حياة نزوح لـ 23 عامًا.. حكاية سيدة تجسد مأساة حروب دارفور

عاين – 19 نوفمبر 2024

العودة إلى الديار الأصلية في منطقة “هبيلا” بولاية غرب دارفور ظلت حلماً يراود “مناهل عبد الرحمن” التي نزحت مع أسرتها وعمرها 11 عاماً مع اندلاع الحرب في دارفور عام 2003، لكن حلمها الذي انتظرته طوال 20 عاماً تبدد بعد مهاجمة مخيم كريندق الذي لجأت اليه خلال عامي 2019، 2020، لتنزح مجددًا إلى دور إيواء اضطرارية بالمؤسسات والدور الحكومية بمدينة الجنينة، لكن حرب أخرى تندلع في 15 أبريل، وتدفع بـ”مناهل” هذه المرة لاجئة بمعسكر أدري في دولة تشاد.

تتحسر عبد الرحمن على عمرها الذي قضته تحت وطأة النزوح، بينما يزداد حزنها على خمسة أطفال أنجبتهم بعد زواجها في المخيم، فهي تخشى أن يواجهوا المصير نفسه الذي عاشته بأن يفنوا حياتهم في الملاجئ وما تشهده من عناء، يتجلى في نقص الأكل والشرب وغياب التعليم والرعاية الصحية، وهي خدمات أساسية ظلت تتوق لها طيلة حياتها.

لا تتذكر “مناهل” أية ذكريات جميلة يمكن أن ترويها لأطفالها مثل غيرها من الأمهات، فهي مليئة فقط بالأحداث المؤلمة من حرق وقتل ونهب بعد أن عاشت طفولتها تحت هذه الظروف المضطربة، بعيداً عن الحياة الطبيعية للصغار، والتي يتخللها اللعب والمرح والمدارس بأناشيدها، فهي لم تحظ بنيل أي مستوى تعليمي.

وتروي في مقابلة مع (عاين) رحلة فرارها من مدينة الجنية غربي دارفور إلى داخل الحدود التشادية وما واجهته من عنف على الطريق، بينما كانت الصدمة الكبرى بالنسبة لها هي افتقاد المخيم الذي آوت إليه في منطقة أدري لأبسط مقومات الحياة بما في ذلك الأمن الذي غامرت في سبيل البحث عنه، إلى جانب نقص الغذاء والرعاية الصحية.

حلم الطعام

ومع توالي الصدمات تقلصت آمالها في الوصول إلى حياة طبيعية، وصارت كل أمنياتها الحصول على طعام يسد رمقها مع أطفالها، وتعثر على بعض الأدوية لتخفيف آلام مرض الغدة الذي أصابها منذ سنوات، حيث فقدت زوجها، وسندها في الأسبوع الأول من هذه الحرب، ولا تدري إن كان حيا أو ميتاً حاليا.

ففي المخيم كما تروي مناهل، “يُمنحون فقط ذرة بلدية ولوبيا، وزيت”،. وهي سلع غير كافية لإعداد وجبات الطعام، إذ يحتاجون إلى مبالغ نقدية لشراء اللحوم والسكر والصابون، مما يجعلها تضطر للذهاب والبحث عن عمل إضافي رغم المخاطر الأمنية ومرضها، وذلك من أجل توفير متبقي المستلزمات المعيشية لعائلتها.

حريق في مقر إيواء النازحين الفارين من احداث كريندق بمدينة الجنينة في ولاية غرب دارفور 27 فبراير 2023

وتقول: “يمارسون العنف في توزيع هذه المساعدات الشحيحة، ولم يمنحونا أي شيء، لم نجد في مخيم أدرى فرش ولا بطانية ولا مشمع، لا أحد يساعدنا، ومنذ أن وصلت إلى هنا ظللت أنقل المياه على رأسي؛ مما تسبب لي في ألم في الكتف وصداع شديد نتيجة مرض الغدة الذي أعانيه، فلم نحصل على أي دواء طوال 9 أشهر؛ لأنه غير متوفر بالمعسكر، بينما يباع بأسعار عالية في الأسواق لن نستطيع عليها”.

وشهدت دارفور حرب طويلة بين نظام الرئيس المخلوع عمر البشير وحركات مسلحة خرجت تنادي بالعدالة للإقليم، واستمرت منذ العام 2003م وحتى 2021م عقب توقيع اتفاقية بين الحكومة الانتقالية التي كان يقودها عبد الله حمدوك مع تلك الحركات، ولكن قبل أن يعود النازحون إلى مناطقهم الأصلية اندلع قتال الجيش وقوات الدعم السريع في منتصف أبريل الماضي بتداعيات أكثر قسوة على هؤلاء الضحايا.

بين حربين

لم تتمكن مناهل عبد الرحمن، من حفظ تفاصيل المأساة التي حلت بعائلتها عند اندلاع القتال قبل 20 عاماً؛ نظراً لصغر سنها وقتها، لكنها تتذكر الحرائق التي شبت في بلدتهم هبيلا وموت أشخاص هناك، بجانب إنجاب إحدى شقيقاتها مولودا على طريق النزوح من منطقة هبيلا إلى معسكر كريندق قرب الجنينة عاصمة ولاية غرب دارفور.

لكن ما شهدته خلال الحرب الأخيرة لم يكن للنسيان، وتقول: “بعد مهاجمة مخيمنا نزحنا إلى إحدى المدارس في مدينة الجنينة، ومع نشوب القتال ظللنا محبوسين بالداخل لأكثر من 3 أسابيع، لا يوجد طعام ولا شراب، فقط نتسلل ليلاً بضوء القمر لنستجلب المياه، هناك قناصون من حولنا وآخرون يقتمون أماكننا ويضربوننا وينهبوننا”.

سودانيات لاجئات داخل الأراضي التشادية- يوليو 2023

وفي طريق النزوح إلى أدري التشادية أنجبت طفلها الخامس، وهذا لم يعفها من التعرض للضرب والنهب برفقة آخرين، كما أخذت المجموعات المسلحة كل شيء بحوزتهم من مبالغ نقدية وهواتف وجردتهم حتى من الملابس التي يرتدونها، وتروي بحزن “يطرحوا الشباب الذي كانوا معنا على الأرض، ويضعون السكاكين على أعناقهم كأنهم يردون ذبحهم”.

وبعد ما استقرت في مخيم أدري بدولة تشاد تحت ظروف إنسانية قاسية، ظل سؤالا الحاضر والمستقبل يسيطران على مناهل، “إلى متى سنظل تحت المشاكل والمعاناة، هل نعيش عمرنا كله مشاكل، أطفالنا كذلك يعيشون في المشاكل؟، أليست لنا حقوق؟”، وهي تساؤلات محلة باتت تكررها على مدار المقابلة مع (عاين) لعلها تجد إجابات تضيء واقعها المظلم، وتضمد جراحات عقدين من النزوح.