا على الخط

على الصعيد الإقليمي أصدرت وزارة الري المصرية بيانًا اتهمت فيه سد النهضة بأنه سبب وراء الفيضانات الحالية في السودان. إلا أن أديس أبابا أكدت أن السد أدى دورًا في الحد من الفيضانات، مشيرة إلى أن سبب الفيضانات يعود إلى زيادة تدفق مياه النيل الأبيض وليس السد، وانتقدت ما سمتها “النبرة الوصائية المصرية وافتراضها حق التحدث باسم جيرانها”، معتبرة أن مزاعم القاهرة تتناقض مع تصريحات السلطات السودانية نفسها.

أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *