الجيش و”المشتركة” سباق النفوذ الاقتصادي في السودان

عاين- 19 أكتوبر 2025

نسج الجيش السوداني شبكة سميكة في قطاع الاقتصاد خلال النزاع المسلح منذ 30 شهرا، وبينما يصعد الجنرالات إلى قيادة الشركات والمؤسسات المالية تقاتل جماعات مسلحة حليفة للإبقاء على مصالحها في الصناديق الاستثمارية التي تدير قرابة 10 مليارات دولار.

لم يكن اختيار المدير الأسبق لجهاز المخابرات العامة أبو بكر دمبلاب مديرا لشركة الأقطان السودانية الحكومية مطلع أكتوبر 2025 من قبيل الصدفة؛ لأن التنافس على أشده بين الجيش السوداني والحركات المسلحة “جبريل إبراهيم” و”مني أركو مناوي” نحو الصناديق المالية والشركات المالية.

من الملفات التي تختفي وراء نيران الحرب قصة أربعة صناديق مالية كبرى تديرها وزارة الموارد البشرية والرعاية الاجتماعية والعمل في السودان والتي استحوذت عليها حركة العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم منذ فبراير 2021 وهي “الجهاز الاستثماري الضمان الاجتماعي” و “هيئة صندوق التأمينات” و”الصندوق القومي للمعاشات” و”ديوان الزكاة” وتقدر حركة الأموال والأصول والمنقولات لهذه الصناديق القومية المتباينة ما بين الاستثمار والحماية الاجتماعية بنحو 7 مليارات دولار.

البقاء في اقتصاد الظل

ألقى النزاع المسلح في السودان بظلال قاتمة على القطاع التنفيذي والتشريعي، وتقلص دور ديوان المراجع العام وغياب البرلمان منذ ستة أعوام، وأدت هذه التعقيدات إلى نشوب خلافات بين ديوان المراجع لجمهورية السودان وهي الجهة المسؤولة وفقا للقانون في مراجعة الأداء المالي للجهاز الاستثماري للضمان الاجتماعي بعد أن تمسك الأول بمراجعة الموازنة الرئيسية عوضا عن مراجعة أموال الاستثمارات وفق ما نقله مصدر مطلع لـ(عاين).

في تصريحات لوسائل إعلام محلية منتصف أكتوبر 2025 قال المفوض العام للجهاز الاستثماري للضمان الاجتماعي سيف الدولة سعيد كوكو إن الأموال لا تُصرف بواسطة أي جهة نافيا وجود نفوذ لوزارة المالية والتخطيط الاقتصادي على أموال الجهاز الاستثماري، وشدد على أن هذه الإجراءات غير ممكنة؛ لأن هذه الأموال تخص العمال والمعاشيين.

ويقول مصدر من ديوان المراجع العام لجمهورية السودان من مقره في بورتسودان شرق البلاد لـ(عاين) بشأن أزمة مراجعة حركة الأموال والاستثمارات في الجهاز الاستثماري للضمان الاجتماعي: إن “مراجعي الديوان يودون الحصول على جميع التقارير من الجهاز الاستثماري لغرض التدقيق وحماية المال العام”. وأردف: “حتى الآن نسعى للخروج بتقرير كامل حول أداء الجهاز، رغم العقبات التي تعترض طريق موظفي المراجعة نحن لن نستسلم أبدا” مضيفا: “هم يصرون على مراجعة الأداء المالي، ونحن نتمسك بمراجعة الميزانية الكلية للجهاز الاستثماري”.

لماذا جاء دمبلاب إلى “الأقطان”؟

السباق نحو الشركات الحكومية الكبرى لم تقتصر على “المتمردين السابقين في إقليم دارفور” والمتحالفين مع الجيش السوداني في الحرب ضد قوات الدعم السريع، بل شمل القوات المسلحة بقيادة عبد الفتاح البرهان، والتي وضعت أقدامها على الشركة السودانية للأقطان بتعيين الفريق أبو بكر دمبلاب المدير الأسبق لجهاز المخابرات وخريج الكلية الحربية للعام 1982.

بتعيين دمبلاب مسؤولا عن شركة الأقطان السودانية يكون الجيش السوداني قد وضع سُلما نحو “اقتصاد الشركات الحكومية” متوسعًا إلى أسواق الصادرات الزراعة والمعدات الصناعية التي تحقق ثروات هائلة تبقى في “اقتصاد الظل”.

أبوبكر دمبلاب مدير المخابرات الاسبق

وكشف مصدر حكومي لـ(عاين) عن وضع الجيش السوداني دمبلاب على رأس الشركة السودانية للأقطان، حتى يقدم تسهيلات لتصدير شحنات القطن إلى مصر والتي بدورها تحصل على الخام السوداني، وتعيد صناعتها وتحقق ملايين الدولارات.

ويضيف المصدر الحكومي: “مصر تريد الاستحواذ على شحنات القطن من السودان ودمبلاب هو الشخص المناسب لتنفيذ هذا الأمر بدعم من عبد الفتاح البرهان قائد الجيش السوداني ورئيس مجلس السيادة السوداني”.

يعيش السودان منذ سنوات دون أي هيكلة ملموسة للمؤسسات الحكومية؛ بسبب التأثيرات الأمنية والعسكرية والنزاعات المسلحة وتطاول بقاء نظام البشير لأكثر من 30 عاما، وفي هذا الصدد يقول الباحث في الاقتصاد السياسي محمد كمال لـ(عاين): إن “الشركات والصناديق الحكومية تعاني اختلالات إدارية وهيكلية، رغم ادعاء المسؤولين عدم وجود ذلك، وإذا كانوا يعملون بشفافية لماذا حدث الصراع بين الجيش السوداني وقادة الحركات المسلحة في بورتسودان قبل توزيع الحقائب الوزارية في مايو 2025؟.

ويقول محمد كمال: “خلال الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع انحازت حركة العدل والمساواة إلى حلف الجنرال عبد الفتاح البرهان للحفاظ على مكاسب اقتصادية ومالية هائلة من بينها السيطرة على الصناديق الاستثمارية القومية”.

ويشرح الباحث في الاقتصاد السياسي محمد كمال أبعاد أخرى حول سباق الجماعات المسلحة للسيطرة على المؤسسات المالية والاقتصادية مشيرا إلى أن جبريل إبراهيم زعيم حركة العدل والمساواة انتصر في نهاية المطاف عندما دخل في صراع مع قائد الجيش في مايو 2025 للحصول على وزارتي المالية والرعاية الاجتماعية وعلينا أن نسأل لماذا يتمسك قائد العدل والمساواة بالمؤسسات الاقتصادية؟.

ويقول محمد عمرابي المستشار المالي السابق لبعض الشركات في العاصمة السودانية لـ(عاين): إن “الجيش السوداني يريد تكرار نموذج التجربة المصرية في الاستحواذ على الاقتصاد بشكل كامل من خلال السيطرة على الصادرات والواردات”.

ويعتقد عمرابي، أن الجنرال عبد الفتاح البرهان معجب بالنموذج المصري، ويريد نقله إلى السودان ولذلك انقلب على الحكم المدني والسبب الاقتصاد إنهم وصلوا بالفعل إلى قطاع صناعة المطارات والطيران والنفط والصادرات الزراعية والذهب.

وتابع: “يخطط الجيش السوداني لرفع استثماراته إلى 50 مليار دولار خلال خمسة أعوام داخل حلبة الاقتصاد السوداني المرتبط بالدولة نفسها لا شركات موازية فقط”.

كيف أنقذ الاقتصاد تحالف الجنرالات من الانهيار؟

كاد تحالف الجيش والقوة المشتركة حيث تتقاسم الأخيرة وزارات اقتصادية حيوية داخل حكومة كامل إدريس المدعومة من القوات المسلحة في بورتسودان، كاد أن ينهار في مايو 2025 مع نقاشات قسمة السلطة.

جرى إنقاذ التحالف العسكري في اللحظات الأخير بالحفاظ على المكاسب الاقتصادية والسياسية والنفوذ المالي في حكومة كامل إدريس والصناديق المالية. ويرى الباحث في الاقتصاد السياسي محمد كمال، إن البرهان انحنى للعاصفة لإنقاذ الوضع العسكري في كردفان؛ لأن القوة المشتركة (تحالف حركات مسلحة) جمدت العمليات الحربية لثلاثة أشهر؛ بسبب خلافات قسمة السلطة بين أبريل ويوليو 2025.

ولتقريب الصورة في أكبر صندوق استثماري حكومي يشرح محمد حسب الله الباحث في مجال أسواق المال في حديث لـ(عاين) الصورة الكاملة حول استثمارات الجهاز الاستثماري للضمان الاجتماعي التابع لوزارة الرعاية الاجتماعية (تحت مسؤولية حركة جبريل إبراهيم) والتي تشمل مصنع الأسمنت في نهر النيل ومباني عقارية في العاصمة السودانية وأسهم في البنك الفرنسي والمساهمة بالأغلبية في بنك الأسرة وبنك الادخار وبنك العمال.

رئيس حركة العدل والمساواة جبريل إبراهيم مع مساعد قائد الجيش (مواقع التواصل الاجتماعي)

وقال حسب الله: “عندما نتحدث عن تعيين مجالس الإدارات في البنوك وحتى الجهاز الاستثماري للضمان الاجتماعي لا يُعلن للرأي العام، واعتادت وزارة التنمية الاجتماعية على إخفاء كافة الإجراءات الإدارية والمالية”.

ويضيف: “حينما أطاح الانقلاب العسكري بالحكومة الانتقالية نهاية أكتوبر 2021 سارع وزير المالية والتخطيط الاقتصادي إلى تعيين سيف الدولة سعيد كوكو مفوضا عاما على الجهاز الاستثماري للهيمنة المالية والاقتصادية على شبكات ضخمة تدير الأموال المتدفقة من القطاعين العام والخاص”.

يقول حسب الله: “اتخذت وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي من مبنى التأمينات في بورتسودان مقرا لها وهو مبنى يتبع للجهاز الاستثماري كما لو أن الأمور متداخلة بينهما طالما عُين المفوض بواسطة جبريل إبراهيم”.

عمال جوعى بلا حماية اجتماعية

ولصنع صورة مقربة عن الصناديق الحكومية وحركة الأموال التي تقدر بملايين الدولارات نعود إلى لقاء المفوض العام لصندوق الضمان الاجتماعي سيف الدولة سعيد كوكو بالصحفيين في بورتسودان نهاية مايو 2025، والذي صرح فيها قائلا: إن “الصندوق تعرض إلى خسائر خلال الحرب ويسعى إلى دمج بعض شركاته لخلق كتلة اقتصادية ومالية قادرة على الاستثمارات”. مشيرا إلى أن الصندوق يعتزم استخدام الأقمار الاصطناعية لحصر العقارات والأراضي بالعاصمة والولايات.

بينما لم تكن هذه الصناديق بمثابة الجهة المنقذة لقرابة سبعة ملايين عامل فقدوا عملهم منذ اندلاع الحرب ما بين القطاع العام والخاص، ولم تصمم برامج الحماية من الفقر والجوع خلال النزاع المسلح الذي يمتد للشهر الـ 30 بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع جراء تآكل العملة الوطنية وتوقف صرف الرواتب وتسريح العمال.

تقول الباحثة الاجتماعية سوسن عبد الكريم لـ(عاين): إن “الصناديق الحكومية أو الشبه حكومية تحاول إخفاء المعلومات عن حركة الأموال والاستثمارات، على الرغم مشروعية هذا الأمر مع الوضع في الاعتبار أن هذه الأموال تخص مئات الآلاف من العمال في القطاعين العام والخاص، وتقدر بملياري دولار”.

وتقدم سوسن عبد الكريم، شرحا حول السياسات التي اتخذها الجهاز الاستثماري لحماية العمال السودانيين خلال الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع: “يُدار الجهاز الاستثماري الذي يصنف كـ إمبراطورية مالية بواسطة حركة مسلحة متحالفة مع الجيش السوداني منذ اتفاق سلام جوبا منذ العام 2021 وبينما سعى عبد الله حمدوك رئيس الوزراء السابق بتعيين شخص خارج دائرة الحركة المسلحة أعاد جبريل هيمنته على الجهاز الاستثماري منذ أكتوبر 2021”.

كيف يحدث التعتيم على ثروات مالية هائلة؟

“ثروات مخفية” عن أنظار الشعب السوداني هكذا يصف المحلل الاقتصادي محمد إبراهيم الشركات والصناديق المالية الحكومية حيث تتسابق عليها القوات المسلحة و”متمردون سابقون في إقليم دارفور” للهيمنة عليها مشيرا إلى أن هذه المؤسسات تستقطب أموال العمال والموظفين في القطاعين العام والخاص، ولا تنعكس على الطبقات العاملة في وضعهم المعيشي سوى صناديق غذائية صغيرة في بعض الأحيان.

وتابع: “النزاع المسلح يستهدف الاقتصاد أولا والجيش السوداني تحول من مؤسسة عسكرية معنية بحماية الحدود والدستور والمواطن إلى غول اقتصادي يريد كل شيء لنفسه، وهذا المسار لا يسمح بتحقيق الحكم المدني والديمقراطية؛ لأنه يغذي الصراعات الأهلية والمناطقية”.

السودانيون.. حرب أخرى ضد غلاء الأسعار

في بورتسودان حيث مقر الحكومة المدعومة من الجيش خلافات مكتومة بين المركزي والجهاز الاستثماري للضمان الاجتماعي على خلفية طلب الأخيرة قرضا ماليا لبعض المشاريع، بينما يعتقد مسؤولو بنك السودان أن الوضع لا يسمح بالقروض المالية في الوقت الراهن في ظل تدهور الاقتصاد وسعر الصرف.

أبلغ مصدراً من البنك المركزي (عاين): “واحدة من الأسباب التي عجلت بإقالة محافظ البنك المركزي السوداني خلافاته مع جبريل إبراهيم وزير المالية والجهاز الاستثماري إلى جانب شركات الذهب.. الجميع هنا يريدون السيطرة على المؤسسات المالية والاستثمارية”.

استثمارات في خدمة الحرب

ويشير الباحث في فض النزاعات المسلحة في أفريقيا عادل أحمد إبراهيم لـ(عاين): إن “الاستثمارات والشركات والأموال والصناديق الحكومية ومناجم الذهب في السودان هي التي تحدد الخارطة العسكرية في السودان”.

وأردف: “أينما تدفقت الأموال والذهب تكون هناك مجموعات مسلحة متحالفة مع الجيش السوداني هكذا تحول السودان إلى مصدر لولادة المليشيات التي انخرطت في الذهب والحصول على السلطة للبقاء في المؤسسات المالية والاستثمارية ومثال ذلك بقاء حركة العدل والمساواة لأربع سنوات مهيمنة على وزارة المالية ووزارة الرعاية الاجتماعية والصناديق الاستثمارية التي تتبع لها”.

وعما إذا كانت هذه الصناديق تساعد على استمرار الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع يقول عادل أحمد إبراهيم الباحث في مجال فض النزاعات إن الأمور متداخلة بين المؤسسات الحكومية والأمنية والمالية دون كوابح لعدم وجود برلمان أو أجهزة رقابية بما في ذلك تعطيل صلاحيات ديوان المراجع العام.

وأضاف: “قائد قوات الدعم السريع الفريق أول محمد حمدان حميدتي سعى بشكل حثيث في 2021 للمشاركة في الجهاز الاستثماري للضمان الاجتماعي؛ لأنه يعلم القيمة المالية لهذه المؤسسة، والتي تدير استثمارات عقارية بما لا يقل عن 1.2 مليار دولار”.

أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *