مصر في السودان.. وأد الديمقراطية الناشئة، لماذا؟

عاين- 8 نوفمبر 2023

تعتقد القوى المؤيدة للديمقراطية في السودان أن مصر عملت لقلب الطاولة على المجموعات المدنية التي جاءت بموجب ثورة شعبية أطاحت بالرئيس عمر البشير منذ الساعات الأولى لتولي رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك الحكومة الانتقالية.

لدى مصر مخاوف كبيرة في الجانب السوداني أبرزها المياه المتمثل في ملف سد النهضة الذي يثير أزمة مع إثيوبيا والسودان، كما تخشى القاهرة من انتقال “رياح الديمقراطية” من السودان إذا نجح مؤيدي الحكم الديمقراطي في المضي قدما نحو إرساء الحكم المدني وهو تصريح جاء من قادة الفترة الانتقالية في السودان خاصة من الشق المدني.

وسعت مصر خلال العامين الماضيين إلى بناء علاقة جيدة مع الجنرال عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة الانتقالي الذي تولى المجلس العسكري عقب الإطاحة بالبشير إثر احتجاجات شعبية قرب القيادة العامة في أبريل 2019.

قبل أيام قليلة من فض اعتصام القيادة العامة في الثالث من يونيو 2019 وهي العملية التي أدت إلى شرخ العلاقة بين السودانيين والجيش زار رئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق أول عبد الفتاح البرهان القاهرة وعقد اجتماعا مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي كانت المهمة تتلخص في كيفية إنهاء الاعتصام المدني قرب وزارة الدفاع السودانية في العاصمة. وفقاً لمصادر.

وكان المفكر السوداني والباحث السياسي، النور حمد ذكر في مقابلة مع منصة سودانية الأسبوع الماضي إن البرهان زار القاهرة قبيل فض اعتصام القيادة العامة لأن مصر أرادت نقل تجربة فض اعتصام رابعة العدوية وتطبيق ذات النموذج في فض اعتصام السودانيين أمام مقر الجيش.

الانقلاب على حمدوك

خلال زيارة رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك القاهرة في مارس 2021 طالب بالتطرق إلى “الملفات المسكوتة عنها” بين البلدين وأبرزها مثلث حلايب وشلاتين وتحدث حمدوك حول ضرورة تشريح الأزمات التي تعرقل وجود علاقة حقيقية وملموسة وندية بين الدولتين.

فُسرت تصريحات حمدوك لدى الجانب المصري على أنها “انقلابا سودانيا مدنيا” على محاولات الاحتواء المصري للسودان حسب مصدر رافق حمدوك في تلك الزيارة -تحدث لـ(عاين). وقال إن “مصر مصممة على عملية القضاء على الديمقراطية الناشئة في السودان “مهما كلف الأمر”.

بينما يعزو الصحفي والباحث في مجال العلاقة بين الجيش والمدنيين، علاء الدين بشير التأثير المصري على تقويض الانتقال المدني في السودان إلى ضعف القوى المدنية نتيجة الإرهاق الناجم عن الضعف العام للدولة والضربات التي تلقتها من الأنظمة العسكرية.

وأردف بشير : “تعود الأزمة أيضا إلى مشاكل بنيوية لدى بعض  القوى المدنية مثل إرتباط الكثير منها بالدولة المصرية وفهمها لهذا الارتباط حتمية وجودية مثل ارتباط المؤسسة العسكرية السودانية بمصر”.

وزاد بالقول: “يرجع ذلك أيضا إلى  التأثير الكبير لمصر على مناهج التعليم العام والعالي والتعليم الدينى فى السودان وتلقى كثير من النخب السياسية قديما وحديثا لتعليمهم فى الجامعات المصرية”.

وقال علاء الدين بشير في مقابلة مع (عاين): “كلما حلت كارثة سياسية في السودان يهرب المعارضون السودانيون إلى مصر وحدث ذلك بعد الحرب الحالية مقابل التواجد السياسي السوداني في مصر ومؤكد أن لهذا التواجد ثمن كبير”.

عرقلة المدنيين

يقول الناشط في منظمات المجتمع المدني بالسودان، أحمد القدال، إن “مصر مصممة على عدم السماح بقيام ديمقراطية في السودان ولذلك هي تعمل بمسارين الأول خلق علاقة استراتيجية مع الجيش السوداني والمسار الثاني وضع “أدواتها داخل الأحزاب والجماعات السودانية” لتخريب أي ملامح للمشروع الوطني بين السودانيين.

متظاهرة ترفع لافتة في مواكب جماهيرية مؤيدة للديمقراطية – 21 أكتوبر 2021

وفي تمعن أكثر دلالة على وجود “علاقة راسخة” بين النظام المصري والجيش السوداني ابتدر البرهان جولته الخارجية فور خروجه من القيادة العامة نهاية أغسطس الماضي بالسفر إلى القاهرة في 29 أغسطس أي بعد أقل من أسبوع من مغادرته مبنى القيادة العامة الذي لا يزال محاصرا بواسطة قوات الدعم السريع.

في ذلك اللقاء الذي عقده مع الرئيس المصري ومدير المخابرات عباس كامل طلبا من البرهان بالعمل على تكوين حكومة في البحر الأحمر حسب مصدر دبلوماسي سابق بوزارة الخارجية تحدث لـ(عاين) مشترطا حجب اسمه.

وأضاف المصدر الدبلوماسي: “عمل البرهان بالمقترحات المصرية وسوّق لفكرة الحكومة في بورتسودان لكنه لم يجد دعما إقليميا خاصة من تركيا وقطر وجنوب السودان وإريتريا وهي الدول التي زارها بعد مصر”.

السيطرة الناعمة

عقب ربط البلدين بالطريق البري في العام 2014 في عهد نظام المخلوع عمر البشير لاحقت الاتهامات مصر بمحاولة السيطرة على الشحنات القادمة من السودان خاصة المنتجات الزراعية التي خصصت لها المصانع وتصديرها على أنها منتجات مصرية.

ويقول الباحث في العلاقات الدولية محمد عباس إن قطعان الماشية في السودان تغري مصر إلى جانب ملايين الهكتارات الزراعية على مجرى نهر النيل.

مراكز دراسات مصرية المهتمة بشأن السودان وعلى صلة بالنظام المصري، تقول إن هذا البلد الذي يقع جنوبا يجب أن يكون تحت “السيطرة الناعمة” لأنه اذا كان نحو مليوني سوداني يقطون شمال السودان، فإن ما يعادل هذه المساحة في مصر يقطنها أكثر من 70 مليون مصري.

ويرى عباس في مقابلة مع (عاين)، أن “العلاقة الراسخة” بين الجيشين في البلدين هي التي تشكل نواة النظام المصري للتدخل “السافر” في الشأن السوداني. وقال إن “تأثير امتداد الجيش السوداني للجيش المصري انعكس بشكل سيئ على السودانيين الذين فشلوا منذ الاستقلال في خلق مشروع وطني بسبب الهيمنة المصرية على المؤسسة العسكرية والنخب السياسية”.

ويضيف عباس: “مصر لا تمانع في عودة إسلاميين تحت سيطرتها إلى السلطة في السودان حتى لو انقسمت البلاد بسبب هذه الحرب فالإستراتيجية الأمنية في القاهرة تواكب تطورات الوضع في الخرطوم”.

الاستحواذ على الموارد

“حصلت مصر من خلال تصنيع الموارد السودانية على منتجات ع قدرها سبعة مليارات دولار خلال أربعة أعوام دون الوضع في الاعتبار كم هي إيرادات السودان لأن الشركات التابعة للمنظومة الدفاعية السودانية تقوم بشراء الموارد بالعملة المحلية من الأسواق، وحاليا تستهدف مصر جني مليارات الدولارات من انتاج الذهب في حلايب وشلاتين وشمال السودان”. يقول عباس.

وأردف : “عندما وصل المدنيون إلى السلطة وفق حكومة إئتلاف انتقالية برئاسة عبد الله حمدوك لم تترك المخابرات المصرية بابا لم تطرقه بحثا عن تقويضها لقد جاءت المعلومات بحالة تشبه الأوامر العسكرية ليلة 25 أكتوبر 2021 إلى قائد الجيش عبد الفتاح البرهان أن حمدوك يجب أن يغادر … بعد ساعات وقع الانقلاب العسكري“.

يستحوذ السودان على مساحة واسعة للممر المائي لنهر النيل وعلى جانبي النهر ملايين الهكتارات الصالحة للزراعة كما إن الذهب من الموارد التي تعمل القاهرة على جذبها إلى مصر واستبدال السوق السوداني ليكون هناك.

 يقول الخبير في قطاع التعدين بالسودان عبد الله يوسف لـ(عاين) متساءلاً؟ “ماذا تريد مصر من السودان”. يجيب: “تريد موقفا من السودان في أزمة سد النهضة وتتطلع إلى وضع النظام السياسي والعسكري في السودان بما يشبه الوصاية والصمت حيال ملف مثلث حلايب وشلاتين، وتريد أيضا الموارد الطبيعية التي يذخر بها السودان، هناك ملايين الهكتارات في السودان وهناك الذهب شمال وشرق البلاد لذلك من الصعب الفكاك من مصر دون بناء نظام ديمقراطي تعددي يسيطر على الجيش لأن الأخير هو امتداد لمصر منذ الاستعمار”.

منذ اندلاع حرب السودان جذبت مصر سوق التعدين السوداني إلى أراضيها وهناك نمو في احتياطي الذهب في البنك المركزي في القاهرة، وأغلب الكميات وصلت من السودان في ظل علاقة راسخة مع الجيش السوداني.

الخبير في قطاع التعدين، عبد الله يوسف

ويقول يوسف لـ(عاين): إن “مصر منذ اندلاع حرب السودان جذبت سوق التعدين السوداني إلى أراضيها وهناك نمو في احتياطي الذهب في البنك المركزي في القاهرة وأغلب الكميات وصلت من السودان في ظل علاقة راسخة مع الجيش في بورتسودان ولا يمكن ضمان وجود رقابة أمنية في المعابر الحدودية”.

ويرى يوسف، أن مصر تريد من السودان أن يتحول إلى “حديقة خلفية” وهي الوضعية التي تتأرجح بين “حالة اللا سلم واللا حرب”  كما هو منذ سنوات طويلة بمعنى أن القاهرة تتغلغل من خلال جنرالات الجيش السوداني وبعض النخب السياسية في خلق “هوة كبيرة” يصعب ردمها بمشروع وطني لأن النخب الموالية لمصر متجذرة في “التربة العسكرية السياسية في السودان”.

حلايب.. الملف المسكوت عنه

ومنذ العام 1995 تسيطر مصر على المثلث حلايب وشلاتين المتنازع عليه بين البلدين شرق السودان والواقع على البحر الأحمر وفي منطقة مناطق تضم موارد من الذهب والثروات السمكية والمعادن. ويقوم الجيش المصري بحراسة البوابات ويمنع آلاف السكان من الانتقال بين أوسيف وبورتسودان إلى المثلث الحدودي.

يقول الباحث في العلاقات الدولية عمر عبد الرحمن لـ(عاين) إن “مصر تحتل مثلث حلايب وشلاتين وهما منطقتان بحجم دولة صغيرة تقع داخل الحدود السودانية حسب الوثائق الموجودة لدى الأمم المتحدة حيث يجدد السودان الشكوى سنويا”.

يقول عبد الرحمن: “مصر تتحكم في مقاليد الأمور في السودان منذ سنوات ولم تكتف بتخريب الانتقال المدني في العام 2021 من خلال تحريض الجيش على الانقلاب قبل عامين على حكومة حمدوك بل استضافت قوى سياسية مناهضة للديمقراطية والانتقال المدني كما تستضيف مدير المخابرات السوداني صلاح قوش“.

وأضاف: “مصر  قدمت الرعاية السياسية لمجموعات سودانية متحالفة مع الجنرالات ضد الاتفاق الإطاري الموقع في ديسمبر 2022 وهو اتفاق لإنهاء الانقلاب واستعادة الحكم المدني”.

 وزاد قائلا : “درج النظام المصري  على إغلاق الأبواب التي توصل السودانيين إلى الحكم المدني فهي لا ترغب حتى في نظام شمولي مدني من خلال دعمها للجيش السوداني ستلاحظ ذلك بوضوح”. يضيف عبد الرحمن.

منطقة شلاتين بمثلث حلايب- الصورة من مواقع التواصل الاجتماعي

وينصح عبد الرحمن، بضرورة العمل بالمقترحات التي دفعها رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك للنظام المصري حينما زار القاهرة في العام 2021 وطالب بتفعيل النقاش بشكل شفاف وجريء حول الأزمات المسكوت عنها بين البلدين.

ويقول: إن “حمدوك في الغالب ذهب إلى مصر في ذلك الوقت ليقول لهم بشكل غير مباشر -كفوا عن صنع الأنظمة العسكرية في السودان- والتصريحات التي أدلى بها رسائل لم تصدر من أي زعيم سوداني منذ الاستقلال”.

وتابع بالقول: “من الممكن أن يطرح مستقلون سودانيون مثل حمدوك بجرأة هذه الملفات على مصر للخروج من حالة الشر المطلق القادم من مصر لكن في ذات الوقت لا توجد داخل القوى المدنية السياسية في السودان رغبة للجم النظام المصري في حدوده لأن المخابرات المصرية لديها أياد  طويلة في السودان”.

ويقول عبد الرحمن، إن “مصر درجت على إرسال رجال المخابرات إلى السودان خاصة بعد فترة سقوط البشير وصعود الحكم المدني، لقد أرادت سحق التحول الديمقراطي في هذا البلد لأنها تخشى من انتقال الرياح شمالا”.

وأردف: “مصر تريد من السودان الحصول على موارده شبه المجانية من خلال صنع أنظمة عسكرية موالية لها خلال هذه الحرب ربما تقود التطورات السودانيين إلى دويلات منقسمة وربما تعمل القاهرة على خلق دولة موالية شمال وشرق البلاد حتى ولو كانت تحت سيطرة إسلاميين المهم أنهم مروّضون من قبل النظام المصري”.

سد النهضة

لم تكن لدى القاهرة تصورات حول مستقبل الحكم في فترة ما بعد البشير كما يقول الباحث في الشؤون الأفريقية عادل إبراهيم لذلك عملت على تأسيس علاقة استراتيجية مع الجيش السوداني الذي ظهرت تدخلاته في ملف سد النهضة خاصة في العام 2020 عندما شن الجيش هجمات على منطقة الفشقة بحجة استعادتها كانت هذه الخطط بإيعاز من نظام السيسي إلى البرهان الذي “أضمر الشر” للمدنيين خاصة حكومة عبد الله حمدوك.

ويضيف : “في وقت كان الاقتصاد السوداني يواجه أزمة كبيرة كان الجيش يخوض معارك شرق السودان لم يستشار المدنيون في أمرها ولم يكن عبد الله حمدوك أمامه سوى الصمت. وفي نهاية المطاف غادر البرهان إلى نيروبي عاصمة كينيا والتقى رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد وقرر إنهاء المعارك رغم عدم استعادة الفشقة … لقد كان يتصرف بما يشبه التحكم من على البعد بواسطة المخابرات المصرية”.