«غرف طوارئ الخرطوم».. ملاذ جوعى الحرب تحت رقابة حكومية
عاين- 20 مايو 2025
قوبل قرار حكومة ولاية الخرطوم الخاضعة لسيطرة الجيش السوداني، بتقييد عمل غرف الطوارئ وإلزامها بالتسجيل لدى مفوضية العون الإنساني والعمل تحت إشرافها المباشر برفض واسع وسط مخاوف من التضييق على عملها وتوقف المطابخ الجماعية المجانية التي يتلقى منها الملايين الطعام يوميًا.
ولسنتين كاملتين، كانت غرف الطوارئ والمطابخ المجتمعية هي الملاذ الوحيد لسكان الخرطوم العالقين في ظل غياب تام لمؤسسات الدولة. لكن قرار الحكومة الأخير قد يطيح بهذا الجهد الشعبي واسع النطاق، ويهدد حياة الآلاف ممن يعتمدون كليًا على المساعدات الطوعية.
القرار الحكومي توعد المخالفين بإجراءات صارمة، ما يهدد بوقف عمل العشرات من غرف الطوارئ التي ظلت طوال العامين الماضيين تقدم خدمات حيوية في العاصمة.
ومنذ دخول الجيش إلى مناطق جنوب الخرطوم، خاصة الكلاكلات، جرى تنفيذ عملية “استبدال” ممنهجة استهدفت لجان الطوارئ والشباب الذين كانوا في صدارة العمل الإنساني، وترافقت مع حملة تشويه واتهامات بالانتماء إلى قوى سياسية والتعاون مع الدعم السريع، مما مهد الطريق لظهور كيانات جديدة تُعرف باسم “لجان الكرامة”.
ترافقت هذه التحولات مع حملة إعلامية تنكر وجود غرف الطوارئ وتدعو للتعامل الحصري مع هذه اللجان الجديدة، في سياق استراتيجية واضحة لتهميش وإقصاء القوى المدنية الفاعلة واستبدالها بكيانات موالية تُقدم باعتبارها الجهات الوحيدة القادرة على توفير الخدمات والأمن للمواطنين.
وفي 16 مايو الجاري، أكدت غرف طوارئ ولاية الخرطوم استقلاليتها ورفضها الزج بها في الصراعات السياسية، مشددة على التزامها بالعمل الإنساني المحايد، ونددت بمحاولات الاستغلال والتكسب السياسي من معاناة المدنيين.
اعرف أكثر عن غرف الطوارئ
“غرف الطوارئ التي تشكلت فور اندلاع الحرب بالسودان في أبريل 2023 لعبت دورًا حيويًا في سد الفجوة الخدمية التي خلفتها الحرب، من خلال تقديم خدمات شاملة في مختلف المجالات” يقول عضو في غرف الطوارئ طلب عدم نشر اسمه لـ(عاين).
ومن المقرر أن تتسلم اليوم غرف الطوارئ جائزة الاتحاد الأوروبي لحقوق الإنسان لعام 2025، وفي الثالث من أكتوبر الماضي أعلن معهد أبحاث السلام في أوسلو، عن ترشيح غرف الطوارئ السودانية لجائزة نوبل للسلام لعام 2024 كرمز للأمل والصمود.
ويشير العضو في غرف الطوارئ، إلى أن الغرف عملت خلال 25 شهرًا من الحرب على توفير الغذاء عبر المطابخ المجتمعية والتكايا، وتوزيع السلال الغذائية على الأسر، إلى جانب دعم وإنشاء المراكز الصحية والمستشفيات، وتقديم الرعاية الصحية العاجلة للمصابين والمرضى، وتنفيذ عمليات إجلاء للأسر والأفراد في مناطق الصراع.
وينوه إلى أن التعليم كان من أبرز أولويات غرف الطوارئ، حيث جرى دعم المدارس والمعلمين لضمان استمرار العملية التعليمية حتى أثناء الحرب، فضلًا عن دعم الطلاب بالاحتياجات الأساسية مثل الإجلاس والكتب والكراسات. كما ساهمت الغرف في توفير الوقود لتشغيل مولدات الكهرباء الخاصة بآبار المياه، ما أسهم في استمرار خدمة المياه في عدة مناطق.

“غرف الطوارئ قدمت ملايين الوجبات يوميًا في مختلف أنحاء السودان منذ بداية الحرب، وأن ولاية الخرطوم وحدها شهدت إنشاء أكثر من 800 مطبخ مجتمعي يخدم أكثر من مليون شخص يوميًا”. يقول عضو غرف الطوارئ ويضيف: “أنشأنا أيضًا أكثر من 150 دار إيواء للنازحين، بينها 25 دارًا داخل ولاية الخرطوم”.
وبشأن الفئات المستفيدة من الخدمات، أوضح :أن “السودانيين في كل المناطق، سواء التي تشهد عمليات عسكرية أو المناطق الآمنة، استفادوا من تدخلات غرف الطوارئ. وذكر أن عدد المستفيدين حتى الآن بلغ 8,560,000 شخص، معظمهم من النساء والأطفال وكبار السن وذوي الإعاقة”.
وأكد أن المتطوعين لعبوا دورًا حاسمًا في تغطية الفراغ المؤسسي الناتج عن انهيار أجهزة الدولة خلال الحرب، عبر تكوين شبكات مجتمعية فاعلة. وقال: “عملنا على تنسيق الخدمات وفقًا للاحتياجات الفعلية، من كهرباء وماء وغذاء، إضافة إلى عمليات الإجلاء، وتمكنا من توفير هذه الخدمات على مدى عامين من الصراع”.
تهديد مباشر
يبدي المتطوعون وأعضاء غرف الطوارئ في ولاية الخرطوم مخاوف من تأثير سالب لقرار سلطات حكومة ولاية الخرطوم التابعة للجيش السوداني على عمل غرف الطوارئ. ويقول قال أحد منسقي غرف الطوارئ بالعاصمة لـ(عاين):إن “حكومة ولاية الخرطوم أصدرت قراراً بشأن تنظيم عمل غرف الطوارئ والمطابخ المجانية، وقد تم الإعلان عنه عبر وسائل الإعلام، إلا أننا لم نواجه حتى الآن أي تنفيذ فعلي للقرار على الأرض”.
ويشير إلى أن هذا النوع من القرارات “قد يؤدي إلى عزوف المتطوعين عن العمل، لما يطرحه من تهديد مباشر لطبيعة العمل المجتمعي الطوعي.. الحكومة تمضي نحو التدخل المباشر في أنشطة غرف الطوارئ ومحاصرة نشاطاتها تحت غطاء أنها أجسام سياسية”.
وعدّ هذا القرار “غير مفهوم”، لأن “المبادرات الشعبية معروفة في العمل الإنساني ولها سبل تنسيق مجربة ومعلومة، والدافع خلف القرار سياسي بحت في رأيي”. وبيّن أن غرف الطوارئ “ساهمت عبر أنشطة المطابخ والتكايا في حماية المجتمعات الصغيرة من المجاعة”، مؤكداً أن هناك “عائلات تعتمد بشكل كامل على الوجبات المجانية المقدمة يومياً”، كما أوضح أن “المطابخ مثّلت أيضاً متنفساً اجتماعياً وساهمت في الاستقرار، لا سيما في مناطق سيطرة الدعم السريع، حيث وفّرت مساحات آمنة للنقاش والتجمع المجتمعي”.
وأشار إلى أن “الشكل الأفقي لعمل غرف الطوارئ، وطبيعة المشاركة المجتمعية، ساعدا على تفادي النزاعات المرتبطة بتوزيع الإغاثة، وقلّلا من المشكلات التي تحدث عادة في هذا السياق”.
وعن أدوار غرف الطوارئ الأخرى، يقول المنسق الذي فضل حجب اسمه لـ(عاين): “رغم التحديات الأمنية، تمكّن المتطوعون من تغطية بعض مظاهر الانهيار الخدمي، مثل دعم وتشغيل المراكز الصحية، توفير مواد النظافة، دعم مراكز التعليم البديل، صيانة الكهرباء، وتشغيل آبار المياه عبر توفير الجازولين في الأحياء. كما نفذنا عمليات إجلاء للمصابين والمرضى إلى ولايات أخرى، وكذلك إجلاء ضحايا العنف الجنسي والجسدي والمهددين بالخطر”.
الموت جوعاً
وحذّر من أن “تطبيق القرار الحكومي بصيغته الحالية، دون مراعاة لطبيعة عمل غرف الطوارئ وتجذرها المجتمعي، قد يسبب ضرراً كبيراً على المستوى الصحي”، وقال: “دون مبالغة، قد نشهد حالات وفاة بسبب الجوع. وقد حدث ذلك سابقاً في الكلاكلات، حيث رصدت بنفسي أربع حالات وفاة على الأقل بسبب الجوع، وكانت معظمها لكبار سن يعيشون وحدهم ولا يملكون مصادر دخل. المطابخ حينها لم تكن قد بدأت العمل بشكل كافٍ”.
ما يجري هو حملة منظمة من جهات داخل الدولة لتهميش غرف الطوارئ أو إنهاء وجودها، استناداً إلى تحليل سياسي غير موضوعي يرى أن هذه الغرف تمثل امتداداً للجان المقاومة
منسق غرفة طوارئ
ورأى أن القرار الحكومي “قد يثير التوتر بين المواطنين والجهات الرسمية، لأنه سيُنظر إليه كمحاولة متعمدة لحرمانهم من حقهم في الغذاء وتعريضهم لسوء التغذية”.
وتابع: “ما يجري الآن يبدو أنه حملة منظمة من جهات داخل الدولة لتهميش غرف الطوارئ أو إنهاء وجودها، استناداً إلى تحليل سياسي غير موضوعي يرى أن هذه الغرف تمثل امتداداً للجان المقاومة”.
وعن المخاطر المحتملة، يقول المنسق الذي فضل حجب اسمه: “الفساد هو أول التهديدات، خصوصاً في ظل غياب الشفافية. وللأمانة، توجد أصوات داخل مؤسسات الحكومة، بما في ذلك موظفون في المفوضية والمحليات وحتى بعض أفراد الأجهزة النظامية، عبّروا عن دعمهم لغرف الطوارئ بسبب شفافيتها ومصداقيتها”.
وأشار في هذا الخصوص، إلى أن “مشروع السلال الغذائية التابع لبرنامج الغذاء العالمي (WFP) تم توزيعه عبر غرف الطوارئ بنسبة بلغت 100% من المساعدات، وهي حالة لم تتحقق في أي جهة حكومية”. وانتقد البيروقراطية الحكومية، قائلاً إنها “تشكل عائقاً أمام الاستجابة الطارئة والعاجلة، وهو ما يتعارض مع طبيعة عمل غرف الطوارئ”.
وينوه إلى أنه “لا توجد ضمانات لوصول الإغاثة إلى مستحقيها في حال احتكرتها الحكومة”، موضحاً أن “تجربة الكلاكلة تؤكد ذلك، حيث تسببت تدخلات المحلية في ارتباك بالغ، بعد أن طلبت من متطوعين حصر السكان، ثم سجّلت العائدين طوعاً من ولايات أخرى ضمن قوائم المستفيدين، ما أدى إلى حرمان السكان الأصليين المحاصرين من الإغاثة”.
وتابع: “إيقاف المطابخ المجتمعية سيسهم بشكل كبير في تعقيد الوضع الغذائي، ولا توجد أي جهة بديلة قادرة على تغطية الفجوة. ومع تدهور الأوضاع الاقتصادية وفقدان كثير من السكان لأعمالهم ومدخراتهم، فإن المجاعة باتت خطراً محدقاً”.
مواصلة العمل تحت أي ظروف..
مسؤول الاتصال الخارجي لغرف الطوارئ، السنوسي آدم، قال في ردّه على سؤال (عاين) حول آثار قرار الحكومة على السكان العالقين الذين يعتمدون على هذه المساعدات: “ظلت غرف الطوارئ تعمل تحت ضغوط قاسية وتعقيدات مستمرة طوال فترة الحرب، ولعبت دورًا محوريًا في سد الفجوة الإنسانية التي خلّفتها، وستواصل لعب الدور نفسه خلال الفترات القادمة، مهما كانت الظروف. قد تتأثر بعض الغرف والمناطق بالقرار الجديد، لكننا سنبذل أقصى ما في وسعنا لتوصيل الخدمات لكل أهلنا المتضررين في السودان دون تمييز أو محاباة.”
وبشأن أوجه الشبه بين ما يحدث الآن في الخرطوم وما جرى سابقًا في ولايتي كسلا وبورتسودان، أوضح السنوسي: أن “غرفة طوارئ كسلا كانت مبادرة مسجلة عند انضمامها إلى غرف طوارئ السودان، وذلك بسبب ظروف أمنية خاصة بالولاية، لكنها ظلت تؤدي نشاطها دون تدخل من أي جهة. أما في الخرطوم، فالوضع مختلف تمامًا، حيث توجد أكثر من 74 غرفة وما يزيد عن 800 مطبخ مجتمعي، وهذا يعكس طابعًا أوسع وأكثر تعقيدًا من حيث التنسيق والاحتياج.”
حرية الوصول
وفي رده على سؤال حول المخاطر المحتملة عند إخضاع الإغاثة لسيطرة الحكومة، وما إذا كانت هناك دلائل سابقة على سوء الإدارة أو الاستحواذ، يقول السنوسي: أن “الإغاثة يجب أن تكون حرة وغير مقيّدة أو موجهة، ولا يحق لأي جهة التدخل في توجيهها. منظمات المجتمع المدني منتشرة في جميع أنحاء السودان، ويمكنها أن تقوم بعملها، لكنها حاليًا مقيّدة بمتطلبات التسجيل واتفاقيات تقنية تحدّ من كفاءتها وتحوّلها إلى أداة يمكن استغلالها. في المقابل، غرف الطوارئ هي كيانات قاعدية لا مركزية، يُتخذ القرار فيها من قبل المجتمع المحلي بناءً على احتياجاته، ما يتيح استجابة سريعة وفعالة.”

أما بخصوص الضمانات لوصول الإغاثة إلى المحتاجين في حال احتكرتها الحكومة، علّق السنوسي قائلاً: “يكفي النظر إلى حجم المتأثرين بالحرب في الولايات التي تُعد آمنة، مثل النيل الأبيض، القضارف، ونهر النيل والشمالية. رغم وجود المنظمات فيها، إلا أن الوضع الصحي والمعيشي لا يزال سيئًا. في مدينة الأبيض، على سبيل المثال، تسببت موجة كوليرا في وفاة العشرات دون أي تدخل يُذكر”.
ويتابع: “هذه الولايات تحت سيطرة الحكومة، فكيف سيكون الحال في مناطق تسيطر عليها قوات الدعم السريع؟ هل ستتمكن الحكومة من إيصال المساعدات إلى دارفور، الجنينة، أو معسكرات زمزم وكلمة؟ هل سيلقى المتضررون في جنوب كردفان وغرب كردفان الدعم المطلوب؟ غرف الطوارئ تعمل على تمكين المواطن في منطقته لاتخاذ القرار الأنسب وإدارة المساعدات بالشكل الذي يتناسب مع خصوصية المنطقة.”
القرار الحكومي قد يدفع العديد من المتطوعين الحقيقيين إلى التذمر والانسحاب من العمل الطوعي، ما يفتح المجال أمام الانتهازيين والمنتفعين
عضو بغرف الطوارئ
وفيما يتعلق بالسيناريوهات المحتملة في حال استمر التضييق على المبادرات الطوعية، أجاب السنوسي: “التضييق مستمر على غرف الطوارئ في معظم الولايات ومن جميع الأطراف، لكن الإرادة الحقيقية لدى الشابات والشباب على الأرض تجعل مواصلة المشوار ممكنة. ورغم تعثّر الدعم للسودان عمومًا، فإننا في غرف الطوارئ ما زلنا نواصل الجهود، ونستقطب الدعم، ونعمل في مجالات الإطعام، الإجلاء، السلال الغذائية، والتعليم البديل. ونتطلع إلى دعم يتيح إعادة إعمار المشافي، ومحطات المياه، والكهرباء في الولايات المتضررة من الحرب.”
لا ضمانات..
مصدر آخر من غرف الطوارئ، قال في رده على سؤال حول سبب قرار الحكومة إخضاع المبادرات المجتمعية للتسجيل والعمل تحت إشراف مفوضية العون الإنساني: قررت الحكومة فرض هذا الإجراء بهدف السيطرة على الأشخاص القائمين على هذه المبادرات، وإجبارهم على العمل تحت مظلتها المباشرة، بما يتيح لها فرض رقابة كاملة عليهم.” وبشأن الآثار المحتملة لهذا القرار على السكان العالقين الذين يعتمدون على هذه المساعدات، أوضح المصدر أن هذا القرار قد يدفع العديد من المتطوعين الحقيقيين إلى التذمر والانسحاب من العمل الطوعي، ما يفتح المجال أمام الانتهازيين والمنتفعين الذين لا يضعون مصلحة المواطن في أولوياتهم، خلافًا للشباب الذين قدموا الخدمات للمجتمع طيلة العامين الماضيين.”
ويقول في رده على سؤال (عاين) حول أوجه الشبه بين ما يحدث حاليًا في الخرطوم وما حدث سابقًا في ولايتي كسلا وبورتسودان: “وجه الشبه الأساسي يتمثل في خضوع كل العمل الطوعي حينها لسيطرة مفوضية العون الإنساني والمحليات، وهو ما يتكرر الآن في الخرطوم.”
وبشأن الضمانات لوصول الإغاثة إلى المحتاجين في حال احتكرتها الحكومة،يقول المصدر في غرف الطوارئ: “لا توجد أي ضمانات. وحتى إذا وصلت المساعدات، فلن تصل إلا إلى عدد محدود من المواطنين، وغالبًا سيكون ذلك لأغراض دعائية فقط.”