انتهاكات الفاشر.. كيف يبدو الطريق إلى العدالة الدولية؟
عاين–19 نوفمبر2025
شهدت مدينة الفاشر موجة انتهاكات مروّعة عقب سيطرة قوات الدعم السريع عليها، شملت عمليات قتل جماعي واحتجاز آلاف المدنيين ومقتل متطوعين في مبادرات الإغاثة، وسط إدانة دولية متزايدة للوضع الإنساني المتدهور. وتعيد هذه المشاهد إلى الأذهان ما جرى في الجنينة قبل عامين، حين اندلعت أعمال العنف في 24 أبريل 2023، بعد تسعة أيام فقط من اندلاع القتال في الخرطوم بين الجيش والدعم السريع.
بعد سيطرة قوات الدعم السريع الكاملة على مدينة الفاشر في 26 أكتوبر الماضي، أصبح المدنيون معرضين لخطر مباشر وفوري، وسط تقارير عن إعدامات ميدانية، مطاردات، اختطافات، ونهب واسع للممتلكات والمرافق العامة.
وأكد العديد من الشهود تعرض نساء وأطفال للعنف الجنسي، فيما تحاول المنظمات الإنسانية توثيق الانتهاكات وسط صعوبات الوصول وانقطاع الاتصالات.
وتشير الأمم المتحدة إلى أن عشرات الآلاف من السكان إما نزحوا أو ما زالوا محاصرين داخل المدينة أو يختبئون خشية الانتقام. هذه الانتهاكات تمثل تصعيدًا خطيرًا عن ما سبق، وتُظهر نمطًا ممنهجًا يستهدف مجموعات محددة.
وفي بارا بشمال كردفان، تتكرر الأنماط نفسها من هجمات على المدنيين، تدمير المرافق الصحية، ونهب الممتلكات، ما يؤكد استمرار سياسة ممنهجة لعزل وإضعاف السكان المدنيين في مناطق النزاع. تخضع هذه الانتهاكات للقوانين الدولية بما فيها اتفاقيات جنيف ونظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. تُعد الأفعال مثل القتل الجماعي، الهجمات على المدنيين، واستهداف المرافق الطبية جرائم حرب محتملة وجرائم ضد الإنسانية، مع التركيز على إثبات النية والسياسة الممنهجة وسجل قوات الدعم السريع منذ عام 2003.
ويقول الخبير القانوني منعم آدم: إن “الانتهاكات الجسيمة التي وقعت منذ اندلاع الحرب في السودان في 15 أبريل 2023 تُظهر بوضوح أن للمحكمة الجنائية الدولية اختصاصًا مباشرًا، خاصة في ما يتعلق بالأحداث في دارفور”.
وأشار في حديث لـ(عاين) إلى أن مكتب المدعي العام للمحكمة بدأ تحقيقات وأرسل فرقًا ميدانية إلى تشاد، حيث تلتقي فرق المحكمة بشكل دوري مع الضحايا والشهود والناجين المقيمين في المناطق الحدودية. وأضاف أن المحكمة تعتمد في عملها على التعاون مع المنظمات الدولية وهيئات الأمم المتحدة، وفي مقدمتها لجنة تقصّي الحقائق الأممية، التي يتضمّن تفويضها إحالة القضايا إلى المحكمة الجنائية الدولية، ما يجعلها آلية رئيسية في دعم جهود جمع الأدلة.

وبيّن منعم، أن السودان لا يوفّر حتى الآن أي مستوى من التعاون المنتظم مع المحكمة، إذ لا يسمح لفرقها بالتواصل المباشر مع الأشخاص داخل أراضيه، وهو ما يمثل عائقًا كبيرًا، ومع ذلك تواصل المحكمة الحصول على الأدلة عبر قنوات مختلفة، منها التعاون مع هيئات التحقيق التابعة للشرطة في بعض الدول، لا سيما الأوروبية مثل المملكة المتحدة، التي تمدّ المحكمة بنتائج تحقيقاتها في القضايا ذات الصلة.
التوثيق الميداني يواجه صعوبات كبيرة في الظروف الراهنة، أبرزها القيود الأمنية
قانوني
وأضاف: أن “المحكمة تعتمد كذلك على زيارات ميدانية تتيح لها التواصل مع الشهود والضحايا بصورة سرية”. مؤكّدًا أنه لم تُسجّل أي حالة انتقام أو أذى ضد من تعاونوا مع المحكمة داخل السودان حتى الآن، رغم أن عددًا من الشهود اضطروا لمغادرة البلاد بسبب المخاطر الأمنية.
وفي ما يتعلق بعملية التوثيق، أوضح منعم، أن التوثيق الميداني يواجه صعوبات كبيرة في الظروف الراهنة، أبرزها القيود الأمنية والانقطاع المتكرر للاتصالات، ما جعل التوثيق المعتمد على المصادر المفتوحة الوسيلة الأبرز في رصد الانتهاكات.
وأشار إلى أن كثيرًا من الأدلة المتاحة اليوم، خصوصًا حول ما جرى في الفاشر، جاءت من تسجيلات مصوّرة نشرها عناصر في قوات الدعم السريع أنفسهم، يظهرون فيها أثناء تنفيذ جرائم أو بعد ارتكابها وهم يتباهون بها، ما وفّر مادة موثّقة تُستخدم الآن في التحقيقات الدولية. وأكد أن منظمات التوثيق والعدالة تستخدم هذه المواد المفتوحة لتأكيد وقوع الانتهاكات وتحديد المسؤولين عنها، مشيرًا إلى أن الأدلة التي نشرتها قوات الدعم السريع كانت الأساس الذي دفع العديد من البرلمانات والجهات الدولية لعقد جلسات خاصة حول ما جرى في الفاشر.
الطابع الإثني للجرائم
ورأى منعم أن ما حدث في الفاشر يرتبط ارتباطًا وثيقًا بما وقع في الجنينة، إذ تكشف الأدلة عن طابع إثني واضح في بعض الجرائم، من خلال العبارات التي استُخدمت أثناء التعذيب أو القتل، إلى جانب انتهاكات أخرى شملت القتل الجماعي للمدنيين والأسرى والمرضى داخل المستشفيات، وهو ما يشكّل مخالفات صريحة للقانون الدولي الإنساني، وقد يندرج في إطار جرائم الإبادة الجماعية بالنظر إلى النمط المتكرر من القتل والاستهداف على أساس الهوية، ما يستوجب من المحكمة الجنائية الدولية فتح تحقيق مباشر.
وأشار منعم إلى أن منظمات عديدة لجأت إلى استخدام تقنيات متقدمة مثل صور الأقمار الصناعية والتحليل البصري المتطور لتوثيق الانتهاكات دون تعريض الشهود للخطر، وهو ما مكّن العالم من معرفة ما يجري في دارفور رغم انعدام الوصول المباشر، مؤكّدًا أن المحكمة الجنائية الدولية ولجنة تقصّي الحقائق هما الجهتان الوحيدتان اللتان تملكان حاليًا القدرة على متابعة القضايا وجمع الأدلة، غير أن العدالة نفسها لا تزال متاحة فقط على المستوى الدولي بسبب غياب مؤسسات وطنية قادرة أو راغبة في المحاسبة.
وأضاف: أن “مسار العدالة الدولية بطبيعته بطيء ومعقد، مشيرًا إلى أن بعض القضايا السابقة احتاجت إلى نحو عشرين عامًا قبل الوصول إلى مرحلة المحاكمة، ما يعكس حجم التحديات في ظل غياب حكومة تتعاون مع المحكمة أو تتيح الوصول إلى المشتبه فيهم. كما لفت إلى أن ضعف التمويل شكّل عاملًا إضافيًا في تعطيل جهود التوثيق والتحقيق، إذ توقفت أنشطة عديدة لمنظمات محلية كانت تعمل بفعالية في دارفور وكردفان بسبب نقص الدعم”.
جرائم خطيرة
المختص في القانون الدولي الإنساني، عبد الباسط الحاج، يقول: إن “الوضع في الفاشر يرقى إلى جرائم خطيرة تمس القانون الدولي الإنساني، إذ تشمل هجومًا متعمدًا ضد المدنيين، ويشمل ذلك قتل المدنيين بشكل متعمد، ما قد يرقى إلى مستوى جريمة الإبادة الجماعية. وأضاف: أن “الهجمات استهدفت أيضًا المرافق المدنية والمستشفيات، فضلاً عن استهداف الأطباء والمعلمين والعاملين المدنيين، وهو ما يُعد انتهاكًا واضحًا لقواعد القانون الدولي الإنساني”.
نمط الانتهاكات يشير إلى سياسة متكررة ومنهجية ضد مجموعات أهلية محددة
متخصص في القانون الدولي الإنساني
وذكر الحاج، أن التوثيق يعتمد على المصادر المفتوحة مثل الصور والفيديوهات المتداولة على الإنترنت، مع ضرورة التحقق من صحتها ومصدرها الأول، ويشمل أيضًا استخدام تقنيات حديثة مثل تحليل الصور والأقمار الصناعية، رغم أن الوصول المباشر إلى الأرض والاستماع لإفادات الضحايا يظل أساسيًا لضمان دقة التحقيقات. وأوضح أن السودان ليس طرفًا في نظام روما الأساسي، وبالتالي المحكمة الجنائية الدولية غير مخولة بالنظر في كل الانتهاكات على مستوى البلاد، باستثناء دارفور، حيث يُتاح لها التدخل والتحقيق.
وأشار إلى أن نمط الانتهاكات يشير إلى سياسة متكررة ومنهجية ضد مجموعات أهلية محددة تشمل القتل، الحرق، استخدام العنف الجنسي كسلاح، ونهب الممتلكات منذ عام 2003 وحتى الأحداث الأخيرة في الفاشر.
من جهته، أكد المحامي معز حضرة أن المحكمة الجنائية الدولية محكومة بإطار مجلس الأمن رقم 1593، مما يحدّ اختصاصها في السودان على جرائم دارفور فقط. وأوضح أن انهيار مؤسسات العدالة الوطنية مستمر منذ 30 يونيو 1989، وأن اختصاص المحكمة تكميلي ويأتي فقط عندما تفشل أو لا تكون مؤسسات العدالة الوطنية راغبة أو قادرة على ملاحقة المتهمين بجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب. وأكد أن الإفلات من العقاب يظهر أساسًا عندما تكون أجهزة العدالة الوطنية غير راغبة أو غير قادرة على متابعة الجرائم التي ارتكبت ضمن إطار ممنهج، وأن المحكمة تقتصر على محاكمة الأشخاص المتورطين وليس الدولة نفسها.

وأشار حضرة إلى أن المحاكمة الوطنية في بعض الدول تتجاوز الحدود، بحيث يمكن ملاحقة أي شخص ارتكب جريمة ضد الإنسانية أو جرائم حرب عند دخوله أي دولة، ما يمثّل وسيلة لمحاربة الإفلات من العقاب.
كما أكد أن الوضع في الفاشر ويعكس تكرار الانتهاكات وتحولها إلى منهج مستمر يشمل جميع أطراف الحرب، ما يجعل هذه الانتهاكات قابلة للتصنيف كجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
وشدد على أن معايير الإثبات يجب أن تكون صارمة، وأن البيانات يجب أن تفوق مرحلة الشك المعقول، لأن مرحلة ما قبل المحاكمة تعتمد بالكامل على دقة البيانات والمعلومات المجمعة، وعندما تظهر الانتهاكات متكررة بطريقة منهجية تصبح هذه الانتهاكات جرائم واضحة تستوجب المحاكمة.
وفي سياق تحقيقاته، أعرب مكتب المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية اليوكم الأحد عن قلقه البالغ من الجرائم التي يُزعم ارتكابها في مدينة الفاشر بشمال دارفور، السودان، والتي تُعد ضمن الجرائم المنصوص عليها في نظام روما الأساسي.
وحث مكتب المدعي العام جميع الجهات والأفراد على تقديم المعلومات والأدلة المتعلقة بهذه الأحداث، في خطوة تهدف إلى تعزيز التحقيقات وضمان محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات. وأكد المكتب أن التعاون الدولي أساسي لتحقيق العدالة ومنع إفلات مرتكبي الجرائم من العقاب.






















