السودان: اقتصاد الحرب هل خرج عن السيطرة؟

عاين- 20 أغسطس 2025

تشرح ريم محسن 35 عامًا، وهي معلمة في مدرسة ابتدائية شمالي السودان، كيفية تدبير المصروفات اليومية لشراء الطعام والسلع الاستهلاكية لعائلة تتكون من خمسة أطفال وتشكو غلاء الأسعار. وتقول لـ(عاين)، إن “حجم الإنفاق الشهري على الطعام والدواء والتعليم والكهرباء والمياه وغاز الطهي يصل إلى 1.5 مليون جنيه (حوالي 500 دولار أميركي) في المتوسط بينما الراتب الشهري لا يتجاوز 180 ألف جنيه ما يعادل (60 دولارا أميركيا)“.

بين يناير ويوليو 2025 زادت وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي الرسوم الجمركية على السلع الوارد عبر المطارات والمعابر ثلاث مرات، وعندما سأل الصحفيون وزير المالية جبريل إبراهيم حول هذه الإجراءات أجاب قائلا: “لا توجد تعرفة جمركية ثابتة” في إشارة إلى تعويم قيمة الجمارك.

جراء الزيادات المتوالية في التعرفة الجمركية الحكومية وتخطيها حاجز 2400 جنيه سوداني ارتفعت أسعار السلع الغذائية والاستهلاكية في السودان بنسبة 300% عما كانت عليها نهاية العام الماضي.

تحسن الميزان التجاري

وتكتمت وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي حول بنود موازنة العام 2025 التي أجازتها قبل سبعة أشهر، فيما يقول محمد كمال الباحث الاقتصادي لـ(عاين): إن “الموازنة مصممة بصورة تقديرية في الإنفاق الحكومي والعسكري، بينما تركت وزارة المالية التفاصيل المتعلقة بالتنمية والتعليم والصحة للاعتماد على تمويلها من وكالات الأمم المتحدة”.

ويوضح مصدر من وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي في بورتسودان لـ(عاين)، أن الحكومة السودانية استعادت 30% من الإيرادات التي فقدت خلال الحرب وتبقت نسبة 70% ليعود الوضع عما كان عليه قبل عامين.

وأردف المصدر الحكومي قائلا: “من المتوقع تحسن مؤشرات الاقتصاد اعتبارا من مطلع 2026؛ لأن الرسوم الجمركية ستكون مرنة مع سعر الصرف أي أن الأخير سيتحكم في التعرفة الجمركية”.

وأشار إلى أن الحرب أدت إلى حجب استيراد سلع كمالية من الصين ما أدى إلى تحسن ملحوظ على الميزان التجاري باستيراد السلع الضرورية والمهمة خلال العامين الماضيين لذلك لا تتوقع الحكومة أن تكون هناك ضغوط على العملات الأجنبية- يضيف المصدر الحكومي.

توقعات بزيادة جديدة للأسعار

فيما يقول الباحث الاقتصادي محمد كمال، أنه طالما بقي السوق الموازي للعملات نشطًا في بورتسودان وعطبرة وكسلا والخرطوم سيدفع الجنيه السوداني الثمن الفادح يوميا، بينما لا يملك البنك المركزي احتياطيات نقدية من الدولارات.

وتابع قائلا: “سعر الدولار الأميركي في السوق الموازي تجاوز 3.200 ألف جنيه ويتوقع أن يرتفع إلى 4 آلاف جنيه خلال هذا العام ما لم تحصل الحكومة على قرض خارجي يتجاوز ملياري دولار إذا وافقت على وقف الحرب”.

على بعد خطوات قليلة من السوق الرئيسي في بورتسودان يردد رجال أغلبهم في العقد الرابع من العمر أمام المارة عبارة “صرف صرف” في إشارة إلى استبدال العملة الأجنبية في المدينة التي تضم المطار الرئيسي، وتزدهر بها حركة السفر من وإلى خارج البلاد.

بائعة خضروات في سوق صغير بدارفور

ويقول الخبير في الحكم المحلي محمد شرف الدين لـ(عاين): إن “الحكومة القائمة في بورتسودان تعتمد على توسيع الضرائب؛ لأنها يائسة من استعادة القطاعات الإنتاجية التي دمرت خلال الحرب على المدى القريب مضيفا أن بناء الميزانيات المرصودة للحرب والإنفاق العسكري والأمني يعتمد على تحقيق إيرادات متوقعة من الضرائب على السلع والخدمات بنسبة 1.4 مليار دولار هذا العام”.

ويضيف بالقول: “الاعتماد الحكومي على الضرائب والرسوم المتعددة يعني تحمل المواطنين الفواتير الاقتصادية، والتي تنعكس على الوضع المعيشي؛ لأن الحكومة فقدت قرابة مليار دولار من القطاعات الإنتاجية”.

ويشير شرف الدين، إلى أن الحكومة لديها اعتقاد أن القبضة الأمنية كافية لإسكات المواطنين عن قضايا المعيشة ومع ذلك حال توقف الحرب وخلال سيطرة الجيش على العاصمة وشعور الناس بعودة الحياة سيثيرون أسئلة الاقتصاد والمعيشة في مواجهة حكومة كامل إدريس.

الرسوم الجمركية تعمق الأزمة

يقول التاجر صابر عز الدين، والذي استورد عبوات زيت الطعام من مصر عبر ميناء وادي حلفا شمال السودان لـ(عاين): “سددت رسوم جمركية تصل إلى ثلاثة مليون جنيه ما يعادل 900 دولار أميركي لشحنة صغيرة من زيت الطعام مستوردة من مصر”.

ويتابع قائلا: “الرسوم الجمركية تنعكس على الأسعار، عبوة الزيت كانت تباع نهاية العام بـ 44 ألف جنيه الآن تباع بـ 65 ألف جنيه”.

هذا النموذج للضرائب الحكومية على السلع الوارد يعكس زيادة أسعار السلع الاستهلاكية والغذائية بالتالي ارتفاع غير مسبوق لتكلفة المعيشة وسط السودانيين، بينما لا يتوقف سعر الصرف من الصعود في السوق الموازي لا يمكن التنبؤ بتوقف أسعار السلع عند هذه الحدود.

النقل ينعكس على الأسعار

يقول محمد فرج الله وهو تاجر في سوق الدمازين في إقليم النيل الأزرق متحدثا عن أسعار السلع الاستهلاكية والمتأثرة بارتفاع تكلفة النقل والوقود وسعر الصرف في السوق الموازي: “عندما تتشارك الشاحنة مع التجار لنقل السلع من مدينة ودمدني، رغم ذلك تؤثر تكلفة النقل على أسعار السلع مثلا عندما يتم استلام جوال السكر زنة 50 كيلو بسعر 132 ألف جنيه بالمقابل في الدمازين يباع بـ 145 ألفاً”.

 ويتابع فرج الله في مقابلة مع (عاين): “أما تكلفة النقل لا تقل عن مليون جنيه” (ما يعادل 300 دولار أميركي) لقطع طريق طوله حوالي 250 كيلو متر”.

عملية تفريغ محصولات زراعية من شاحنة بإقليم دارفور

ودفع انهيار الجنيه السوداني في السوق الموازي خلال مطلع أغسطس 2025 حكومة كامل إدريس إلى منع حصول مستوردي السيارات على العملات الأجنبية من السوق الموازي ومع ذلك قفز الدولار الأميركي إلى 3.200 ألف جنيه خلال آخر التعاملات.

زيادات متوالية في الطيران

ونفذت شركات الطيران المحلية المملوكة للقطاع الخاص زيادات بنسبة 40% على أسعار الرحلات من وإلى السودان، وقفزت قيمة التذكرة من مطار بورتسودان إلى مطار القاهرة إلى 1.55 مليون جنيه ما يعادل 340 دولاراً أميركياً وفق عثمان عبد الوهاب المتعامل في وكالة سفر بمدينة بورتسودان.

ويقول عثمان الوهاب لـ(عاين): إن “شركات الطيران المحلية بررت زيادة التذاكر بتقلب سعر الصرف في السوق الموازي إلى جانب استمرار المخاطر الأمنية على مطار بورتسودان للشهر الثالث على التوالي منذ هجوم الطائرات المسيرة في مايو الماضي”.

وأردف: “كلما زاد سعر الصرف في السوق الموازي ستضع شركات الطيران زيادات جديدة على أسعار التذاكر والخدمات الجوية بما في ذلك شحن السلع عبر المطارات”.

وتدافع الحكومة السودانية عن السياسات الاقتصادية التي اتخذتها خلال الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع، وذكر وزير المالية والتخطيط الاقتصادي جبريل إبراهيم أن الحرب أدت إلى اتخاذ سياسة تقشفية صارمة بالنسبة للمؤسسات الحكومية والإنفاق العام.

سودانيون في مطار بورتسودان الدولي بالسودان 11 مايو 2023 (رويترز)

ولم تحصل الحكومة السودانية على قرض دولي منذ العام 2021 إثر انقلاب قائد الجيش على الحكومة الانتقالية بقيادة عبد الله حمدوك وخلال الحرب لجأ السودان إلى تمويل الإنفاق العسكري من إيرادات الذهب مخفضًا بشدة تمويل الأجور في القطاع العام وبنود التنمية والتعليم والصحة.

صعود اقتصاد الحرب

ويقول المحلل الاقتصادي وائل فهمي: “من الطبيعي أن يكون الاقتصاد في السودان قائما على موازنة الحرب علاوة على ميزانيات أمنية لحماية المدن التي استعادتها القوات المسلحة وحجم الإنفاق في هذه البنود أعلى بكثير من البنود الأخرى”.

وأوضح فهمي لـ(عاين) صعوبة بناء صورة واقعية للاقتصاد في السودان خلال الحرب مع ارتفاع نسبة التضخم والانفلات الأمني وأعمال الصيانة الجارية بالتركيز على العاصمة السودانية.

وفي خطاب رسمي أعلن رئيس مجلس الوزراء المعين من جانب قائد الجيش السوداني من مدينة بورتسودان العاصمة الإدارية المؤقتة خلال الحرب عن استمرار الحرب إلى حين حسم قوات الدعم السريع ما يلقي أعباء كبيرة على الاقتصاد الذي يتهاوى يوميا بسبب تآكل قيمة الجنيه السوداني وشلل القطاعات الإنتاجية.

تحكم أمني على الأسواق

ويقول الباحث الاقتصادي محمد كمال: إن “الحكومة السودانية لديها اعتقاد أن الاقتصاد ما بعد الحرب أو مرحلة السيطرة على العاصمة السودانية يجب أن يكون تحت التحكم الأمني لذلك وضعت القيود على السيولة النقدية، ولا تزال البنوك تحجم عن اختبار الأسواق الجديدة في الولايات؛ لأنها تكبدت خسائر فادحة”.

ويشير كمال، إلى أن هذا الوضع يحتم على الحكومة الاعتماد على الضرائب في الوقت ذاته هناك تآكل لقيمة العملة الوطنية والموارد المالية من الذهب وإيرادات المطار والموانئ توجه للإنفاق العسكري والحرب.

عُملة مزيفة.. سلاح آخر للدعم السريع يلتهم أموال عالقي حرب الخرطوم
فئات من الجنيه السوداني المستبدل حديثا- عاين

وأضاف كمال: “في تقرير منظمة الزراعة والأغذية الأممية أكدت مطلع هذا العام أن إنتاج السودان من الحبوب الموسم الماضي من الدخن والذرة 6 مليون طن وهو فائض عن الاستهلاك المحلي بواقع مليوني طن ومع ذلك هناك مشكلة أساسية تتعلق بنقل وتوزيع هذا الإنتاج؛ بسبب عوامل لها علاقة بالحكومة وارتفاع أسعار الوقود”.

ومع ذلك فإن وزير المالية والتخطيط الاقتصادي جبريل إبراهيم يظهر تفاؤلا بتحقيق استقرار اقتصادي مقبول خلال الفترة القادمة بالاتفاق مع الشركات والدول على تنفيذ مشاريع الطرق والمطارات ومحطات الكهرباء بنظام “البوت” أي تشغيل هذه المرافق وتحصيل تكلفة التمويل.

وقال جبريل إبراهيم في مقابلة تلفزيونية في مايو 2025 إنه أكثر تفاؤلا بتحقيق تقدم مقبول في الوضع الاقتصادي قبل نهاية هذا العام اعتمادا على هذه الخطط مع الوضع في الاعتبار أن الحرب لن تستمر وفق إبراهيم.

أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *