السودانيون.. حرب أخرى ضد غلاء الأسعار

عاين- 25 يوليو 2024

حولت الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع السودان إلى مستنقع من الأزمات أبرزها الأزمة الاقتصادية جراء التدهور المتسارع للعملة الوطنية يرافقه تزايد الإنفاق العسكري وتوقف تاماً للدعم الحكومي على السلع الأساسية مثل الوقود والقمح والأدوية والتعليم والصحة، وتتضاعف معاناة المواطنين مع غلاء الأسعار واشتعال الأسواق.

اكتفت عائلة سيدة سودانية تقيم في مدينة بورتسودان شرقي البلاد، ومكونة من 7 أفراد بوجبة واحدة فقط خلال اليوم، ويتطلب ذلك من السيدة التي تعيل الأبناء توفير ما يقارب العشرين ألف جينه لتوفير هذه الوجبة المتواضعة وهو ما تراه مستحيلا إذا استمر ارتفاع أسعار المواد الغذائية بالوتيرة الحالية. حسب ما افادت هذه السيدة (عاين).

وشمالي السودان، يقول صاحب متجر لـ(عاين): أن “العديد من الأسر تخلت عن مشتريات مواد غذائية اعتادتها في وقت سابق، ووصل الحال ببعضهم الآن إلى شراء (نصف كورة) فقط من (حبوب العدسية) لتعين العائلة على وجبة واحدة في اليوم”.

ويواجه ملايين السودانيين العالقين في مناطق الحرب، ومن هم في الولايات الآمنة هذه الأيام ارتفاعا شديدا في أسعار المواد الغذائية التي وصلت مستويات قياسية وسط مخاوف من تصاعدها مع استمرار انهيار الجنيه السوداني.

لم يغادر الجنيه السوداني “مقصلة الحرب” بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع بقيادة الجنرالين عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو وما زال يتعين على البنك المركزي وضع حد لـ”الانفلات العدواني للجنيه” كما يقول الباحث الاقتصادي أحمد بن عمر مرجحاً وصول سعر الصرف إلى مراحل قد تجعل الجنيه السوداني غير مطلوب للتداول.

إذا استمر تدهور الجنيه بهذه الوتيرة لا يمكن أن يعتمد العاملون مثلا في القطاع الحكومي على الأجور الشهرية لن تكون ذات قيمة في القوة الشرائية للسلع والخدمات.

باحث اقتصادي

بلغ سعر الدولار الأمريكي في السوق الموازي في المدن الواقعة تحت سيطرة الجيش السوداني 2900 ألف في أعلى مستوى منتصف يوليو الجاري قبل أن يتراجع بشكل طفيف إلى 2600 جنيه عقب تأخر طلبات حكومية نهاية الأسبوع الماضي.

السودانيون.. حرب أخرى ضد غلاء الأسعار
الصورة من ولاية البحر الأحمر- بورتسودان

شلل القوة الشرائية

يقول الباحث الاقتصادي أحمد بن عمر لـ(عاين): “إذا استمر تدهور الجنيه بهذه الوتيرة لا يمكن أن يعتمد العاملون مثلا في القطاع الحكومي على الأجور الشهرية لن تكون ذات قيمة في القوة الشرائية للسلع والخدمات”.

ويضيف: “لا مخرج سوى وقف الحرب واستعادة ميزان الصادرات لصالح الجنيه السوداني برفع النقد الأجنبي في البنوك وهذا يتطلب سلسلة طويلة من العمليات المالية والاقتصادية لا تستطيع الحكومة القائمة القيام بها”.

يفاقم الإنفاق العسكري من وضع الاقتصاد في السودان، ويطلب جنرالات الجيش المزيد من الأموال لشراء الأسلحة من الصين وإيران وبعض الوسطاء الذين عادوا إلى العمل مع القوات المسلحة لتوريد الأسلحة.

فيما يشير الخبير الاقتصادي محمد إبراهيم، إلى أن دائرة المشتريات بالجيش السوداني لديها سطوة كبيرة على الحكومة القائمة في بورتسودان، وتطلب المزيد من الأموال لعقد صفقات الأسلحة مع الموردين.

ويرجح إبراهيم في مقابلة مع (عاين) وصول مبيعات الأسلحة إلى الجيش السوداني من وسطاء عابرين إلى 120 مليون دولار خلال هذا العام يسدد على دفعات مالية بالتالي يشعل ما يسميه بـ”نهم صفقات الحرب” أسواق النقد الأجنبي في مدن بورتسودان وكسلا وعطبرة والقضارف وهي أكبر أربع مدن في تجارة العملة.

توقف الدعم الحكومي

وجراء خروج الحكومة من دعم السلع الأساسية مثل الوقود وطحين القمح والأدوية والكهرباء والتعليم والصحة أصبح غالبية المواطنين على حافة الفقر المدقع وفق محمد إبراهيم، مردفا:”الحكومة أوقفت دعم السلع منذ عامين أي أن فترة ما قبل الحرب شكلت مقدمة لما يحدث الآن”.

بينما تمول الحكومة صفقة الأسلحة تحت مبرر خوض الحرب بنحو 25 مليون دولار شهرياً فإنها ليست مستعدة لتمويل استيراد أدوية بقيمة 50 مليون دولار خلال ثلاثة أشهر للقطاع الصحي

خبير اقتصاد

وزاد قائلاً: “بينما تمول الحكومة صفقة الأسلحة تحت مبرر خوض الحرب بنحو 25 مليون دولار شهرياً فإنها ليست مستعدة لتمويل استيراد أدوية بقيمة 50 مليون دولار خلال ثلاثة أشهر للقطاع الصحي العام حيث يفارق مئات المرضى الحياة بحثا عن أدوية منقذة منعدمة”.

ويوضح إبراهيم، أن الضرائب التي تحصل عليها الحكومة من السلع وخدمات الجوازات والمطارات تصل إلى (100) مليون دولار شهريا وتنفق على مؤسسات الدولة ورواتب ومخصصات أعضاء مجلس السيادة. وقال: “إن المصروفات الحكومية ارتفعت خلال الحرب بنسبة 50% لزيادة مخصصات المسؤولين”.

ويؤكد الخبير الاقتصادي محمد إبراهيم، أن الاقتصاد جراء تراجع صادرات الماشية والمنتجات الزراعية خسر نحو 800 مليون دولار في النصف الأول من هذا العام. وقال: إن “الإنفاق الحكومي على التنمية والسلع الأساسية لم يتجاوز 3% في النصف الأول من العام 2024 بما في ذلك قطاع التعليم والصحة”.

السودانيون.. حرب أخرى ضد غلاء الأسعار
الصورة من الولاية الشمالية – مروي

لا أحد يسمع صراخنا

في رقعة صغيرة تعد سماح الحسين 32 عاماً الطعام بمنزل عائلتها بمدينة الأبيض في السودان خلال الكوارث والحروب عادة يتشارك السودانيون الغذاء بينهم في ظل ارتفاع أسعار السلع وظهور مؤشرات الجوع على ملامح الناس وفقا لهذه السيدة المُهتمة بالعمل الإنساني.

مصروفات الحكومة تركز على الحرب، ولا أحد يسمع صراخنا

مواطنة سودانية

في مدينة الأبيض بولاية شمال كردفان والمحاصرة من الدعم السريع يباع جوال الذرة، الغذاء الرئيسي للسودانيين بسعر 90 ألف جنيه وفي مناطق الإنتاج يباع الجوال بسعر 65 ألف جنيه عندما تصل الشحنات إلى الأبيض تمر بسلسلة حواجز عسكرية للدعم السريع وعصابات مسلحة في الطرقات.

يستميت المواطنون في الأبيض لإشعال نار الطهي مع شح غاز الطبخ ووصول سعر الأسطوانة خمسة كيلو غرام إلى 140 ألف جنيه من خمسة آلاف جنيه قبل الحرب ويجمعون المياه من مصادر الأمطار لأن المحطة الرئيسية شبه متوقفة تقول- سماح الحسين لـ(عاين).

وارتفع جوال السكر إلى 170 جنيهاً سودانياً بعد سلسلة من الزيادات بدأت من 45 ألف جنيه مطلع هذا العام. وتقول سماح، إن “الغذاء بات شحيحاً والناس يشعرون بالجوع، ويؤثر ذلك على أجساد الأطفال بالهزالة والأمراض مثل الملاريا ونقص الدم”.

وتضيف سماح: “مصروفات الحكومة تركز على الحرب..إنهم يخوضون حربا لا أحد يسمع صراخنا”. وتشير سماح إلى تخلي العائلات عن شراء اللحوم حيث وصل سعر الكيلو غرام إلى 27 ألف جنيه وسعر عبوة كبيرة من زيت الطعام 100 ألف من 33 ألف جنيه مطلع هذا العام. كما قفز جوال الأرز إلى 65 ألف جنيه من 25 ألف جنيه في غضون شهرين فقط، وهذه النماذج من الغذاء الذي يشتريه المواطنون في السودان.

الهبوط الحر للعملة

يعلق الخبير الاقتصادي وائل فهمي، على تفاقم الوضع الاقتصادي قائلا إن الجنيه السوداني مثل شيء وقع في هوة سحيقة من أعلى الجبل، ويصف وضع العملة الوطنية في الوقت الراهن بـ”السقوط الحر”.

ويرى فهمي في مقابلة مع (عاين) إن الوضع في السودان شبيه بما حدث في زيمبابوي وفنزويلا أي حزمة من النقود التي تشتري بها سلع محدودة والحرب في السودان هي التي زادت أزمة سعر الصرف والوضع الحالي هو انفلات اقتصادي مكتمل الأركان.

وأردف: “السودان ليس مثل أوكرانيا أو إسرائيل يخوض الحرب ويحصل على مساعدات اقتصادية في ذات الوقت هذا مستحيل لن يحدث”.

ويقول وائل فهمي: إن “الجنيه السوداني لن يتوقف من الانزلاق إلى هوة سحيقة قبل أن يعود إلى الاقتصاد إلى إدارة رشيدة بتوقف الحرب وعودة الأوضاع الداخلية والعلاقات الخارجية إلى طبيعتها”.

السودانيون.. حرب أخرى ضد غلاء الأسعار
ميناء بورتسودان

شبكات استيراد السلع

خلال ثلاثة أشهر استورد السودان الوقود والسلع الغذائية بقيمة 70 مليون دولار في حقيقة الأمر هذه الشحنات لم تستورد بواسطة الحكومة القائمة في بورتسودان، بل عن طريق شركات يديرها رجال أعمال- يقول مصدر في هيئة موانئ السودان الحكومية لـ(عاين).

البواخر المحملة بالوقود والسكر والدقيق التي تصل ميناء بورتسودان تخص رجال أعمال لديهم علاقات جيدة مع صانعي القرار في البنك المركزي ووزارة المالية

مصدر بهيئة الموانئ السودانية  

ويضيف المصدر: “البواخر التي وصلت إلى ميناء بورتسودان وهي محملة بالوقود والسكر والدقيق تخص رجال أعمال لديهم علاقات جيدة مع صانعي القرار في البنك المركزي ووزارة المالية”.

ويتابع المصدر من هيئة الموانئ البحرية: “تتحصل وزارة المالية على رسوم مقدرة من شحنات الوقود والسلع فهي لم تكتف برفع الدعم نهائياً، بل تحصل على أموال إضافية تزيد الأسعار عندما تصل هذه السلع إلى المواطنين”.

وعلى سبيل عندما يستورد رجال الأعمال شحنات الوقود والسكر والدقيق يدفعون ضرائب تصل إلى آلاف الدولارات وهي رسوم متعددة للحكومة في بورتسودان. ويقول المصدر في الموانئ: إن “الشركات المستوردة للسلع خاصة المقربة من مجلس السيادة تشكو عدم ثبات سعر الصرف في السوق الموازي، وفي كل شحنة جديدة تضع زيادات جديدة على أسعار السلع في الأسواق، وفي بعض الأحيان تتعمد السلطات إيصال إلى الأمور إلى درجة الأزمة مثل عودة صفوف الوقود في كسلا والقضارف، حتى تقنع الناس بضرورة رفع السعر من عشرة آلاف جنيه إلى 13 ألف جنيه لواحد جالون”.

مشتريات عسكرية

وفي ظل ما تردد عن طباعة النقود بواسطة الحكومة، يستبعد الباحث الاقتصادي أحمد بن عمر ذلك، ويقول إن “صفقات الأسلحة والمواد اللوجستية القتالية عادة تدفع على جزئيات”.

يضيف بن عمر لـ(عاين): إن “السوق الموازي أصبح يعتمد على وصول طلب العملة الصعبة من لجنة مشتريات تابعة للجيش السوداني والمتعاملين في هذا القطاع لديهم معلومات عن مواعيد هذه الاجتماعات الشهرية بالتالي شهرياً أو بشكل نصف شهري يتحرك سعر الصرف”.

وأضاف: “لجنة مشتريات الجيش تطلب من تجار كبار في السوق الموازي توريد الدولارات وهنا يتحول السوق الموازي إلى حالة عدائية، ويرفع سعر الدولار مثلا السوق حصل على طلبية في التاسع من يوليو الجاري وخلال ساعات قفز الدولار الأمريكي مقابل الجنيه السوداني من 1900 إلى 2100 ثم 2270 جنيه”.

وتابع بن عمر: “في 20 يوليو الجاري كان السوق الموازي ينتظر الطلبية الثانية للجيش للحصول، حتى تُلقي عليهم لجنة مشتريات عسكرية ملايين الدولارات، وهذا ما أدى إلى ارتفاع سعر الدولار الأمريكي من 2300 إلى 2900 جنيه وعندما لم تنفذ اللجنة العسكرية الطلبية هبط سعر الصرف، وانتعش الجنيه قليلاً، لكن على نحو مؤقت؛ لأن السوق يستعد لجولة جديدة”.

السودانيون.. حرب أخرى ضد غلاء الأسعار

زيادة في الدولار الجمركي

تساهم زيادة سعر الدولار الجمركي في تفاقم الوضع المعيشي والتعرفة الجمركية الحكومية 950 جنيهاً بالتالي يضع المستوردين هذه النسبة في الاعتبار عندما يستوردون السلع من مصر والمملكة العربية السعودية والإمارات وإثيوبيا.

موظفة في مكتب تخليص جمركي بمدينة وادي حلفا شمال السودان في معبر أرقين على الحدود مع مصر – أخفت هويتها حتى لا تتعرض إلى الملاحقة الأمنية – تقول لـ(عاين): إن “شحنة مثل البسكويت والسكر تفرض عليها سلطة الجمارك آلاف الدولارات في بعض الشحنات يدفع المستوردون نحو خمسة آلاف دولار لتخليص شحنة واحدة”.

وأضافت: “إذا قارنت بين سعر علبة البسكويت أو عبوة الدقيق زنة واحد كيلو غرام قبل وبعد التخليص الجمركي ستجد أن الزيادة تشكل 40% وهذه النسبة تشكل عبئاً إضافياً على السلع الاستهلاكية عندما تصل إلى محلات التجزئة في المدن السودانية، ويدفع المواطن فرق تكلفة الجمارك والشحن والرسوم الحكومية مع قيمة السلع”.