عُملة مزيفة.. سلاح آخر للدعم السريع يلتهم أموال عالقي حرب الخرطوم

عاين- 29 مايو 2024

صُدم محمد علي، أحد العالقين في مناطق الحرب جنوبي العاصمة الخرطوم الواقعة تحت سيطرة الدعم السريع، بعد عملية استبداله لأموال تلقاها من أحد اقاربه عن طريق التطبيق المصرفي “بنكك”، ليكتشف أن عدد من الأوراق النقدية مزيفة وغير مبرئة للذمة.  

لم يكن بمقدور “علي” إعادة الأموال لصاحب المتجر الذي اتم معه عملية الإستبدال في السوق المجاور ، نتيجة تعقيدات أمنية واسعة وغياب الجهات العدلية التي يمكنها إنصافه.

كانت صدمة كبيرة لمحمد وهو (اسم مستعار بناء على طلبه) بسبب تبدد هذه الأموال التي وصلته بعد طول انتظار، وكان حلمه أن تسهم في حل بعض مشكلاته، والتمكن من مواجهة احتياجاته المعيشية وتوفير الغذاء لبضعة أيام قادمة.

ووجد السكان العالقون في مناطق الحرب جنوب وشرق العاصمة الخرطوم وهي بقاع تسيطر عليها ميدانياً قوات الدعم السريع، أنفسهم أمام شبح العملات المزيفة التي تلتهم المبالغ الشحيحة التي تصلهم من معارفهم وأقاربهم عبر التطبيقات المصرفية، لمساعدتهم على مواجهة تكاليف الحياة، فليس لهم أي مصدر دخل بخلافها.

انتشار كثيف للعملات المزيفة في مناطق سيطرة الدعم السريع بالعاصمة لاسيما في الأورق النقدية ذات الفئات الكبيرة.

وانتشرت العملات المزيفة بشكل لافت في تلك المناطق، وصار الجميع من أصحاب المحال التجارية، والمواطنين يتعاملون بحذر مع الأوراق النقدية خاصة الفئات الكبيرة، مثل ورقتي الألف والخمسمائة جنيه التي تكثر فيها حالات التزييف، ومع ذلك فإن الناس يقعون ضحايا لتعاملات فيها عملات مزورة.

مصادر التزييف

يكشف شاهد لـ(عاين) أنه استمع لأحاديث مسلحين من قوات الدعم السريع، وهم يفتخرون بتمكنهم من إدخال كميات كبيرة من العملات المزيفة من إقليم دارفور غربي البلاد إلى مناطق سيطرتهم في العاصمة الخرطوم، مع تأكيدهم على أن عمليات الضخ ستظل مستمرة نحو الأسواق الكبرى، مثل سوقي مايو والكلاكلة جنوبي الخرطوم، وسوق 6 بضاحية الحاج يوسف بشرق النيل.

ويتزامن ذلك مع تقارير متواترة بتأسيس مسلحي الدعم السريع مراكز متخصصة لتزييف العملات في مناطق سيطرتهم جنوب الخرطوم، وواحد في شرق النيل، وتوزيعها على الأسواق التي تقطع في نطاق سيطرتهم، كسوق ليبيا وقندرهار ومايو والكلاكلة، كما تُنْقَل إلى إقليمي كردفان ودارفور، ويتركز التزييف على فئات الألف والخمسمائة والمائتين جنيه سوداني.

عُملة مزيفة.. سلاح آخر للدعم السريع يلتهم أموال عالقي حرب الخرطوم
ورقة نقدية جرى تداولها جنوب الخرطوم مايو 2024، وهي لا تحمل رقم متسلسل – عاين

 وبحسب شاهد من جنوب الخرطوم، فإن التجار يخشون التعامل بالفئات الكبيرة، ويرفضونها في كثير من الأحيان حتى ولو كانت سليمة وقانونية، ويفضلون إجراء المعاملات كلها عبر فئتي المائة والمائتين جنيه لكونها الأقل عرضة للتزييف. وتكثر العملات المزيفة في سوق مايو على وجه الدقة نسبة لاستخدام النقد دون التطبيقات المصرفية نسبة لانقطاع خدمتي الاتصالات والإنترنت، مما يزيد حجم الضحايا.

ويوري محمد علي بحزن لـ(عاين) قصة وقوعه ضحية لعملات سودانية مزورة، التهمت نصف الأموال التي وصلته من أحد أقاربه، حيث تسلم عبر تطبيق بنكك مبلغ 300 ألف جنيه، وعندما ذهب لاستبدالها، أبلغه صاحب المتجر أنه يريد 230 ألفاً فقط نسبة لشح الكاش، مع خصم عمولة تقدر بـ15 بالمئة من إجمالي المبلغ، وعندما تسلم الكاش لم يكن بمقدوره مراجعته أو فحصه، فوصل إلى منزله، واكتشف أن من بين الأورق 50 ألفا مزيفة وغير مبرئة للذمة.

ويقول: “لا نستطيع العودة إلى صاحب المتجر الذي سوف يرفض، فهو مسلح يتبع لقوات الدعم السريع، فلن نستطيع مقارعته، أو ربما نتعرض للاعتقال أو الاعتداء في الطريق بدافع النهب المسلح. لقد خسرت 40 بالمئة من المبلغ المرسل إلي، بطريقة احتيالية وجبرية، وكان من الممكن أن تعالج العديد من مشكلاتي، وتعييني على توفير احتياجاتي المعيشية لأيام أو ربما أشهر قادمة”.

وأفاد محمد علي أنه يمكن التعرف على الأوراق النقدية المزيفة من خلال ملمسها الناعم ورداءة الورق المطبوعة عليه وعدم ثبات الأحبار المستخدمة في الطباعة، فهي عرضة للتبقع وتغيب ملامحها عند تعرضها للتبلل، كما أن بعضها يخلو من الأرقام المتسلسلة (النمر)، وأخرى صغيرة الحجم أو غير مستقيمة القطع.

خيارات معدومة

ورغم ذلك يقع سكان جنوب الخرطوم ضحايا لعملات مزيفة، لأن المنطقة تشهد أزمة في السيولة النقدية في الأساس، ولا توجد مساحة لمقارعة تجار النقد الذين يضعون عمولات ربوية طائلة تصل 20 بالمئة من قيمة مبلغ بنكك المراد استبداله، فليس من خيار أمام المواطنين غير استلام الكاش، والاستفادة من السليم ورمي المزيف، وفق محمد علي.

عُملة مزيفة.. سلاح آخر للدعم السريع يلتهم أموال عالقي حرب الخرطوم
اوراق نقدية فئة 500 جنيه جرى تداولها جنوب الخرطوم مايو 2024، وهي تحمل ارقام متسلسلة متظابقة – عاين

ويضيف: “ما زلت أحتفظ بمبلغ 50 ألف جنيه، من فئة الخمسمائة جنيه مزيفة، ولا نريد توزيعه في السوق تجنباً للإضرار بغيري وبالاقتصاد”، ويشدد على أن هناك حاجة عاجلة لتوضيح من بنك السودان المركزي بشأن ميزات الأوراق المبرئة للذمة، فهناك جدل كبير بين التجار والعملاء، حول أوراق نقدية تحمل أرقاماً متسلسلة وعلامات مائية، ولكن الجميع يرفضها، لأنها صغيرة الحجم وأحبارها غير ثابتة.

وسيطر مسلحو قوات الدعم السريع على الأسواق في جنوب الخرطوم وشرق النيل، وفتحوا المتاجر التي هجرها أصحابها، وأصبحوا يعملون لحسابهم الخاص، ويمارسون شتى أنواع الإكراه على المواطنين للاستحواذ على مواردهم الشحيحة، بمنحهم عملات مزيفة، واستقطاع عمولات طائلة من استبدال أموال بنكك بالكاش الذي يحتكرونه كذلك، وفق شهود (عاين).

شهود من الخرطوم: منسوبو الدعم السريع يتباهون بانتاج عملات مزيفة على 3 مستويات، وبيعها لمتعهدين يتولون توزيعها، حيث يبيعون مبلغ مليون جنيه مزور، بمبلغ 400 ألف جنيه.

وبحسب شهود من الخرطوم، فإن منسوبي قوات الدعم السريع يتباهون بأن ينتجوا عملات مزيفة على 3 مستويات، وبيعها لمتعهدين يتولون توزيعها، حيث يبيعون مبلغ مليون جنيه مزور، بمبلغ 400 ألف جنيه.

ويروي شاهد لـ(عاين) واقعة حزينة حدثت جنوب الخرطوم، حيث دفع جميع ركاب حافلة مواصلات صغيرة “هايس” قيمة تذاكرهم بأوراق نقدية مزورة وهم لا يعلمون بذلك، باستثناء اثنين فقط كانت أوراقهم النقدية سليمة، فأعادها لهم “المحصل”، وهو ما يعكس حجم العملات المزورة في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع.

ويقول آدم أحمد (اسم مستعار)، وهو مواطن من جنوب الخرطوم لـ(عاين): إن “العملات المزيفة منتشرة بصورة كبيرة في منطقته، وأنه على المستوى الشخصي يجد 2 – 3 آلاف جنيه مزيفة وسط المبالغ النقدية التي تصله عبر تطبيق بنكك المصرفي شهرياً، لكنه يستطيع استبدالها بأخرى سليمة نتيجة معرفته الطويلة بالتاجر الذي يبيع إليه، كما ظل يشهد عمليات فرز باستمرار في السوق للعملات المزورة عند المبايعات”.

حالات نادرة

ونتيجة لانتشار العملات التي تعتبر مزورة أصبح التجار في غاية الحرص على فحص الأموال التي تسلم لهم في أية معاملة، حتى صار إرجاع بعض النقود وعدم اعتمادها، وطلب تبديلها بأخرى أمراً مألوفاً لمرتادي الأسواق. وتضجرت المواطنة (ف . ع) لإرجاع مبلغ مالي لها عندما أرادت شراء سلع تموينية من إحدى أسواق جنوب الخرطوم، مما كلفها استبدال المبلغ.

ويروي شاهد آخر أنه رأى مبلغ 20 ألف جنيه من فئة الورقة النقدية 200 جنيه بطرف أحد المواطنين، تحمل رقم متسلسل واحد، وفي مناسبة أخرى تكون الفئات النقدية بدون أي أرقام متسلسلة. وفي حالة نادرة وصلت إلى يد مواطن في جنوب الخرطوم ورقة نقدية من فئة الـ1000، فيها 4 أصفار، وفق الشاهد نفسه.

تاجر جنوب الخرطوم: العملات المزيفة تُوَزَّع عبر أصحاب محال جهاز الإنترنت الفضائي “استار لنك” الذين يتبعون للدعم السريع، ويحتكرون السيولة النقدية.

وقال تاجر في إحدى الأسواق في جنوب الخرطوم، أن العملات المزيفة تُوَزَّع عبر أصحاب محال جهاز الإنترنت الفضائي “استار لنك” فهم يتبعون لقوات الدعم السريع، ويحتكرون السيولة النقدية واستبدالها للمواطنين برصيد التطبيق المصرفي بنكك نظير عمولات طائلة، ومع ذلك يمنحونهم أموالا مزيفة، الأمر الذي فاقم معاناة المدنيين العالقين وسط نيران الحرب.

وأضاف أنه منذ ظهور الأموال المزورة أصبح أكثر حرصاً على فحص الأموال التي تصله في محله التجاري، وأنه ظل يستبعد بشكل روتيني الأموال المزورة في كثير من التعامل خلال عمله اليومي.

ويرى الخبير الاقتصادي د. محمد الناير أنه يستوجب على بنك السودان المصرفي إعلان فئتي الـ1000 والـ500 جنيه، كأوراق نقدية غير مبرئة للذمة وحظر تداولها في المعاملات التجارية، وأن يتم قبولها فقط لدى المصارف؛ لأن موظفي المصارف يملكون الخبرة الكافية والآليات الخاصة بكشف التزوير.

خبير اقتصاي: التزييف بهذا الحجم له آثار اقتصادية كارثية، ويزيد تدهور قيمة العملة الوطنية الجنيه، والواجب حظر تداول الفئات الكبيرة.

ويقول الناير في مقابلة مع (عاين) إن “التزييف بهذا الحجم له آثار اقتصادية كارثية، ويزيد تدهور قيمة العملة الوطنية الجنيه، فمن الواجب حظر تداول الفئات الكبيرة وهي الأكثر عرضة للتزوير كعلاج وقتي لهذه الأزمة، لأن تغيير العملة أمر غير ممكن في الوقت الراهن، وربما يتم بعد توقف الحرب، ليكون حل جذرياً للأزمة”.

ووفق تقديره، فإن مثل هذا القرار سيمكن كذلك من إعادة الكتلة النقدية للنظام المصرفي، وتشجع التداول الإلكتروني للعملات، مما يحقق ما يعرف بالشمول المالي، وقد كان قرار بنك السودان المركزي الأخير، والذي قضى بتحجيم السحب النقدي، وتوسيع التحويل عبر التطبيقات، يصب في هذا الاتجاه.