ورق الشجر.. طعام من تهددهم المجاعة بجنوب كردفان
عاين – 2 يونيو 2024
مع بذوغ شمس كل صباح، تُرسل زينب إدريس وهي نازحة مقيمة في إحدى المدارس بمدينة الدلنج في ولاية جنوب كردفان أطفالها، إلى غابة مجاورة لجلب ورق أشجار التبلدي واللالوب، ونبات الكول، بغرض إعداد وجبة لسد الرمق وإسناد البطون التي تمضي ليلتها خاوية، فلم يعد أمامها خيار آخر للحصول على الطعام.
نزحت زينب إلى الدلنج بعد أن اجتاحت قوات الدعم السريع بلدتها هبيلا في يناير الماضي، وتركت كل ما تملك خلفها بما في ذلك الماشية، ومحصولاتها الزراعية التي تمكنت من حصدها، فهي كانت تعتمد بشكل رئيسي على الزراعة والرعي في كسب المعاش، بينما وجدت نفسها في مركز إيواء تنعدم فيه أبسط مقومات الحياة، في ظل غياب تام للتدخلات الإنسانية باستثناء بعض الجهود من السكان المحليين.
الوضع نفسه ينسحب على نحو 69 ألف نازح يقيم بعضهم في مراكز إيواء في مدينتي كادوقلي والدلنج، وفق حصيلة صادرة عن مفوضية العون الإنساني في ولاية جنوب كردفان، وفي هذه الأيام يواجهون شتى ضروب المعاناة نتيجة لنقص الطعام ومياه الشرب، إلى جانب تدهور واسع في الأوضاع الصحية من شح الأدوية ورداءة المشافي.
وقع قاسي لم يقتصر على النازحين فحسب، بينما يطرق شبح الجوع أبواب السكان جميعهم في ولاية جنوب كردفان التي تعيش تحت وطأة حرب ضارية على ثلاث جبهات يقودها الجيش مع قوات الدعم السريع من جهة، والحركة الشعبية – شمال بقيادة عبد العزيز الحلو من ناحية أخرى، وهي وضعية صعبة جعلت المدنيين تحت حصار شديد، وقاتل.
وفاة 19 طفلاً على الأقل في مدينة كادوقلي خلال شهري مايو ويونيو، بسبب سوء التغذية والإسهالات المائية.
مصادر لـ(عاين)
وتوفي 19 طفلاً على الأقل في مدينة كادوقلي خلال شهري مايو ويونيو، بسبب سوء التغذية والإسهالات المائية، وفق ما كشفته مصادر ذات صلة لـ(عاين)، وسط مخاوف من تزايد تدهور الوضع الصحي في المنطقة مع حلول فصل الخريف الذي يتوقع أن يأتي بوبائيات جديدة في ظل نقص الأدوية وتدهور المرافق الطبية.
أسعار تتضاعف
خلال ثلاثة أشهر ماضية، ارتفعت أسعار السلع الغذائية إلى ما يقارب الـ4 أضعاف في معظم أنحاء ولاية جنوب كردفان، بما في ذلك الذرة وهي المكون الرئيسي لوجبات السكان في المنطقة، إذ قفز سعر جوال الذرة إلى 240 ألف جنيه، ووصل سعر كيلو السكر إلى 5 آلاف جنيه، ملوة البصل إلى 10 آلاف جنيه، وارتفع سعر ملوة اللوبيا إلى 12 ألف جنيه، وجالون البنزين إلى 35 ألف جنيه، وذلك بحسب تاجران من مدينتي الدلنج وكادوقلي تحدثا لـ(عاين).
وإلى جانب الغلاء بدأت ملامح ندرة في بعض السلع، وذلك نتيجة لانعدام المسارات وفرض قيود واسعة من جانب أطراف الصراع على حركة البضائع التي كانت تصل إلى ولاية جنوب كردفان من مناطق مجاورة مثل سوق النعام على الحدود مع دولة جنوب السودان، ومنطقة أم جمينا في ولاية غرب كردفان.
وتكشف مصادر لـ(عاين) أن الجيش سيطر على منطقتي قولي وبرنو على الطريق الرابط بين كادوقلي وسوق النعام، وأصبح يعيق حركة وصول البضائع والسلع الغذائية من هناك إلى كادوقلي من خلال فرض إجراءات أمنية مشددة، ويشترط الحصول المسبق على تصريح من قيادة الفرقة 14 مشاة لكل من يرغب في نقل بضاعة.
ومع ذلك يجري الجيش عمليات تفتيش بشكل متعسف على سيارات نقل السلع، كما صادر العديد من الشحنات، الشيء الذي دفع التجار إلى الامتناع من جلب البضائع من سوق النعام؛ لأن ذلك يعرضهم إلى خسائر فادحة، الأمر الذي خلف ندرة وغلاء في المواد الغذائية في مدينة كادوقلي عاصمة ولاية جنوب كردفان، وفق المصادر.
وتجأر زينب إدريس التي تحدثت لـ(عاين) من مخيمها في مدينة الدلنج، بالشكوى من واقعها المعيشي الذي يتدهور في كل يوم، بينما لا تستطيع العودة إلى بلدتها هبيلا واستئناف حياتها الطبيعة والزراعة خلال فصل الخريف الذي بدأ بالفعل، وذلك لأن الاضطرابات الأمنية ما تزال مستمرة، والمنطقة مستباحة بشكل تام عن طريق المسلحين.
“نحن متعبون، ولا نستطيع شراء الغذاء لأننا بلا نعمل، يذهب أولادي إلى الغابات، ويأتون بصفق التبلدي الذي نخلطه مع دكوة الفول السوداني وأكله، بجانب أوراق نبات الكول، واللالوب”.
نازحة من الدلنج
وتقول “نحن متعبون، فلا نستطيع شراء المنتجات الغذائية من السوق نسبة لارتفاع أسعارها، فليس لنا مال؛ لأننا لا نعمل. يذهب أولادي إلى الغابات، ويأتون بصفق التبلدي، والذي نخلطه مع دكوة الفول السوداني وبالتالي أكله، بجانب أوراق نبات الكول، واللالوب، فجميعها أصبحت غذاء لنا والعديد من النازحين معنا في مركز الإيواء”.
واقع صادم
كان ناشطون في ولاية جنوب كردفان تداولوا على نطاق واسع، مقطع مصور يوثق إلى سيدة نازحة في أحد مراكز الإيواء في مدينة الدلنج، وهي تجمع صفق شجر اللالوب والتبلدي توطئة لأكله، بعد أن فشلت في الحصول على طعام غيره، مما أثار تعاطفاً كبيراً ودعوات لإنقاذ ضحايا الحرب في المنطقة.
الوضع الإنساني المتدهور في ولاية جنوب كردفان يتوقع تفاقمه بسبب الفشل الحتمي للموسم الزراعي الصيفي، حيث يتعمد غالبية سكان المنطقة على الزراعة في كسب معاشهم، فبلدة هبيلا التي تمثل مركزاً للزراعة، وتضم كبرى المشاريع تشهد تردياً أمنياً كبيراً، وهي لا تخضع لسيطرة أي طرف في الوقت الحاضر، لكن صارت مستباحة للمسلحين الذين يهاجمونها بالدراجات النارية بغرض النهب، كما نزح معظم سكانها إلى الدلنج، وفق ما نقلته مصادر لـ(عاين).
وبحسب مصادر محلية، فإن بعض سكان الدلنج والنازحين حاولوا الخروج إلى أراضيهم وزراعتها مع بدء هطول الأمطار، لكن مسلحين مجهولين قتلوا رجلاً وزجته وهم في طريقهم إلى زرعهم خلال شهر يونيو، كما اُعْتُقِل عدد من المزارعين وتعريضهم إلى تعذيب شديد، الأمر الذي دفع مواطنين آخرين كانوا ينون الزراعة، إلى تعديل رأيهم من ثم الاستسلام والبقاء داخل مدينة الدلنج.
ويروي إدريس سليمان النازح في أحد مخيمات الدلنج لـ(عاين) أنهم لا يحصلون ولا على وجبة واحدة بالمعنى خلال اليوم، فهم يعتمدون فقط على أشياء تخفف الجوع، لكنها غير مشبعة، مثل قليل من الفول السوداني “المدمس” والتسالي، وصفق التبلدي، ونبات الموليتا والكول، أيضاً يأكلون “الأمباز” وهو بقايا الفول والسمسم بعد عصرهما في المعاصر استخراج الزيوت، وفي السابق يستخدم كغذاء للأغنام والأبقار.
وصل إدريس إلى هذا المخيم من منطقة هبيلا، وفي الطريق نهبت قوات الدعم السريع كل ما يحمله بما في ذلك عربة كارو كان يستغلها في الوصول، ومبالغ مالية وبعض المقتنيات، “لقد أخذوا كل ما بحوزتنا تحت تهديد السلاح. سكنا في هذه المدرسة، ولم نحصل على أي اهتمام، سوى أصحاب المبادرات الطوعية من الشباب يقدمون لنا طعاماً قليلاً”.
وتابع: “الوضع سيئ، ونحن نعاني كثيراً في الحصول على الطعام، كما ظهرت بعض الأمراض مثل الحصبة وسط الأطفال، لقد حضر بعض المتطوعين، وحصروا المرضى في المركز بغرض علاجهم، لكنهم لم يأتوا مجدداً، ولم نجد الأدوية. إننا بحاجة إلى المساعدة، نناشد المنظمات الإنسانية للتدخل من أجل إنقاذ حياتنا”.
حصار الدلنج
وإلى جانب إدريس، يشكو ليمون صالح، المأساة نفسها، بينما يحاصر شبح الجوع أطفاله الذين استطاع النجاة بهم من المعارك الضارية التي شهدتها منطقة هبيلا في يناير الماضي.
يقول صالح الذي تحدث لـ(عاين) “كنت اعمل في الأسواق كبائع خضار، ولدي أرض ازرعها خلال فصل الخريف، ولكن الآن صرت عاطلا في هذا المركز واشعر بحزن شديد على عجزي عن مقابلة احتياجات أطفالي بما في ذلك الأكل والشرب”.
ويواجه السكان جميعهم في الدلنج بما في ذلك النازحين مآسي مضاعفة، فهم بحسب مجاهد إنديا – وهو متطوع في المنطقة، فإنهم يعيشون تحت وضع أشبه بالحصار، إذ توجد قوات الدعم السريع شمال الدلنج، وتسيطر على الطريق المؤدي إلى الأبيض، وتفرض قيود على حركة المواطنين والسلع، ومن الجنوب الحركة الشعبية – شمال طريق الدلنج – أم جمينا، والدلنج – كادوقلي، بينما يتمركز الجيش في قاعدته شرق المدينة.
ويقول إنديا في مقابلة مع (عاين) إن “المعاناة كبيرة للغاية، فهناك عدد كبير من النازحين وصلوا المدينة من هبيلا والقرى المحيطة بها، وآخرين أتوا العام الماضي من منطقة لقاوة بولاية غرب كردفان العام الماضي، وليس هناك أي مساعدات تصل من المنظمات الإنسانية، فقط يعتمدون على دعم محدود من المقتدرين وأبناء المنطقة في الخارج”.
ويضيف “كانت الدلنج تعتمد على سوق في منطقة أم جمينا في ولاية غرب كردفان للحصول على المواد الغذائية والوقود، لكن أغلق هذا السوق منذ حوالي شهر وحتى الآن، ولا نعرف الأسباب، الشيء الذي أدى إلى ندرة في بعض السلع الغذائية، كما ارتفعت الأسعار بشكل مجنون، وأصبحت في غير المتناول، مما اضطر بعض النازحين إلى أكل صفق الأشجار”.
وفي مايو الماضي، فشلت محادثات بين الجيش والحركة الشعبية قيادة عبد العزيز الحلو في العاصمة جوبا، وتبادل الطرفان وقتها الاتهامات بشأن المتسبب في انهيار المفاوضات التي كانت تحت بند إيصال المساعدات الإنسانية إلى ولاية جنوب كردفان.
إغلاق المسارات
ولم يختلف الوضع كثيرا في كادوقلي حيث يعيش السكان مآسي مماثلة، فهناك غلاء طاحن في أسعار مجمل السلع الاستهلاكية في ظل توقف كامل لمصالح المواطنين، وأغلقت مصادر الكسب المالي، ويقابل ذلك تضييق أمني كبير تفرضه الحكومة التي يقودها الجيش على المدنيين، وتقييد لحركة دخول البضائع، وفق ما نقله متطوع في غرف الطوارئ لـ(عاين).
ويقول المتطوع الذي طلب عدم ذكر اسمه “يواجه النازحون الذين يقيمون في 8 مدارس ومؤسسات حكومية في كادوقلي أوضاع مأساوية، فهم بلا غذاء، وليس لهم إيواء لازم وناموسيات في ظل انتشار كثيف للبعوض في فصل الخريف، وهناك وفيات وسط الأطفال بسبب سوء التغذية، بينما تشرد العديد منهم، وصاروا تائهين في الأسواق والأحياء السكنية بحثاً عن الطعام”.
“لن تكون هناك زراعة في كل ولاية جنوب كردفان هذا الموسم، نظرا لتوسع رقعة الاضطرابات وضيق المساحات الآمنة”.
متطوع
ويضيف: “لن تكون هناك زراعة في كل ولاية جنوب كردفان هذا الموسم، نظرا لتوسع رقعة الاضطرابات وضيق المساحات الآمنة وهي وسط مدينتي كادوقلي والدلنج، وقد اضطر سكان المناطق المحيط بكادوقلي مثل الكويك، وبرنو، وكيقا، التي شهدت مواجهات مسلحة مؤخراً إلى النزوح للمدينة، وهم يعانون بشدة حالياً”.
وتشهد كادوقلي أيضاً شح كبيراً في السيولة النقدية “الكاش” وأصبحت التعاملات تعتمد على التطبيق المصرفي “بنكك” والذي يواجه بدوره صعوبات بسبب ضعف شبكات الإنترنت، كما يضع التجار عمولة عالية على استبدال المبالغ المصرفية بالكاش تصل 10 بالمئة، كما يضعون أسعاراً عالية للسلع يفوق قيمتها الفعلية عندما يريد الزبون الدفع عبر “بنكك”.