الحياة تستحيل في مدينة الفاشر المحاصرة لنحو عام
عاين- 17 يونيو 2025
الحصار المشدد الذي يحيط بمدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، وسط استمرار المعارك العنيفة، يُعمق المأساة الإنسانية، ليشكل تهديدًا مباشرًا لحياة أكثر من مليون ونصف من المدنيين المحاصرين في المدينة. ويواجهون نقصاً حاداً في الغذاء والدواء والخدمات الأساسية.
ويقاتل الجيش السوداني والقوة المشتركة والمستنفرين من أبناء مدينة الفاشر للحيلولة دون دخول قوات الدعم السريع للمدينة الوحيدة الرئيسية التي تبقت للجيش السوداني في إقليم دارفور.
عزلة تامة
صورة قاتمة ومفصلة للوضع الإنساني داخل المدينة، يرسمها أحمد محي الدين (اسم مستعار)، عضو غرفة طوارئ الفاشر، ويقول في مقابلة مع (عاين):”تعاني المدينة من نقص حاد جداً في المواد الغذائية والدواء وكل المستلزمات الأساسية، أي الحاجات الضرورية للحياة”. ويتابع: هذا النقص هو تهديد مباشر لوجود السكان”.
يصف محي الدين الفاشر بأنها تعيش في “حالة عزلة تامة منذ وقت طويل، ما يقارب العام”. هذه العزلة ليست فقط جغرافية؛ بل هي عزلة من الدعم الإنساني والخدمات الأساسية. ويعزو السبب الرئيسي لعدم إيصال المساعدات الإنسانية للنازحين والمقيمين إلى “الجهة التي فرضت الحصار على المدينة”. هذا الاتهام المباشر يلقي بالمسؤولية على طرف واحد في الصراع، مما يعكس مدى اليأس من إمكانية وصول المساعدات.
يقول أحد العاملين في منظمات العون الإنساني، والذي فضّل عدم الكشف عن اسمه لدواعٍ أمنية، في مقابلة لـ(عاين): إن “الحصار الحالي، الذي فرضته قوات الدعم السريع بعد سيطرتها على معسكر زمزم، أدى إلى قطع شريان رئيسي كان يغذي المدينة بالمؤن”. ويتابع: “في السابق، كانت المواد الغذائية والدوائية تصل إلى الفاشر عبر طريق يربطها بزمزم، قادمة من دار السلام. وكانت هذه الحركة تعتمد بشكل كبير على النساء اللواتي كن يعملن بجد في جلب المستلزمات الضرورية”.
وفقاً للعامل الإنساني، فإن قصف الجيش السوداني لسوق طورة لم يكن مجرد اعتداء على مكان للبيع والشراء، بل كان يمثل القناة الوحيدة للسكان للحصول على مستلزماتهم بعد أن أصبحت حركة السيارات مستحيلة بسبب الحصار. يصف العامل الإنساني الوضع بقوله: “أصبح كل شيء يعتمد على الدواب، مثل الحمير والجمال والخيول، التي كانت تتحرك ببطء شديد. كانت النساء يتوجهن إلى سوق طورة لجلب المواد الغذائية، ويعدن إلى الفاشر بعد رحلة شاقة”. تعكس هذه الصورة مدى التدهور الذي أصاب وسائل الحياة اليومية، حيث لجأ الناس إلى طرق بدائية للتكيف مع الظروف الصعبة.

بعد تدمير السوق الحيوي، توقفت أكثر من 80% من حركة الإمداد، وأصبح من الصعب على السكان العثور على أماكن قريبة للحصول على المواد الغذائية بسهولة. حالياً، لا تدخل المواد الأساسية إلى الفاشر إلا عبر التهريب وبكميات ضئيلة للغاية، وهو ما لا يلبي الاحتياج الكبير للسكان. هذه الندرة أدت إلى ارتفاع كبير في الأسعار، مما جعل السلع الأساسية بعيدة عن متناول غالبية الناس. “أسعار السلع وصلت إلى مستويات خرافية. على سبيل المثال، قد يصل سعر الصابونة الواحدة إلى خمسة وعشرين جنيها، مما يشير إلى تضخم هائل وغير مسبوق”، كما يوضح المصدر..
بدائل صعبة
يشير العامل الإنساني إلى أن الحصار الأخير، الذي أضيف إلى حصار سابق، قد زاد تفاقم الأزمة بشكل غير مسبوق. ويقول:”لم تدخل أي قافلة غذائية إلى الفاشر مؤخرًا، منذ معارك يناير 2025 التي حدثت في الرابع والعشرين والخامس والعشرين من ذلك الشهر”. تدل هذه المعلومة على فترة طويلة جدًا من انقطاع المساعدات المنظمة، مما يجعل السكان يعتمدون على موارد ضئيلة للغاية. “لم تعد المواد الغذائية تصل بالطريقة التي كانت تصل بها سابقًا، في أيام الحصار الأول. الحصار له جانب واحد، ولكن به جزءين”، ويتابع: “الوضع الحالي أسوأ بكثير مما كان عليه في أي وقت مضى”.
مع وجود أكثر من مليون ونصف فرد في الفاشر، وفقًا للإحصائيات المتوفرة، يتفاقم النقص الحاد في السلع الأساسية. وهذا العدد الهائل من السكان يعيشون تحت رحمة الحصار، على الرغم من النزوح القسري الذي يقوم به مواطنو الفاشر إلى خارجها بحثاً عن الأمان. “لكن لا تزال هناك أعداد كبيرة من أهل الفاشر متواجدين داخلها، يكابدون ظروفاً لا تُطاق”، يضيف المصدر، مشددًا على أن الذين بقوا في المدينة لا يجدون مفراً.
في ظل النقص الحاد للغذاء يلجأ السكان إلى بدائل صعبة وغير كافية، كالبليلة أو الأمباز
عامل إنساني
سلع أساسية كالزيت والبصل قد تغيب عن الأسواق لأشهر متواصلة. وفي ظل هذا النقص، يلجأ السكان إلى بدائل صعبة وغير كافية، كـ”البليلة أو العدسية، أو الأمباز” وفقا للعامل الإنساني.
رغم حجم الكارثة، يجتهد متطوعو غرف الطوارئ في استمرار عمل التكايا، لكنها تظل محدودة جدًا أمام حجم الكارثة الإنسانية التي تتطلب استجابة أوسع بكثير من المنظمات الدولية التي تواجه صعوبات في إدخال الإغاثة. ويشير العامل الإنساني الذي تحدثت إليه (عاين) إلى أن “التحديات الأساسية التي تواجه المنظمات الدولية هي تأمين ممر لدخول المساعدات الإنسانية والقوافل إلى الفاشر في ظل الأوضاع الحالية للصراع”. ويعبر بمرارة عن أن “قوات الدعم السريع لا تسمح للمنظمات الدولية بدخول المساعدات إلى الفاشر”. هذا الحظر المفروض من أحد أطراف النزاع يجعل جهود الإغاثة الدولية شبه مستحيلة.
تزداد الأزمة تعقيدًا نتيجة لاستهداف قوافل المساعدات. وقد أفادت التقارير أن القافلة الأخيرة المتجهة إلى الفاشر تعرضت لهجوم جوي. “يقول الدعم السريع إن الجيش هو المسؤول عن ذلك، بينما يرد الجيش بأن الدعم السريع هو من هجم. لذلك، لا يعلم أحد من الذي نفذ الضربة، وهذه هي الحادثة الأخيرة”، وفقا للعامل الإنساني. الذي يشير إلى أن هذا الغموض وتبادل الاتهامات لا يعيق فقط وصول المساعدات، بل يثير أيضًا تساؤلات حقيقية حول مدى احترام القوانين الإنسانية الدولية وحماية عمال الإغاثة والمدنيين. إن تكرار هذا المشهد لاستهداف المساعدات يوضح أن الأطراف المتنازعة لا تبالي بمعاناة السكان.