(69) طبيباً لـ(3) ملايين شخص.. حقائق صحية صادمة بدارفور

4 نوفمبر 2020

سافرت حليمة عمر 42 عاماً إلى مدينة نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور، والتي تبعد عن بلدتها عدة كيلومترات لعلاج طفلتها التي تعاني من آلام في المعدة عجز الأطباء في مركز صحي متواضع في قريتها عن علاجها. لكن لسوء حظها أن الأطباء في مستشفى نيالا كانوا في إضراب، بسبب اعتداء فرد من الأجهزة الأمنية على طبيب بعد وفاة ابنه أثناء علاجه بقسم الأطفال في المستشفى.

تقول حليمة، إنها تعمل بالزراعة وهي مصدر رزقها الأساسي، لكنها توقفت عن العمل فيها هذا العام  للاهتمام بصحة ابنتها البالغة نحو 5 أعوام. وقالت إنها ربما تضطر لبيع أغنامها التي تمثل أيضاً مصدراً مهماً لها، وذلك من أجل تأمين نفقات علاج ابنتها بأحد المستشفيات الخاصة التي تعالج بمبالغ باهظة.

ولم تكن حليمة وحدها من أعياها البحث عن الأطباء والعلاج في الولاية. العشرات من المرافقين للمرضى يفترشون الأرض طوال أيام الشهر الماضي في انتظار الأطباء بمستشفى نيالا، الذي يشكو مثل غيره من المستشفيات والمراكز الصحية بالولاية، من نقص في الأطباء حتى قبل الإضراب الاحتجاجي للاطباء. وتعاني أغلب ولايات السودان من وضع صحي متدن للغاية، حيث تواجه نقصاً في الأطباء والأدوية والمعدات الطبية حتى في ظل انتشار فيروس كورونا بالسودان. لكن ولاية جنوب دارفور، التي تضم مئات الآلاف من النازحين الذين شردتهم الحروب في دارفور، تواجه  وضعاً صحياً قد يكون الأسوأ في السودان، حيث تفتقر لأبسط مقومات العلاح والخدمات الصحية. 

إحصائيات صادمة

بحسب إحصائية رسمية، فإن الأطباء المعينين من قبل وزارة الصحة للولاية 69 طبيباً، من ضمنهم 8 أسنان و31 اختصاصياً و13 صيدلياً لكل سكان الولاية، البالغ عددهم أكثر من 3 ملايين و500 ألف شخص في 21 محلية. وتخلو محليات بالولاية تقطنها عشرات الآلاف من طبيب حكومي واحد. ويقول الدكتور عمار أحمد، عضو لجنة الأطباء المركزية بالولاية، إن عدد الأطباء في الولاية بصورة   عامة قليل جداً، مقارنة بعدد السكان، مشيراً إلى أنه بحسب إحصائية قامت بها اللجنة، أن عدد الأطباء في كامل الولاية بلغ 254 طبيباً.وأشار إلى أن بيئة العمل في ولاية جنوب أصبحت طاردة جداً للأطباء، حيث تخلو المستشفيات من الأدوية ومن استراحات الأطباء.

كما نوه بأن المرتبات ضعيفة جداً، مشيراً إلى أن طبيب درجة ثامنة يحصل على راتب 12 ألف جنيه سوداني (حوالى 50 دولاراً بسعر السوق الموازي)، في حين أن نفس الطبيب يحصل على أكثر من 1.500 دولار إذا ذهب للعمل في دول الخليج. ويقول مدير الطب الوقائي بوزارة الصحة في ولاية جنوب دارفور، إن النقص في الكوادر الطبية يمثل خطورة كبيرة، وتابع: “إذا لم يكن لديك كادر طبي يراقب الوضع الصحي، هذا يعني نقصاً في المعلومة، حيث لا يمكن تقييم الوضع حتى يتسنى للولاية التدخل  في الوقت المناسب”.

(69) طبيباً لـ(3) ملايين شخص.. حقائق صحية صادمة بدارفور
بحسب الإحصائيات الرسمية، أن بالولاية 212 مركزاً صحياً، من ضمنها 21 مستشفى، لكن لا توجد عربة إسعاف حكومي لإسعاف المرضى من منازلهم أو أماكنهم حتى في وقت انتشار فيروس كورونا

سيارات إسعاف معطلة

 بحسب الإحصائيات الرسمية، أن بالولاية 212 مركزاً صحياً، من ضمنها 21 مستشفى، لكن لا توجد عربة إسعاف حكومي لإسعاف المرضى من منازلهم أو أماكنهم حتى في وقت انتشار فيروس كورونا، باستثناء عربة مستشفى الشرطة بنيالا، التي تستخدم من أجل منسوبيها. 

ويقول أحمد آدم، أحد سكان المدينة لـ(عاين): “إذا أُصيب المواطن العادي بحالة حرجة واحتاج لإسعاف، سيكون صعباً إيجاد عربة إسعاف في الوقت المناسب، ربما يموت المريض في طريق نقله إلى المستشفى، خاصة إذا لم يكن لديه أموال كافية لإيجار إسعاف من المستشفيات والمراكز الطبية الخاصة”.

وأضاف: “حتى عربات الإسعاف التي تملكها بعض المستشفيات والمراكز الطبية الخاصة غير مكتملة، وهي مجرد عربة صغيرة بها أنبوب أوكسجين ومعدات قليلة”. وتابع: “هنا الخدمات الطبية تكاد تكون معدومة والناس يموتون بسبب نقص وانعدام الخدمات الطبية”. عند دخولنا إلى مستشفى نيالا التعليمي وهو أكبر المستشفيات في المدينة، وجدنا أعداداً كبيرة من عربات الإسعاف، يبدو أنه بحالة جيدة، لكنه لأسباب ما خارج الخدمة. وظللنا لمدة أسبوع نتردد على مستشفى نيالا التعليمي من أجل مقابلة المسؤولين به، غير أن بعضهم رفض التحدث، بينما تعذر آخرون بأنهم قدموا استقالاتهم.

تشير الإحصائيات إلى أن حالات كورونا المكتشفة بالولاية 39 حالة، منها خمس حالات وفاة في الوقت الذي وصلت جملة الحالات المكتشفة في كل ولايات السودان 31.805 حالة، منها 837 حالة وفاة وحالة 6764 تعافٍ حتى 30 أكتوبر 2020 المنصرم.

أكثر الأمراض انتشاراً في الولاية

بحسب إحصائية للوضع الصحي بالولاية، اطلعت عليها “عاين”، أن أكثر الأمراض انتشاراً هي: الإسهالات والالتهابات المائية والكبد الوبائي والملاريا وأمراض المسالك البولية والتهابات الرئة وأمراض سوء التغذية. وبحسب الإحصائية فإن أكثر من 30 ألفاً أُصيبوا بأمراض الإسهالات والالتهابات المائية خلال ثلاثة شهور فقط، فضلاً عن أكثر من 8 آلاف إصابة بالالتهابات الرئوية من كل الأعمار.

غرفة عناية مركزة متوقفة

أحد الأشياء التي تقاس بها جودة الخدمات الطبية، هو مدى توفر أسِرّة غرف عناية مركزة، بالولاية نحو 20 سرير غرفة عناية مركزة. وبحسب أطباء فإن غرفة العناية المركزة بمستشفى نيالا كانت متوقفة لأكثر من 7 شهور، قبل أن تتم إعادة صيانتها وإعادتها إلى الخدمة قبل شهرين بعدد 10 أسِرَّة.

ويقول الدكتور عمار: “الولاية تعاني كثيراً من الوضع الصحي المتردي، وواضح جداً أن الحكومة لا تملك خطة واضحة للقطاع الصحي طوال الفترة الماضية، فالنظام الصحي أصلاً منهار ويواجه مشاكل كثيرة على رأسها الصرف الصحي”. وأضاف: “الأطباء واجهوا صعوبات كبيرة مع جائحة كورونا، ولولا رغبة الأطباء لكانت المستشفيات قد توقفت لأسابيع”.

(69) طبيباً لـ(3) ملايين شخص.. حقائق صحية صادمة بدارفور

شكاوى المرضى

ويشكو المواطنون بالولاية من عدم قدرتهم على العلاج من الأمراض المتوطنة في المنطقة، وذلك بسبب نقص الأدوية وسوء الخدمات الطبية. وتقول عائشة علي، مرافقة لابنتها بمستشفى نيالا: “دعك من فيروس كورونا, نحن نجد صعوبة حتى في العلاج من الملاريا”. وأشارت إلى أن ابنتها مكثت 8 أيام بمستشفى نيالا، بعد تدهور حالتها من الملاريا العادية إلى الملاريا الدماغية، وكانت في حاجة لدربات لكنها لم تحصل عليها إلا بعد ثلاثة أيام من البحث المضني.

وتضيف لـ(عاين)، أن الكثير من السكان غير قادرين على تحمل الأدوية ناهيك عن العمليات الكبيرة والأمراض الأخرى. وتابعت: “لو ما عندك قروش كافية لشراء  الدواء، ممكن تموت عادي”.

مواجهة كورونا

تشير الإحصائيات إلى أن حالات كورونا المكتشفة بالولاية 39 حالة، منها خمس حالات وفاة في الوقت الذي وصلت جملة الحالات المكتشفة في كل ولايات السودان 31.805 حالة، منها 837 حالة وفاة وحالة 6764 تعافٍ حتى 30 أكتوبر 2020 المنصرم.

لم يكن في وسع ولاية جنوب دارفور ذات النظام الصحي الفقير في بداية كورونا، إلا الاستعانة بالجهود والمبادرات المجتمعية، بسبب عدم وجود ميزانية كافية، فضلاً عن انعدام أجهزة طبية مهمة. لا يوجد في الولاية حتى جهاز تنفس صناعي واحد أو جهاز كشف حراري، حتى قبل أيام من اكتشاف حالة كورونا في الولاية قبل أن يتم دعمهم بجهازين للتنفس الصناعي من قبل وزارة الصحة الاتحادية وبعض المنظمات، وذلك لاستخدامها في مواجهة كورونا. كما أن مستشفيات الولاية انهارت تماماً، وأغلقت أبوابها لأسابيع في خضم موجة كورونا، بسبب عدم وجود وسائل حماية للأطباء.

ويقول مدير الطب الوقائي بوزارة الصحة الدكتور مزمل آدم، لـ(عاين)، : “ضمن تأثيرات كورونا على المؤسسات الصحية بالولاية، أن بعض المؤسسات كانت متوقفة عن العمل لعدم وجود أدوات حماية للأطباء”. ونوه إلى أن بالولاية أكثر من 12 كادراً طبياً أُصيبوا بكورونا وقضوا فترة العزل وخرجوا. وسجلت الولاية 5 حالات وفاة بفيروس كورونا حتى الآن، وكانت لأشخاص أعمارهم فوق الـ(55) عاماً، وتم نقلهم في حالات متأخرة جداً بعد إصابتهم بالمرض الذي سبب لهم ضيقاً في التنفس، ما أدى إلى وفاتهم، بحسب المسؤول الطبي.

وإضافة إلى عدم وجود ميزانية والوضع الصحي المنهار، واجهت الولاية تحدياً آخر أثناء كورونا، يتمثل في عدم اعتراف المجتمع بوجودها، ويتضح ذلك في أن بعض الأسر كانت تتردد في التبليغ عن أفرادها المشتبهين بكورونا. ويقول الطبيب: “في البداية واجهتنا مشكلة أن المجتمع لا يتقبل وجود كورونا، في حين كانت الحالات في ازدياد بالولاية” وأضاف أن بعض الناس كانوا يعتبرون الإصابة بكورونا كأنها “وصمة وعار”، وغالباً تقوم الأسر بالتبليغ ما بين الساعة 12 إلى 3 صباحاً، فالمجتمع لا يقوم بالتبليغ عن حالات الاشتباه وسطه إلا في حالة متأخرة.

كما واجهت الولاية مشكلة في إيجاد مكان لإنشاء مراكز عزل، بعد أن قوبلت المقترحات بالرفض من  سكان مجاورين، إلى أن تم أخيراً إنشاء مركز عزل في مستشفى نيالا الكبير، غير أنه سرعان ما واجه مشاكل في التمويل، وتم إخلاء مراكز العزل وتحويلها إلى خيام داخل مستشفى نيالا، رغم أن الولاية مازالت تحت خطر الفيروس.

(69) طبيباً لـ(3) ملايين شخص.. حقائق صحية صادمة بدارفور

كيف يتم اكتشاف الحالات؟

أغلب الحالات التي تم اكتشافها في ولاية جنوب دارفور، كانت عبر المراكز الطبية والمستشفيات، عندما يتردد مريض إلى المستشفى إذا اكتشف الطبيب أعراض فيروس كورونا يقوم بإبلاغ إدارة الطوارئ، بينما تم اكتشاف بعض الحالات القليلة عبر بلاغات من المجتمع.

ويقول لـ(عاين)، : “لا نستطيع أن نقول إن نسبة كورونا في الولاية أكبر من النسبة المكتشفة، لكن نستطيع القول إن الحالات المعلن عنها هي الحالات المكتشفة من المجتمع والمراكز الصحية والمستشفيات”.

وأضاف، “ما لم نجرِ فحصاً عشوائياً على المجتمع، لا نستطيع أن نقول إن هناك حالات أكثر”. وتقول السلطات الصحية إنها لا تملك ميزانية كافية لإجراء فحوصات عشوائية على أفراد المجتمع؛ لأن تكلفتها باهظة. وظلت أتيام الطوارئ بالولاية المسؤولة عن مواجهة كورونا، تعاني من نقص الوسائل الحركية ونقص ميزانية الأنشظة.