لماذا يحارب الجيش السوداني غرف طوارئ إيواء النازحين؟
عاين- 17 يوليو 2023
في الوقت الذي تتركز فيه الأنظار على المعارك المحتدمة بين الجيش وقوات الدعم السريع في العاصمة الخرطوم، تتزايد معاناة آلاف الأشخاص الذين فروا من ديارهم الى المدن السودانية المختلفة، إذ تأويهم الأرصفة والبنايات المهجورة والمدارس ودور العبادة، بينما يتوقف غذائهم على مساعدات شحيحة تصلهم من مجموعات شبابية تطوعية وبعض منظمات المجتمع المدني.
لأكثر من شهرين ينام “ياسر أحمد” ومعه مئات النازحين في فناء مقر وزارة الشباب والرياضة في مدينة ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة وسط السودان يفترشون قصاصات من الكرتون على الأرض، يستظلون بالأشجار ويواجهون نقصاُ في دورات المياه.
واقع “أحمد” ينسحب على أكثر من مليون سوداني فروا من الخرطوم الى عواصم الولايات ولم يجدوا خيارات أمامهم غير السكن في بنايات المدارس والمباني قيد التشييد، بينما لجأ الأشخاص الذين يحتفظون ببعض الأموال الى استئجار منازل بأسعار باهظة، وهي وضعية تصعب مهمة المنظمات الإنسانية في الوصول إلى النازحين الذين كان ينبغي إيوائهم في مخيمات مهيأة.
ووصلت الى بورتسودان شحنات الإغاثة والمساعدات الإنسانية المختلفة ولكن تم تخزينها ولم تصل الى المتأثر بالحرب حتى اللحظة، وهو ما يطرح استفهامات عديدة بشأن نية السلطات السودانية تجاه ضحايا الصراع بعد وضع العراقيل أمام انسياب العمل الإنساني والوقوف حجر عثر أمام قيام مخيمات للنازحين.
قيود واسعة
لم تتوقف السلطات السودانية عند هذا الحد، بل امتدت لفرض قيود على وسائل الإعلام المحلية والأجنبية وحرمانها من تصاريح الوصول الى مراكز الإيواء لعكس معاناة النازحين، كما بدأت حربا بشكل متزامن على مجموعات شبابية تطوعية تعمل تحت مسمى “غرف الطوارئ” في مختلف مدن السودان وتقوم بمساعدة الفارين من نيران الصراع.
ويواجه الصحفيون السودانيون صعوبات بالغة في الوصول الى مراكز الايواء في ولايات البلاد المختلفة، حيث تحظر الاستخبارات العسكرية التابعة للجيش عمليات التصوير بالكاميرات والهواتف النقالة وإجراء المقابلات مع الفارين من الحرب، كما تفرض إجراءات امنية مشددة واعتقالات لمخالفي تلك الأوامر، وذلك بحسب شهادات وثقتها (عاين).
ويتمنى النازح ياسر أحمد الذي تحدث لـ(عاين) عبر الهاتف، بأن يصل صوته للعالم بعد أن عاش كل هذه الفترة في عزلة تامة يواجه ظروف قاسية دون أن يجد وسيلة إعلامية تنقل تلك المأساة خارج أسوار مركز الإيواء الذي يقيم فيه برفقة نحو 350 شخص آخرين بينهم أطفال فروا من نيران الصراع المشتعلة في الخرطوم الى مدينة ود مدني”.
ويضيف: “نعيش وضع سيء للغاية وظروف غير انسانية تنعدم فيها أبسط مقومات الحياة بما في ذلك الحمامات، كما لا توجد أسِرة.. ننام على الأرض، بينما نعتمد على مساعدات من شباب وسكان المنطقة المحيطة بنا وبعض الخيرين. كان الأفضل لنا الإقامة في معسكرات إيواء دائمة لأنه لا يوجد أي سقف زمني لانتهاء الحرب الحالية”.
وبسبب الأوضاع السيئة بدأ النازح “رضوان حسن” يُفكر بشكل جدي في العودة الى منزله جنوب العاصمة السودانية الخرطوم الذي فر منه إلى مدينة سنار بعد أيام قليلة من اندلاع الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع.
ويقول رضوان الذي يقيم في إحدى المدارس في مدينة سنار لـ(عاين):”سأعود إلى منزلي متى ما توفرت المبالغ اللازمة لتذاكر السفر، فالوضع هنا لا يحتمل. نعاني من نقص الغذاء وسوء المأوى، فمن الأفضل أن نعود”.
مفارقة صادمة
وفي مفارقة صادمة تتعرض (غرف الطوارئ) -الأمل الوحيد للنازحين في الحصول على الغذاء، إلى حملة تضييق شنتها السلطات الحكومية بشكل متزامن بكل الولايات في محاولة لإبعادها عن المشهد الخدمي وإحلالها بآخرين يدينون بالولاء للسلطة.
وبحسب مبارك عبد الله – أحد الناشطين في العمل الطوعي- فإن والي ولاية النيل الأبيض أمر بحل “غرفة الطوارئ” وقام بتشكيل لجنة من الموالين له لتولي أمر الإشراف على النازحين المقيمين في مراكز الإيواء، بينما فرض الجيش إجراءات امنية على تلك المراكز ومنع كافة أشكال التصوير وصارت كأنها مقار عسكرية.
“كان شباب الطوارئ يقومون بجهود عظيمة وهم من بادروا بفتح مراكز الإيواء للفارين من الحرب في مدن الدويم وربك وكوستي، ووفروا الأكل والشرب والآن يتعرضون للحرب من السلطات بسبب تصنيفهم سياسياً بأنهم لجان مقاومة”. يضيف مبارك لـ(عاين).
وفي القضارف، حاولت المحلية إخلاء “بيت الشباب” وهي بناية تتبع لوزارة الشباب والرياضة تستغلها غرفة الطوارئ كمقر لها تدير من خلاله شؤون 34 مركزاً لإيواء النازحين في الولاية، كما يقيم فيه بعض الفارين الذين يعانون من أمراض مزمنة كالقلب والسكري وبعض الأشخاص ذوي الإعاقة.
وقال عضو لجنة الطوارئ في القضارف مجيب الرحمن عوض محمد لـ(عاين): إن “مسؤولاً من بلدية القضارف حضر إليهم وأبلغهم شفاهة بضرورة إخلاء مقر بيت الشباب وأن ذلك بناء على تعليمات المدير التنفيذي للمحلية دون إبداء أي أسباب، وبعدها بأيام تفاجأنا بتمركز قوة عسكرية مكونة من الجيش والشرطة وجهاز الأمن ومعها وكيل نيابة بغرض إخلاء المركز بالقوة الجبرية”.
“عندما دخل وكيل النيابة للمقر وجد به نازحين من المرضى فذكر لنا بأن الصورة التي وصلته لم تكن كذلك وعاد دون تنفيذ الإخلاء، وبعدها أمر رئيس لجنة الأمن المناوب بسحب القوة المسلحة، لكن ما يزال التضييق على الغرفة مستمراَ فهم يريدون سحب البساط منها لصالح لجنة شكلتها البلدية وهي موالية لها، رغم اتفاقنا السابق بأن نعمل معها بشكل مشترك لمصلحة النازحين”. يضيف عوض.
فساد المساعدات
وكان لغرف الطوارئ في مختلف الولايات السودانية السبق في توفير مراكز لإيواء الفارين من الصراع المسلح مع توفير احتياجاتهم من الأكل والشرب عن طريق استقطاب الدعم من الجهات الخيرية والتجار في الأسواق، وما تزال تقوم بهذا الدور في ظل غياب المنظمات التي يقول منسوبيها أنهم غير قادرين على العمل نظراً لقيود السلطات وعدم وجود ممرات آمنة.
ويرى مجيب الرحمن، أن السلطات المحلية تريد تفكيك غرف الطوارئ حتى يتسن لها تنسيق العون الإنساني بنفسها لتمارس فسادها المعهود، وذلك بعد أن سمعت بنية منظمات دولية تقديم دعم كبير للنازحين يناسب أعدادهم المتزايدة، لافتاً إلى أن وجود غرف الطوارئ يضمن وصول المساعدات الى مستحقيها وهو ما لا تريده السلطات.
ويقول:”التضييق على غرف الطوارئ فيه عدم تقدير للجهود التي يقوم بها هؤلاء الشباب، كما أن تمركز سيارات مدججة بالسلاح أمام مقر للفارين من الحرب له مردود نفسي سيء على النازحين فقد أصيب الصغار بخوف ودخلوا في نوبات بكاء مما أدى لتبديد كل العلاجات النفسية التي قمنا بها خلال الفترة الماضية، لكننا لن نتوقف وسنواصل عملنا التطوعي تحت كل هذه الظروف”.
وينقل أحمد التاي – أحد افراد لجان المقاومة لـ(عاين) أوضاع قاسية يعيشها النازحين في مدينة ود مدني، “هناك نقص كبير في الغذاء، وبالكاد يتناول العديد من النازحين وجبة واحدة في اليوم، فهناك جهود شعبية تجاههم ولكن أعداد الفارين كبيرة وفي تزايد مستمر وهم بحاجة الى تدخل من جهات دولية مقتدرة”.
ويضيف التاي: “هناك تضييق ملحوظ على المجموعات الشبابية التطوعية، في حين لم تقم السلطات الرسمية بالدور المطلوب تجاه النازحين في توفير الأكل والشرب، تتعامل الأجهزة الأمنية مع النازحين كملف أمنى بحت دون مراعاة للظروف الإنسانية التي يواجهونها”.
ويمتد مخطط الحكومة الى ولاية سنار التي وصلها 158 ألف نازح وفق مفوضية العون الإنساني، فقد سعت لتفكيك غرف الطوارئ من خلال تكوين لجنة موازية لها ومحاولتها سحب البساط، لكن متطوعي الغرفة لم يكترثوا لها وظلوا مستمرين في مهامهم الإنسانية.
ويقول هيثم عمر من غرفة طوارئ سنار لـ(عاين): “قامت السلطات المحلية بتشكيل لجنة وطلبوا منا العمل بشكل مشترك لكننا رفضنا ذلك لأننا نعرف نواياهم جيداً، فهم يرغبون في مصالح شخصية وليس توفير الغذاء للنازحين. نحن نحظى بثقة المجتمع المحلي والتجار ونستطيع استقطاب الدعم بسهولة منهم وتوجيهه لمراكز الايواء”.
ويضيف عمر: “نأوي المئات في مركز القابلات سنار وبعض المدارس، ولم نتلق أي دعم من السلطات الحكومية زارنا مفوض العون الإنساني وبعض المسؤولين مرة واحدة ولم نشاهدهم مجدداً. نجتهد في توفير الوجبات للنازحين وإقامة بعض البرامج الترفيهية كنوع من الدعم النفسي لإخواننا الفارين من جحيم الحرب”.
فوبيا المنظمات
تظهر السلطات الحكومية في السودان عجزاً ملحوظاً في تلبية احتياجات النازحين، حيث تعيش البلاد حالة اللا دولة منذ اندلاع الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع في منتصف ابريل الماضي بعد توقف تام للجهاز المصرفي وحركة الاقتصاد، ومع ذلك تضع العراقيل أمام الجهات الراغبة في نجدة ضحايا الصراع المسلح.
ويفسر الصحفي والمحلل السياسي أحمد حمدان هذه المفارقة بأنها نتاج “فوبيا قديمة متجددة للمؤسسة العسكرية والأمنية في السودان تجاه منظمات العون الإنساني الدولية ومخيمات النزوح فهي تحاول بذلك تفادي سيناريو الحرب الماضية في إقليم دارفور”.
“وجود الفارين داخل المعسكرات سيكشف الوجه المأساوي للحرب ويمثل ورقة ضغط للمجتمع الدولي على الأطراف المتحاربة للدخول في مفاوضات جدية لوقف الحرب وهو ما لا يريده الجيش الذي ما زال يحتفظ بالسلطة في الولايات ويريد حسماً عسكرياً لخلافه مع قوات الدعم السريع”. يقول حمدان لـ(عاين).
ويضيف: “ما يجري يجافي كل الاخلاق والأعراف فباتت أرواح ملايين الفارين مهددة بالموت، يجب فتح المجال الآمن للمنظمات الدولية ووكالات الأمم المتحدة لتقوم بدورها كاملاً تجاه ضحايا الحرب ونجدهم”.