الحرب تدمر مصادر مياه الشرب في الخرطوم ودارفور
عاين- 31 يوليو 2024
يواجه ملايين السودانيين في العاصمة الخرطوم وإقليم دارفور غربي البلاد، صعوبات في الوصول إلى المياه الصالحة للشرب، وأصيب العديد منهم بأمراض مرتبطة بتلوث المياه وفق شهادات وثقتها (عاين).
وانقطع الإمداد المائي عن مدينتي الخرطوم وبحري نتيجة دمار واسع لحق بمحطات معالجة المياه النيلية، بينما توقف الإمداد المائي من الآبار الجوفية؛ بسبب انقطاع متطاول للتيار الكهربائي، إذ تعمل تلك المحطات بالطاقة، ولم يتسن تشغيل المولدات الاحتياطية بسبب شح وغلاء الوقود.
وتعتمد العاصمة الخرطوم في مياه الشرب على نحو 13 محطة نيلية، بالإضافة إلى 7 محطات ضغط، فضلاً عن 1400 بئر جوفية، وفق حصيلة رسمية. وتُعد محطات المقرن وبحري والخوجلاب وبيت المال الأكبر، وجميعها توقفت وخرجت عن الخدمة تماماً بعد أن تعرض بعضها إلى تدمير جزئي بسبب عمليات القصف العشوائي، وعدم تمكن فرق الصيانة من الوصول إليها وإصلاحها، بجانب انقطاع التيار الكهربائي، وشح مستلزمات التنقية مثل الكلور.
وفيات بالخرطوم
وأدت المواجهات العنيفة بين قوات الجيش والدعم السريع إلى احتراق محطة بحري للمياه، والتي كانت تنتج نحو 280 ألف متر مكعب، وذلك في الأسبوع الأول من الحرب، مما أدى إلى انقطاع المياه عن مناطق واسعة في بحري، ودفع آلاف السكان إلى النزوح.
ويكشف مصدر محلي لـ(عاين) عن تسجيل عدد من الوفيات في مدينة الخرطوم؛ بسبب شرب المياه غير الصالحة، وكان التأثير الأكبر على الأشخاص الذين يعانون في الأصل من مرض الفشل الكلوي.
ويقول “وائل” وهو عضو في إحدى غرف الطوارئ الخرطوم، وكان متطوعا في توفير المياه للسكان لـ(عاين):”ظهرت عدة حالات إصابة بأمراض مختلفة وسط المواطنين في ضاحية شرق النيل، والحاج يوسف نتيجة شرب ملوثة، حيث اضطر بعض السكان إلى الشرب من الآبار القديمة، وآبار الصرف الصحي الموجودة داخل المنازل من أجل رأى عطشهم، بعد أن جففت كل مصادر المياه الصالحة جراء انقطاع التيار الكهربائي لفترة طويلة”.
وشكل العطش أحد الأسباب التي دفعت المواطن علي أحمد إلى مغادرة منزله في مدينة بحري شمالي العاصمة السودانية، فهرب من العطش إلى مدني؛ وبالتالي إلى سنار بعد توسع الحرب إليها في ديسمبر الماضي في رحلة نزوح صعبة.
ويقول علي في مقابلة مع (عاين) “رغم حدة الاشتباكات فضلنا البقاء في منازلنا ببحري، لكن العطش حاصرنا وتطاول أمد انقطاع الإمداد المائي، لمدة ثلاثة أيام لم نحصل على مياه مما دفعنا للمغادرة. كان الناس في حينا السكني يشربون من مياه النهر مباشرة، بينما لم يجد بعض السكان مياهاً لغسل جثامين موتاهم، في مأساة كبيرة دفعت معظمهم إلى الفرار من المنطقة”.
صيانة مستحيلة
وبحسب منى عبد المنعم وهي مهندسة في قطاع المياه، فإن الآبار الجوفية التي أصبح يعتمد عليها معظم سكان العاصمة الخرطوم بعد اندلاع الحرب، ربما تتوقف بشكل تام؛ لأنها تحتاج إلى عملية صيانة دورية، وفي ظل الظروف المضطربة لا يستطيع مهندسو الوصول إليها، كما توجد مشكلة في توفير قطع الغيار، ومجمل آليات الصيانة، لا سيما الرافعات.
وتقول منى في مقابلة مع (عاين) إنه “لا يمكن قياس جودة المياه خلال فترة الحرب للتأكد من صلاحيتها لأغراض الشرب. أغلب السكان غادروا منازلهم بسبب انعدام المياه الصالحة للشرب، فقطاع المياه تأثر بصورة كبيرة بالأعمال القتالية، وحتى إذا توقفت الحرب فإن هذا القطاع يحتاج إلى فترة زمنية طويلة من أجل استعادته لسابق عهده”.
ويكشف “عمر” وهو عضو غرف طواري جنوب الخرطوم لـ(عاين) عن توقف العديد من الآبار الجوفية في منطقته بعد انقطاع تام في أعمال الصيانة، بينما تتوقف محطات أخرى نتيجة لشح الوقود، مما خلق ندرة في مياه الشرب، ويصطف المواطنون أمام الآبار القليلة التي ما تزال تعمل للحصول على جرعات من المياه تروي عطشهم.
النقص الكبيرة في مياه الشرب دفع سكان العاصمة الخرطوم لا سيما جنوب العاصمة وبحري شمال، إلى شرب المياه الملوثة المختلطة بمياه الصرف الصحي، ورصدت لجنة طواري بحري إصابات بأمراض جلدية، وسوء الهضم وحصاوى الكلى، والفشل الكلوي وغيرها وسط سكان المنطقة، وذلك نتيجة لشربهم مياه غير صالحة، ومن النيل مباشرة دون أي معالجات.
أما المياه القليلة المتوفرة في العاصمة الخرطوم تباع عبر عربات الكارو بمبالغ طائلة تصل 7 آلاف جنيه للبرميل، وهي قيمة عالية تفوق مقدرة المواطنين العالقين وسط نيران الحرب وتوقفت مصادر دخولهم المالية بشكل تام، في المقابل ينشط متطوعون في جلب المياه وتوزيعها للسكان وتشغيل بعض المحطات بالطاقة الشمسية خاصة في شرق النيل، في جهود كبيرة لتخفيف وطأة العطش على المواطنين.
كما تبذل بعض المنظمات العالمية، مثل اللجنة الدولية للصليب الأحمر جهوداً لتوفير مياه صالحة للشرب لأعداد كبيرة من المواطنين العالقين في العاصمة الخرطوم، وفق ما أفاد به متحدث الصليب الأحمر بالسودان عدنان حمزة (عاين).
ويقول حمزة “وزعنا مواد تنقية المياه لتوفير المياه الصالحة لأكثر من مليوني شخص في السودان، ضمن جهود لدعم أهل هذا البلد”. وكان وفد من الصليب الأحمر برفقة مسؤولين من هيئة المياه بولاية الخرطوم، زار محطة بحري العام الماضي لتقييم وإصلاح الأعطال، غير أنه تعذرت عمليات الصيانة بسبب الأوضاع الأمنية”.
وذكر المدير العام لهيئة ولاية الخرطوم المهندس محمد علي العجب في تصريح صحفي أن اللجنة الدولية للصليب الأحمر ومنظمة الأمم المتحدة لرعاية الطفولة “يونسيف” التزمتا بتوفير قطع غيار ومواد تنقية لمحطات مياه الشرب بالعاصمة، حيث تعهدت الصليب الأحمر بتوفير 12 مضخة ونحو 80 وحدة طاقة شمسية، بينما التزمت يونسيف بتوفير 131 أسطوانة غاز كلور، لكنه صعوبة إجراء صيانات في ظل التدهور الأمني.
عطشى بدارفور
المعاناة نفسها يواجهها سكان إقليم دارفور خاصة مدينتي الفاشر ونيالا، وبحسب شهود فقد تسببت عمليات القصف العشوائي في تلوث مصادر مياه الشرب مثل الوديان وغيرها، بجانب توقف الآبار الجوفية نتيجة شح الوقود.
ويعيش الإقليم على وقع أزمة طاحنة في مياه الشرب، ففي مدينة الفاشر خرجت عشرات محطات مياه الشرب عن الخدمة؛ بسبب المعارك العسكرية المستمرة بين الجيش والحركات المتحالفة معه، وقوات الدعم السريع لأكثر من شهرين، مما دفع السكان إلى مغادرة المنطقة في عمليات نزوح واسعة بحثاً عن الأمن ومياه الشرب.
ويقول مدير هيئة المياه في ولاية شمال دارفور عبد الشافع عبد الله لـ(عاين): إن “الإمداد المائي في الفاشر توقف بسبب نفاد الوقود الخاص بتشغيل محطات المياه، ونقص الكهرباء نتيجة الصراع المسلح”.
وأضاف: “شغلنا جزء من الآبار بواسطة الوابورات وتوزيعها على الصهاريج ونقاط التوزيع بمدينة الفاشر، لكن نواجه صعوبات تتمثل في أسعار الوقود والشحوم، وقطع الغيار المختلفة، بجانب نقص دعم الشركاء العاملين في قطاع المياه بولاية شمال دارفور من وكالات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية”.
ليست الفاشر وحدها، لكن العديد من المناطق في ولاية شمال دارفور تعاني أزمة حادة في مياه الشرب بعد توقف الآبار الجوفية نتيجة لانعدام الوقود وقطع الغيار كذلك، حيث لم تخضع لأي عمليات صيانة منذ اندلاع الحرب، وفق مصادر محلية.
أما في نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور تظهر مشكلة أعظم، إذ تسببت المقذوفات المتفجرة في تلوث واسع في “واي بيرلي” الذي يعتبر المصدر الأول لمد نيالا بمياه الشرب، فهو يحتوي على 40 بئراً تغذي شبكة المياه الداخلية في المدينة، مما ينطوي عليه مخاطر كبيرة على صحة المواطنين في الوقت الحاضر والمستقبل، وفق ما نقله شهود لـ(عاين).
لكن محمد التجاني وهو مهندس مياه في جنوب دارفور قال لـ(عاين): إن “شبكة المياه في نيالا توقف بسبب الأعمال القتالية، وأن سكان المدينة يعتمدون في الوقت الراهن على الآبار المفتوحة، وهي تواجه نقصاً في مواد تنقية المياه مثل الكلور”.
وتواجه أيضا مدينة الضعين عاصمة ولاية شرق دارفور أزمة مياه نسبة للضغط السكاني العالي، والذي أدى إلى ارتفاع معدل الاستهلاك، حيث استقبلت المدينة مئات الآلاف من النازحين الذين وصلوها من المناطق الأخرى المضطربة في الإقليم.
وتستمر الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع لأكثر من عام، بتداعيات إنسانية كارثية على المواطنين، إذ دمرت معظم المرافق الخدمية الحيوية مثل المياه والكهرباء، والمشافي، وصار المدنيون يموتون بالرصاص ونقص الخدمات، كما خلفت أكثر من 10 ملايين نازح ولاجئ، وسط تزايد في الدعوات المحلية والدولية لإيقاف هذا القتال المدمر.