“الصم”.. آلام صامتة تحت ركام حرب السودان
عاين- 20 يونيو 2024
لم تكن الصبية “سارة نور الدين” التي تعاني الإعاقة السمعية، بحاجة إلى كارثة إضافية، فما كانت تعيشه من ظروف صحية استثنائية يكفي لحياة مليئة بالعناء والتحديات، فجاءت الحرب السودانية لتقضي على ما تحمله من آمال في التعليم، وحلمها في التعافي بعد إغلاق مدرستها، وتوقف برنامجها التأهيلي.
حملت ظروف القتال سارة البالغة من العمر 19 عاماً، بعيداً عن البيئة التعليمية والمراكز الطبية لتعيش مع عائلتها في منطقة نائية في الولاية الشمالية تبعد عن مدينة دنقلا بنحو مائة كيلومتر، كما فقدت مساعدها السمعي “سماعات” بسبب الحرب، ولم تتمكن من اقتناء آخر لندرته وغلاء سعره، الأمر الذي وضعها في عزلة اجتماعية واسعة لصعوبة التواصل مع الآخرين.
وجدت نور الدين نفسها أمام مجتمع ريفي، بعضه غير متصالح مع الأشخاص ذوي الإعاقة، ويواجههم بالتنمر دوماً، فاضطرت للبقاء داخل المنزل وحيدة طوال الوقت خشية من أن يضحك عليها الناس، فهذا السلوك يغضبها كثيراً، ويفقدها الأمل في مواصلة الحياة، وفق ما روته بحزن خلال مقابلة مع (عاين).
ليست سارة نور الدين، سوى إحدى مئات الآلاف من الأشخاص ذوي الإعاقة السمعية، يواجهون مآسٍ مضاعفة في صمت، بينما حجبت غيوم الحرب حركات أياديهم الناطقة بلغة الإشارة، والتي يطلقون عبرها دعوات استغاثة بشكل دائم، فباتوا منسيين تحت أنقاض القتال الضاري فلا أحد يتذكرهم، ومع ذلك فإنهم مستمرون في كفاحهم المعهود لكسب معركة البقاء.
ويبلغ العدد الكلي للأشخاص ذوي الإعاقة بجميع فئاتهم “حركية، سمعية، بصرية، ذهنية” في السودان 1.4 مليون شخص، وهم يمثلون نسبة 4.6 بالمئة من مجموع المواطنين وفق آخر تعداد سكاني أجري في البلاد عام 2008م، ولا توجد حصيلة محدثة بعدد ذوي الإعاقة السمعية، لكنهم يمثلون أكثر من 35 بالمئة من جملة ذوي الإعاقة، نحو 470 ألف، حسب اتحاد الصم السوداني.
مشكلات مزدوجة
ويواجه ذوي الإعاقة السمعية مشكلات مزدوجة نتيجة الحرب، إذ تتوقف المدارس والمراكز العلاجية الخاصة بتأهيلهم وتقديم الخدمات الطبية على مدار عام كامل وهي فترة طويلة ربما تفقد البعض لا سيما صغار السن من هذه الشريحة فرصتهم في النطق والسمع، بحسب ما أفادت به الباحثة الاجتماعية والخبيرة في المجال وئام الفضل لـ(عاين).
وتكشف الفضل أن عدداً كبيراً من الأشخاص ضعيفي السمع فقدوا مساعداتهم السمعية بسبب الحرب، ولم يتمكنوا من اقتناء أخرى نتيجة غلاء سعرها الذي وصل إلى 350 ألف جنيه سوداني، نحو 270 دولاراً أمريكياً، وهي مبالغ طائلة تفوق مقدرتهم؛ لأن اقتصاداتهم تأثرت بالقتال كغيرهم من السودانيين، كما أن عمليات كشف وقياس السمع صارت غير متوفرة في كثير من المناطق.
وتنوعت أسباب فقدان المساعدات السمعية، فبعضها تعرض للتلف وضياع البطاريات الاحتياطية والسقوط خلال رحلة الفرار من الحرب، وأخرى صُودِرَت، وهي كحالة أحمد محمد 17 عاماً (اسم مستعار بطلب منه) الذي اقتحمت مجموعة مسلحة منزله في شرق الخرطوم، وأخذت منه سماعته عنوة بعد أن ظنتها جهاز تنصت، وفق روايته لـ(عاين).
كان أحمد على وشك تحقق حلم حياته في الوصول إلى مرحلة السمع الطبيعي بعد أن تقررت له عملية زراعة قوقعة، لكن قبل أن يخضع لها نشبت الحرب، وخرج المركز الذي يتابع حالته عن الخدمة، وغادر طبيبه الخاص البلاد، وهو يقيم حالياً تحت ظروف نفسية وإنسانية قاسية في أحد مخيمات الإيواء في الولايات الآمنة شرقي السودان، ولا يدري ما يحدث بشأن مستقبله الصحي.
ودخلت الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع التي اندلعت في 15 أبريل من سنة 2023م، عامها الثاني وما تزال مستمرة بتداعياتها المأساوية خاصة على الفئات الهشة الأكثر تأثراً بالنزاعات المسلحة، والتي من بينها الأشخاص ذوي الإعاقة بطبيعة الحال.
توقف التأهيل
ووفق الأمين العام لمجلس الأشخاص ذوي الإعاقة في السودان د. رحاب مصطفى فإن جميع المراكز الطبية والمعاهد التعليمية المرجعية في خدمة ذوي الإعاقة السمعية في العاصمة الخرطوم والبالغ عددها 7، توقفت عن العمل مع نشوب الحرب، وربما تعرض بعضها للتدمير جراء الأعمال القتالية، الأمر الذي وضع هذه الفئة الاجتماعية في مأساة حقيقية.
وتقول المسؤولة الحكومية في مقابلة مع (عاين) “الحرب، فاقمت المشكلات التي يعيشها ذوي الإعاقة السمعية، إذ توقفت عدة مشاريع كنا نقودها، من بينها عمليات زراعة القوقعة لضعيفي السمع والكشف والتدخل المبكر، بجانب القاموس الموحد للغة الإشارة، فإنني نشعر بقلق شديد حيال ذلك، لأن تأخر الوصول إلى العلاج لفترة يوم واحد يضاعف المعاناة، ويقود إلى فقدان الأمل في التعافي، ناهيك عن عام كامل”.
وتبقت 4 مراكز طبية فقط في السودان تعمل على خدمة ضعاف السمع، واحدة في كل من شندي، عطبرة، كسلا، بورتسودان، وهي بدورها تعاني شح الإمكانيات والأجهزة اللازمة لعمليات الكشف وقياس السمع، كما يشتكي المرضى من فرض رسوم على الخدمة تبلغ 10 آلاف جنيه لمقابلة الطبيب فقط، وهي مبالغ كبيرة على خدمة مستديمة، حسب وصف الباحثة الاجتماعية وئام الفضل.
وبعد صدمة حرب الخرطوم شكلت ولاية الجزيرة ملاذاً للأشخاص ذوي الإعاقة لمواصلة حياتهم وتلقي العلاج عبر مراكز متخصصة، لكن انتقل إليها القتال منتصف ديسمبر الماضي، مما أدى إلى تشريد 57.9 ألف من الأشخاص ذوي الإعاقة السمعية كان بعضهم يقيم في مراكز إيواء خاصة، وفق تقرير حديث من وزارة الرعاية الاجتماعية المحلية حصلت عليه (عاين)، كما توفقت مساعدات كانوا يتلقونها من المنظمات الدولية ووكالات الأمم المتحدة التي علقت أنشطتها في “الجزيرة”.
وتنعقد آمال الآلاف من ذوي الإعاقة السمعية الذين يقع 60 بالمئة منهم تحت خط الفقر حسب تقديرات رسمية، على متطوعين ينشطون في توفير بعض الخدمات الطبية وتوفير السماعات، لكن حجم الفجوة يفوق الإمكانيات الشحيحة للمبادرات الاجتماعية، وفق ما يقوله المتطوع والناشط في المجال، الفاتح شرفي لـ(عاين).
ويضيف: “تواجه المساعدات السمعية شبه انعدام في السوق، وإن وجدت يكون سعرها عالياً جداً، هذا الشيء فاقم معاناة الأشخاص ذوي الإعاقة السمعية كثيراً، ونحث المنظمات والجهات المعنية بالالتفات إلى ذوي الإعاقة بكل فئاتهم ورفع مآسي الحرب عن كاهلهم”.
معطيات مرعبة
لم يكن الواقع الأكاديمي بأفضل حال، فهو الآخر يعكس وجهاً الأكثر قسوة لمعاناة هذه الشريحة الاجتماعية، وبحسب وزارة التربية والتعليم السودانية في إفادة لـ(عاين) أن العدد الكلي للمؤسسات التعليمية المعنية بالأشخاص ذوي الإعاقة يبلغ 140، منها 79 مؤسسة قطاع خاص، و61 حكومياً، وجميعها متوقفة منذ اندلاع الحرب، وكانت النتيجة الحتمية انقطاع التعليم والبرامج التأهيلية عن 14.4 ألف طالب وطالبة من ذوي الإعاقة السمعية، وفق المصدر نفسه.
الظروف البائسة التي يعايشها داؤود رحيمة من مخيمه في مدينة كسلا شرقي السودان الذي وصله نازحاً من القتال المحتدم بالعاصمة الخرطوم، وهو يشعر بأسى شديد تجاه انقطاع البرامج التعليمي العلاجي الخاص بإحدى بناته عمرها 15 عاماً، تعاني ضعفاً في السمع وصعوبات النطق، بينما يستمر الصراع المسلح ليهدد حظوظها في التحدث والتعلم.
كان رحيمة وهو من فئة “الصم” تحدث لـ(عاين) عبر مترجمة لغة إشارة، يمني نفسه بتعافي طفلته لتكون مع شقيقتها الأخرى، والتي حباها الله بصحة كاملة، لسانه الذي ينطق به، وتتجنب عناء الحياة جراء الإعاقة السمعية.
وبدأ الأب المكلوم مشفقاً على مستقبل طفلتيه أكثر من الواقع الإنساني والمعيشي القاسي الذي يواجهه داخل مخيم إيواء النازحين من ذوي الإعاقة السمعية، ويقول إنه “لو كان يملك المال سوف يغادر السودان من أجل تعليم وعلاج بناته، لكن ليس باليد حيلة، فقد قضت الحرب على كل ما ادخره خلال عمره”.
حيلة تفقدها أيضاً سارة نور الدين وبقية رفاقها من ذوي الإعاقة السمعية، وأولئك الذين يحلمون بثمن شراء آلات سمعية تعينهم على سماع جزء من الصخب المحيط بهم، والذين لا يجدون طريقاً للعلاج، بينما تزداد مآسيهم مع مرور كل يوم قتالاً في بلادهم.
لكن رغم ظلام الواقع تتشبث نور الدين بآمال عريضة في سكوت أصوات الرصاص، وتنتهي عزلتها الاجتماعية بمعانقة مدرستها مجدداً ومجتمعها الأكاديمي الواعي بحالتها، فهي تدرس في الصف الثالث ثانوي المساق العلمي، وتطمح أن تصبح طبيبة في المستقبل لتضمد جراحات المرضى، وتقف إلى جانب الذين لا يستطيعون الوصول إلى العلاج، حسب ما ختمت به حديثها لـ(عاين).