الحرب تحجب أصوات طبول فرحة العيد في السودان
عاين-11 أبريل 2024
لم تتمكن سناء صالحين، إحدى العالقات في ضاحية “شمبات” بمدينة بحري شمالي العاصمة السودانية من الإعدادات المعتادة لعيد الفطر هذا العام وأكتفت بأداء صلاة العيد في ساحة مجاورة والعودة إلى منزلها.
سعت صالحين لصناعة الفرح بالتفاعل مع جماعة طرق صوفية طافت على الأحياء السكنية في بحري، وهي تقرع الطبول احتفاء بالعيد، لكن سرعان ما تملكها الحزن مجدداً بعد أن تذكرت الواقع القاسي الذي تعيشه وسط خط النار وما يصاحبه من نقص في الطعام ومياه الشرب والتهديدات الأمنية الواسعة، إذ يستمر القصف العشوائي، وينتشر مسلحو قوات الدعم السريع التي تسيطر على المنطقة، في الشوارع.
وتقول سناء في مقابلة مع (عاين): “غابت تقاليد العيد المعروفة مثل المخبوزات وشراء الملابس الجديدة للأطفال، وحضرت الطقوس الدين كالصلاة الجماعية وغيرها، في ظل الحرب وتدهور الوضع الأمني“.
ينسحب حال سناء صالحين، على ملايين السودانيين الذين سلبتهم الحرب فرحة العيد للمرة الثالثة على التوالي، حيث قضوا عيدي الفطر والأضحى الماضيين تحت القصف، ومشردين في مخيمات النزوح واللجوء تحت ظروف إنسانية سيئة.
واستقبل السودانيون في ربوع البلاد المختلفة العيد بمشاعر الحزن على فقد الأعزاء والأقارب، إذ أودى القتال الدائر بحياة 14 ألف شخص من المدنيين وفق الأمم المتحدة، إلى جانب ويلات النزوح واللجوء واستمرار التهديدات الأمنية في مختلف المناطق، مما جعل هذه المناسبة الدينية بلا طعم.
ويتزامن عيد الفطر الحالي مع تصعيد للعمليات العسكرية بين الجيش وقوات الدعم السريع في ولايات الجزيرة وسنار والقضارف، مقابل تكثيف سلاح الجو السوداني غاراته على مدينة نيالا وبعض المناطق في ولايتي شمال وشرق دارفور غربي البلاد، في تجاوز للدعوات الدولية والإقليمية لوقف القتال المستمر منذ منتصف أبريل الماضي.
رائحة الموت
ولم يكن الوضع عند سماح التي تقيم في ضاحية الثورة بمدينة أمدرمان غربي العاصمة، بأحسن حالاً فذات الحزن يخيم عليها بعدما غطت رائحة الموت المكان الذي تقيم فيه.
وفي صبيحة العيد مرت سماح التي تحدثت إلى (عاين) بمقابر مجاورة لمنزلها نشأت بسبب الحرب عقب دفن الموتى بشكل اضطراري فيها، وهي كانت في طريقها إلى المسجد لأداء صلاة العيد، وهو مشهد أعاد إلى ذاكرتها حجم المأساة التي عاشتها مع المواطنين العالقين معها في تلك المنطقة نتيجة الصراع المسلح.
ورغم تطاول أمد الصراع ومآسيه، تتفاءل سماح بعودة الحياة، وتقول “عندما بدأت الحرب اعتقدت أنني لن نصمد في الحياة، وبعد مرور عام تحت نيران القتال حاولت إحياء الأمل في داخلي، وذهبت إلى صلاة العيد في المسجد المجاور، يجب أن نتمسك بالأمل مهما تضاءلت الفرص“.
ومع تصاعد وتيرة العنف في الجزيرة والقضارف وسنار وبعض إقليم دارفور، شهدت العاصمة الخرطوم يوم عيد الفطر المبارك هدوء، لا سيما أم درمان التي لم تسجل أي مواجهات بين الجيش وقوات الدعم السريع أو قصف مدفعي متبادل بين الطرفين كما جرت العادة منذ بداية الحرب، وفق ما نقله مراسل لـ(عاين).
وبدا الحزن مضاعفاً عند صديق أحمد الذي يقيم في أحد مخيمات إيواء النازحين في ولاية كسلا، فهو لم يتذوق أي طعم لهذا العيد، وتعامل معه كشعيرة دينية عابرة، فالعيد بالنسبة له منزل وجيران وعشيرة وأصحاب ومجموعة من العادات والتقاليد.
ويقول لـ(عاين) “لم نتمكن من الحصول على ملابس لأطفالنا، ولم نحضر الحلوى، فليس بحوزتنا أي مبالغ مالية، نحن نعيش هنا تحت رحمة جمعيات طوعية بالكاد تستطيع توفير جزء من احتياجاتنا من الأكل والشرب، لكن السكان المحليين اجتهدوا كثيراً في حدود استطاعتهم، حتى يجعلونا سعداء في مثل هذا اليوم“.
ويضيف “بلغنا مرحلة متدهورة من اليأس؛ بسبب تطاول أمد الحرب، نحن ندفع ثمن غالي لذلك في صحتنا وكرامتنا الإنسانية، نشعر بحرج بالغ لأن نظل كل هذه المدة نعتمد على الآخرين، نريد العودة إلى منزلنا. يجب أن يحكم الجميع صوت العقل، ويوفقوا هذا القتال سريعاً حفاظاً على حياتنا، فالملايين يعذبون الآن“.
رعب الطيران
في إقليم دارفور انطبق التدهور الأمني، وتصاعد القصف بالطائرات مع الأوضاع الاقتصادية القاسية على السكان المدنيين، فاختفت ملامح فرصة العيد، وغابت حتى الطقوس الدينية والعبادات في بعض المناطق.
عندما كانت خديجة حسين وهي مواطنة تسكن حي الجير بمدينة نيالا بولاية جنوب دارفور، ترتب للاحتفاء بالعيد رغم الظروف الصعبة، سقطت غارات جوية بالقرب منها دمرت ثلاثة منازل بصورة كاملة، ساعتها اضطرت لمغادرة بيتها بكل ما فيه من مقتنيات، وكان ذلك قبل يوم واحد من حلول عيد الفطر المبارك لتستقبل هذه المناسبة تحت وطأة النزوح، بحسب ما روته لـ(عاين).
“بعد هذه الحادثة لم نهتم بالعيد، بينما ظل جميع سكان نيالا في حالة تأهب، وترغب لأصوات وحركة الطائرات الحربية، حتى يبدأوا في الهرب وتدبير فرص للنجاة، ويصاحب ذلك خوف وهلع خاصة وسط الأطفال الذين نسوا بدورهم العيد وفرحته” تضيف خديجة.
وأجبرت الظروف الاقتصادية نفسها المواطن جمعة محمود الذي يسكن حي الثورة بمدينة نيالا، على التخلي عن شراء مستلزمات العيد وملابس جديدة لأطفاله بخلاف ما اعتاده في السنوات الماضية، وهو ما جعله العيد الأكثر حزناً في حياته، وفق ما يروي لـ(عاين).
ويقول “حتى التجمعات للعبادة لم تكن بالشكل المطلوب، فأعداد المصلين قليلة مقارنة بالأعياد السابقة، إذ نزح غالبية سكان مدينة نيالا بسبب القتال، بينما تخوف الذين ما زالوا مقيمين فيها من الغارات الجوية التي يشنها الطيران الحربي التابع للجيش السوداني، فأدوا صلاة العيد في الساحات القريبة داخل الأحياء السكنية“.
وتسيطر قوات الدعم السريع على مدينة نيالا منذ أكتوبر الماضي بعد سقوط الفرقة 16 مشاة التابعة للجيش السوداني، وبعد توقف سلسلة من المواجهات العسكرية الدامية بين الطرفين راح ضحيتها مئات المدنيين، دخل السكان هناك في رعب جديد مع تكثيف الطيران الحربي غاراته الجوية على المدينة.
وتجمع آلاف النازحين في بلدة “بليل” شرقي مدينة نيالا في ساحة كبيرة لأداء صلاة العيد، وكان يملئونهم أملاً كبيراً في العودة إلى منازلهم، قبل أن يناشدوا طرفي الحرب بالسماح بوصول الإغاثة إلى المتأثرين بالصراع في المنطقة، والتي تضم أكبر عدد من الفارين، وذلك بحسب ما نقله مراسل لـ(عاين).
وأفاد المراسل، أن المواطنين في مدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور التي تخضع لسيطرة الجيش وبعض الحركات المسلحة، استقبلوا عيد الفطر المبارك وهم تحت توترات أمنية مع استمرار حركة النزوح، كما تسيطر عليهم المخاوف من تجدد المواجهات العسكرية في أعقاب تحشيد معلن من أطراف الحرب.
دموع في عطبرة
التهديدات الأمنية نفسها حجبت أهم طقوس العيد في ولاية نهر النيل بما في ذلك عاصمتها عطبرة، حيث أدى السكان صلاة العيد داخل المساجد بدلا من الساحات والميادين، وذلك نتيجة لقرار اتخذته لجنة أمن الولاية على خلفية حادثة الطائرة المسيرة الأخيرة التي سقطت على إفطار رمضاني أقامته “كتيبة البراء” التي تقاتل مع الجيش، وسقط على إثرها 15 قتيلاً.
لكن محاسن جبارة لم تعد تكترث للتهديدات التي تشهدها مدينتها عطبرة، بقدر ما تملكها الحزن والخوف على بنتها العالقة وسط نيران الحرب في أمدرمان، والتي تقضي عيدها الثالث بعيدة عنها.
أنهت جبارة محادثة هاتفية مع بنتها في يوم العيد قبل أن تبدأ مقابلتها مع (عاين) لكن دموعها سبقت كلماتها، فأخذت تبكي على فلذة كبدها، معربة عن حزنها، وأنها لم تجد أي طعم لهذا العيد نتيجة قلقها المستمر على بنتها في ظل الاضطرابات الأمنية التي تشهدها مدن العاصمة السودانية الثلاثة، فهو العيد الثالث الذي تهنئها به وهي تحت دوي المدافع والطائرات وأصوات الرصاص“.
وتمني محاسن جبارة نفسها بوقف عاجل للحرب، وأن تعود الحياة إلى طبيعتها، ويرجع النازحون واللاجئون إلى منازلهم، ويعم السلام ربوع السودان خلال وقت قريب، حتى تستطيع معانقة ابنتها مجدداً، ويلتقي كل الذين فرقتهم ظروف القتال مع أقاربهم ومعارفهم.
ذات الأماني تراود أحمد العوض عبد الله وهو مواطن من مدينة عطبرة، والذي بدا متفائلاً بقدرة السودانيين على تجاوز هذه الفترة العصيبة ونزع البهجة من بين ثنايا الحزن الواسع.
ويقول العوض في حديثه لـ(عاين) “العيد كان مختلفاً في عطبرة هذه المرة، فقد مُنِعْنَا من الصلاة الجماعية في الساحات العامة والميادين التي كانت تسع الجميع، وتشكل أهم مظاهر العيد المبارك. إذ سعى المواطنين في منطقتي على إظهار الفرح وإخفاء اليأس والإحباط، لكن تأثير الأوضاع الأمنية كان بائناً على ملامحهم”.