«قوارب الموت».. رحلات نجاة من معارك الخرطوم عبر أمواج النيلين 

عاين- 12 يناير 2024

قوارب تقليدية مهترئة تجوب النيلين الأزرق والأبيض في العاصمة السودانية. يُبحر رُبّانُها يوميًا بمعيتهم أفراد العائلات طلبًا للنجاة من معارك الخرطوم بعد أن وجدوا أنفسهم في عزلة وحصار محكم إثر تقاسم  القوات المتحاربة السيطرة على الجسور الرئيسية ومنع عبور المدنيين وتدمير أخرى.

تُحُفُّ رحلات نجاة العالقين في حرب الخرطوم عبر  مياه النيلان مخاطر جمة. “شاهدت حادثة وفاة 7 أفراد إثر غرق قوارب نيلية جنوبي العاصمة الخرطوم خلال الفترة التي أعقبت الحرب”. يقول رامي زين العابدين، وهو سائق قارب تحدث مع (عاين). 

أنعشت موجة الهروب الجماعي عبر القوارب حركة النقل على شواطئ النيلين الأزرق والأبيض، رغم ما تنطوي عليها من مخاطر، وفي هذا الصدد يقول رامي زين العابدين، وهو صاحب قارب يقل العائلات عبر نهر النيل للتنقل بين مدن العاصمة، إنهم يعملون تحت خط النار، بسبب استمرار القتال بين الجيش وقوات الدعم السريع، ووجود معسكرات للقوتين على امتداد نهر النيل في الجهتين من أقصى شمال العاصمة إلى جنوبها، “لكننا كنا مصممين على إنقاذ الناس من الخطر الذي يحدق بهم”.

وتحدث زين العابدين، بأسى عن غرق 7 أفراد في رحلات متفاوتة في أثناء عبور النيل الأبيض إلى الضفة الغربية، بسبب عدم جاهزية بعض القوارب التي لا تقوى على الأحمال الثقيلة، وكانت تستخدم في الظروف الطبيعية لأغراض صيد الأسماك.

المناصير.. الغضب الكامن في قلب الصحراء
غرق 7 أفراد في رحلات متفاوتة في أثناء عبور النيل الأبيض إلى الضفة الغربية. الصورة- ارشيفية

وأضاف: “لجأنا إلى استخدام القوارب نسبة لصعوبة التحرك عبر المواصلات، وذلك بسبب غلق الجسور وتدمير بعضها، مشيرا إلى انتعاش الحركة بعد معركة الاحتياطي المركزي في يونيو حزيران الماضي، كنت أسيًر في اليوم أكثر من رحلتين ذهابا وإيابا وأحيانا ننقل مركبات وركشات وتكاتك”.

وأشار  زين العابدين إلى أن تذكرة التنقل من بين ضفتي نهر النيل يبلغ ثلاثة آلاف جنيه للشخص الواحد نحو ثلاثة دولارات، وقال: “صحيح أن المبلغ قد يكون ضاغطا في ظل ظروف الحرب وتوقف مصادر الدخل، لكننا حاولنا التخفيف على الناس خصوصا العائلات”.

رحلة نجاة شاقة وطويلة على نهر النيل 

لم يكن في خاطر السودانية زينب أبوبكر، أن تقطع أكثر من 200 كيلو متراً للانتقال من مدينة الخرطوم بحري التي تقيم فيها شمال العاصمة السودانية، إلى مدينة أم درمان؛ ومن ثم إلى مدينة شندي في ولاية نهر النيل عبر مياه النيل وهي مضطرة لمغادرة ديارها بعد نحو أربعة أشهر من الحرب وتزايد القصف المدفعي على منطقتها.

تجسد “زينب” حالة العزلة التي يعيشها نحو ثمانية ملايين شخص ما زالوا عالقين في العاصمة السودانية تحت النيران، نتيجة لغلق وتدمير الجسور النيلية من جانب الأطراف المتحاربة، مما جعل مدن العاصمة الثلاث (أم درمان والخرطوم وبحري) أشبه بجزر معزولة بفضل مياه النيل والتضييق الأمني، الشيء الذي يدفع السكان إلى مغامرات للتنقل تنتهي بهم إلى الموت.

وقد أدى القتال الذي اندلع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في 15 أبريل نيسان الماضي إلى مقتل 12 ألف شخص، وفقا لإحصاءات الأمم المتحدة، كما فرَ أكثر من 7.2 مليون شخص من منازلهم، ولجأوا داخل البلاد وخارجها، مع وجود أطفال يمثلون نصف هؤلاء النازحين، فضلا عن الدمار الكبير الذي لحق بالبنى التحتية من جسور ومرافق خدمية.

وتقول زينب أبو بكر وهي ربة منزل في مقابلة مع (عاين): “لم نجد طريقا للعبور إلى منزل شقيقتي بمدينة أم درمان سوى قطع مسافة 120 كيلو متر ذهاباً بمحاذاة الضفة الشرقية لنهر النيل إلى مدينة شندي بولاية نهر النيل شمال السودان لعبور جسر المتمة غربا، وبالتالي قطع المسافة نفسها إلى أم درمان، في حين أن الوصول عبر الجسور الداخلية لا يتجاوز 15 كيلو متر”.

موقع جسر شمبات

وتشير  أبو بكر، إلى أن هناك جسرين يربطان مدينة أم درمان ببحري، هما الحلفايا الذي يسيطر عليه الجيش من جهة أم درمان، وقوات الدعم السريع من جهة بحري، وتوقفت حركة التنقل عبره بسبب القتال المستعر بين الطرفين، أما جسر شمبات الذي كانت تسيطر عليه الدعم السريع من الجهتين، وتستخدمه خط لإمداد قواتها عبر مدن العاصمة الثلاث، تعرض للتدمير في نوفمبر تشرين الثاني.

وتبادل طرفا الحرب حينها الاتهام بتدمير الجسر، وقال الجيش في بيان إن قوات الدعم السريع، التي تقاتله منذ أشهر للسيطرة على البلاد دمرت الجسر، واصفا ذلك بأنه جريمة جديدة تضاف لسجلها تجاه الوطن والمواطن.

بدورها، اتهمت قوات الدعم السريع الجيش بتدمير جسر شمبات، واصفة ذلك بأنه “جرائم حرب” واستمرار لمخطط تدمير البنى التحتية الحيوية.

ولاحقا تعرض جسر خزان جبل أولياء الذي يربط مدينة أم درمان بجنوب الخرطوم للتدمير في نفس الشهر، وتبادل الجيش وقوات الدعم السريع أيضا الاتهام بشأنه.

 في عرض النيل أيضا تحلق الطائرات الحربية وتستمر المعارك 

لم تقف معاناة التنقل بين مدن العاصمة الثلاث عند عائلة أبوبكر وحدها، فقد وجد الكثيرون من رصفائها أنهم مجبرون على استغلال قوارب لعبور ضفتي نهر النيل، كما هو حال أسرة مبارك أزرق الذي يقيم في منطقة الكلاكلة جنوب العاصمة الخرطوم.

ويقول أزرق في مقابلة مع (عاين)، إن “اشتباكات عنيفة بالأسلحة الثقيلة والخفيفة والمقاتلات الحربية دارت بين الجيش وقوات الدعم السريع حول مقر شرطة الاحتياطي المركزي الذي يسكن بجواره في يونيو حزيران الماضي، مما دفعهم إلى مغادرة منزلهم، وأضاف “لم نجد سبيلا سوى الفرار عبر القوارب إلى أم درمان على الضفة الغربية للنيل الأبيض، بسبب غلق الجسور وتدميرها”.

وتشير تقديرات رسمية صادرة عن حكومة ولاية الخرطوم، إلى أن عدد سكان العاصمة التي تضم 10 جسور تربط مدنها الثلاث (الخرطوم وأم درمان وبحري)، يبلغ 14 مليون نسمة، وأبلغ مصدر حكومي (عاين) أن حوالي ثمانية آلاف نزحوا إلى الولايات الآمنة نسبيا شمال ووسط وشرق البلاد عقب نشوب القتال بين الجيش وقوات الدعم السريع في منتصف أبريل نيسان الماضي.

وذكر مبارك أزرق، أن معظم أفراد عائلته كانوا من النساء بعضهن كبار في السن، إذا لم تتوقف معاناتهن طوال الرحلة النيلية، وسط اشتباكات وانفجارات لا تهدأ بين الطرفين على الضفة الغربية لنهر النيل. وأردف “عند الاقتراب شنت طائرات حربية كانت تحلق في سماء المدينة ضربات جوية على معسكر تابع لقوات الدعم السريع من مسافة قريبة، مما تسبب في هلع أفراد عائلتي.. في تلك اللحظات تملكني شعور بأننا لن ننجو”.

ولم يخف أزرق مخاوفه من المعاناة والمخاطر التي تنتظر آلاف العائلات العالقة في أحياء العاصمة، في حال قرروا التنقل عبر مدنها الثلاث في ظل تدمير وغلق الجسور.

تدمير كبري خزان جبل أوبلياء جنوبي الخرطوم

 

غادرت رقية يونس الخرطوم رفقة والدتها واثنتين من شقيقاتها مع احتدام المعارك بين الجيش وقوات الدعم السريع، إلى مسقط رأسها بولاية سنار جنوب شرق البلاد، وعندما قررت العودة إلى منزلها في شرق الخرطوم للاطمئنان على والدها العالق هناك، اصطدمت بعقبات على الطريق. وتقول في حديث إلى (عاين)، إنها اضطرت إلى عبور نهر النيل الأزرق من منطقة ألتي في الغرب إلى المحس كترانج شرقا عبر قوارب نيلية، كي تتمكن من الوصول إلى ديارها، وذلك بسبب غلق الجسور ووعورة الطريق.

وتحدثت يونس عن مخاطر الرحلة، عبر قوارب متهالكة تترنح عندما تلاطم أمواج النيل الأزرق العاتية، مضيفة “لولا العناية الإلهية لكنا في عداد الموتى”.

وتحد العاصمة السودانية الخرطوم من الشمال ولايتي نهر النيل والشمالية، ومن الغرب ولاية شمال كردفان، وولايتي الجزيرة والنيل الأبيض جنوبا، ومن الشرق تنفتح على سهل البطانة الممتد إلى شرق البلاد.

واندلع القتال الضاري بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع بشكل مفاجئ في منتصف أبريل نيسان بعد أسابيع من التوتر بين الطرفين، في وقت كانت تضع الأطراف العسكرية والمدنية اللمسات النهائية على عملية سياسية مدعومة دوليا.