سد النهضة الإثيوبي يُفتتح بلا مصر والسودان وصراع المياه يشعل المنطقة

عاين- 9 سبتمبر 2025

منذ إعلان إثيوبيا في العام 2011، شروعها في بناء سد النهضة على النيل الأزرق، على بعد كيلومترات قليلة من الحدود السودانية، دخلت المنطقة في واحدة من أعقد أزماتها الاستراتيجية.

السد الذي تبلغ سعته التخزينية 74 مليار متر مكعب، أي ما يعادل تقريباً الحصة السنوية لكل من السودان ومصر مجتمعتين، سرعان ما أصبح عنواناً لصراع قانوني وفني وسياسي لا تزال تداعياته ماثلة.

ومع افتتاحه رسمياً اليوم الثلاثاء، بتكلفة تجاوزت 5 مليارات دولار، وسط مقاطعة السودان ومصر، عن مراسم الاحتفال، بات المشروع واقعاً مفروضاً يفرض على دولتي المصب التعاطي مع آثاره وتبعاته بصورة مباشرة. لكن رئيس الوزراء الإثيوبي جدد خلال كلمته في افتتاح السد، على أن” سد النهضة لن يسبب ضررا لمصالح مصر والسودان” وأن “سد سوان لم يفقد حتى لتر واحدا من مياهه بسبب السد الإثيوبي”. وجدد استعداد حكومته مواصلة الحوار.

المخاوف السودانية والمصرية

رأت الخرطوم منذ البداية أن سد النهضة مشروع ذو فوائد محتملة، لكنه ينطوي على مخاطر فادحة ما لم تتم معالجة التحفظات القانونية والفنية عبر اتفاق ملزم، يضمن التنسيق في التشغيل وتبادل البيانات وسلامة السدود والبشر معاً.

أبرز المخاطر تكمن في تهديد سد الروصيرص الواقع على بعد نحو 100 كيلومتر فقط من موقع الإنشاء. فالفارق الكبير في السعة التخزينية بين السدين – أكثر من عشرة أضعاف – جعل أي خلل في التشغيل أو التنسيق يهدد حياة ملايين السودانيين. وقدرت السلطات أن نحو 20 مليون مواطن يعيشون على مجرى النيل الأزرق مهددين في حال حدوث انهيار أو اضطراب في التشغيل.

أما القاهرة، فتمثلت أبرز مخاوفها في التأثير المباشر على حصتها التاريخية من مياه النيل بموجب اتفاقية 1959، حيث يعني ملء بحيرة السد اقتطاع ما يقارب 15 مليار متر مكعب سنوياً، إضافة إلى خطر السيطرة الأحادية لإثيوبيا على مجرى النهر.

إلى جانب ذلك، حذّر خبراء مصريون وسودانيون من أخطار تتعلق بسلامة السد والتصريفات غير المنضبطة، خاصة في سنوات الجفاف الممتد، فضلاً عن المخاوف من انهيار محتمل يهدد الأراضي الزراعية بين سد النهضة والسد العالي في مصر.

في المقابل، تمسكت أديس أبابا برفض أي اتفاقيات تراها امتداداً للحقبة الاستعمارية، مؤكدة أن 86% من مياه النيل تنبع من أراضيها، بينما يعيش أكثر من 65 مليون إثيوبي في ظلام. وقدمت السد باعتباره مشروعاً تنموياً يهدف إلى توليد الكهرباء دون إلحاق الضرر بدول المصب.

المسؤولون الإثيوبيون جادلوا بأن أي اتفاق ملزم حول الملء والتشغيل يقيد “حقهم الطبيعي” في التنمية، واعتبروا أن مخاوف الخرطوم والقاهرة مبالغ فيها، مشيرين إلى فوائد منتظرة للسودان مثل انتظام انسياب المياه، تقليل الطمي، وزيادة إنتاج الكهرباء.

التعثر في المفاوضات

على مدى 14 عامًا، خاضت الدول الثلاث جولات تفاوضية متعددة برعاية الاتحاد الأفريقي واشنطن وأبوظبي ودول أخرى، أبرزها ما يعرف بـ”آلية 2+2″ التي تجمع وزراء الخارجية والري من الدول الثلاث، والتي استمرت على فترات متقطعة. على الرغم من هذه الاجتماعات، تعذر التوصل إلى اتفاق نهائي وملزم، ما دفع إثيوبيا في فبراير 2022، إلى بدء توليد الكهرباء من التوربينات الأولى للسد، ما اعتبره السودان ومصر خرقاً للالتزامات الدولية وتجاهلاً لمبدأ الإخطار المسبق.

وبينما تمسكت القاهرة والخرطوم بخيار التدويل عبر مجلس الأمن والجامعة العربية، شددت أديس أبابا على أن الحل يجب أن يظل “داخل البيت الأفريقي“.

اتفاق مُسرّب

مفاجأة كبيرة فجرتها تسريبات نشرتها (الجزيرة نت) في سبتمبر الجاري، كشفت عن اتفاق ثنائي بين السودان وإثيوبيا مؤرخ في 26 أكتوبر 2022 حول ملء وتشغيل السد. الاتفاق – الذي لم يعلن رسمياً حتى الآن – أقر بارتباط سلامة وتشغيل سد النهضة وسد الروصيرص، ونص على جملة من الترتيبات الفنية، أبرزها، التزام إثيوبيا بالملء التدريجي خلال موسم الأمطار مع تقليص التخزين في حالات الجفاف، تحديد منسوب التشغيل بين 625 و640 متراً فوق سطح البحر.

ويتضمن الملء تصريف لا يقل عن 300 متر مكعب في الثانية نحو السودان لضمان استمرارية التدفق البيئي وتبادل يومي للبيانات حول المناسيب والتصريفات بين سد النهضة والروصيرص.

توقيعات المسؤولين السودانيين والإثيوبيين في الاتفاق المسرب

فضلاً عن إنشاء آلية تنسيق مشتركة تتخذ قراراتها بتوافق الآراء، وتتابع حالات الطوارئ. الاتفاق شدد أيضاً على مسؤولية كل طرف عن سلامة سدوده، مع تحديث دوري لتدابير السلامة وتبادلها عبر الآلية الفنية.

هذا التسريب جاء بعد ساعات قليلة من اجتماع الآلية الرباعية، والذي ضم وزراء الخارجية والمياه في مصر والسودان بالقاهرة في 3 سبتمبر 2025، حيث أكدت الدولتان رفض أي تحركات أحادية في حوض النيل الشرقي واعتبار السد الإثيوبي مخالفاً للقانون الدولي ومهدداً لاستقرار المنطقة، مع التأكيد على وحدة الموقف المصري السوداني في حماية الأمن المائي المشترك. وفق خبراء، شكل هذا التسريب حالة حرج كبيرة للخرطوم، حيث كشف عن تفاوت واضح بين مواقفها العلنية والتفاهمات السابقة مع إثيوبيا بشأن السد.

رد فعل مصري

أكدت مصر في أول رد فعل لها على افتتاح سد النهضة الإثيوبي اليوم الثلاثاء، بأنها لن تسمح للمساعي الإثيوبية بالهيمنة على إدارة الموارد المائية بصورة أحادية.

وذكرت وزارة الخارجية المصرية في بيان اليوم، أنها تحتفظ بحقها في اتخاذ جميع التدابير المكفولة بموجب القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة للدفاع عن المصالح الوجودية لشعبها، مشددة على أن أية تصورات مغلوطة بأن القاهرة قد تغض الطرف عن مصالحها الوجودية في نهر النيل هي محض أوهام، وأن مصر متمسكة بإعمال القانون الدولي في نهر النيل.

وجهت مصر ممثلة في وزير الخارجية الدكتور بدر عبد العاطي، خطابا إلى رئيس مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة اليوم 9 سبتمبر 2025، “إثر التطورات الأخيرة في النيل الأزرق وتنظيم إثيوبيا لفعالية الإعلان عن انتهاء وتشغيل سدها المخالف للقانون الدولي”، وفق بيان الخارجية المصرية.

وأوضح عبد العاطي، وفق البيان، أنه “رغم كل المساعي الواهية لمنح السد الإثيوبي غطاء زائفا من القبول والشرعية، إلا أن السد يظل إجراءً أحاديا مخالفا للقانون والأعراف الدولية، ولا ينتج عنه أية تبعات من شأنها التأثير في النظام القانوني الحاكم لحوض النيل الشرقي طبقا للقانون الدولي، فضلا عما تمثله التصرفات الإثيوبية الأخيرة من خرق جديدٍ يضاف إلى قائمة طويلة من الانتهاكات الإثيوبية للقانون الدولي، بما في ذلك البيان الرئاسي لمجلس الأمن الصادر في 15 سبتمبر 2021“.

جسم السد الإثيوبي. الصورة: وكالة الأنباء الفرنسية

ونوه بأن “مصر لديها موقف ثابت في رفض كافة الإجراءات الأحادية الإثيوبية في نهر النيل وعدم الاعتداد بها أو القبول بتبعاتها على المصالح الوجودية لشعوب دولتي المصب مصر والسودان“.

وأشار الخطاب المصري إلى مجلس الأمن، أنه “منذ البدء الأحادي لمشروع السد الإثيوبي، وعلى مدار السنوات الماضية، مارست القاهرة أقصى درجات ضبط النفس، واختارت اللجوء إلى الدبلوماسية والمنظمات الدولية بما فيها الأمم المتحدة، ليس نتيجة لعدم قدرة عن الدفاع عن مصالحنا الوجودية، وإنما انطلاقا من اقتناع مصر الراسخ بأهمية تعزيز التعاون وتحقيق المصلحة المشتركة بين شعوب دول حوض النيل وفقا للقانون الدولي، بما يحقق المصالح التنموية، ويراعي شواغل دول المصب“.

وأوضحت مصر أنه “في المقابل، تبنت أديس بابا مواقف متعنتةً وسعت للتسويف في المفاوضات وفرض الأمر الواقع، مدفوعة في ذلك بأجندة سياسية – وليست احتياجات تنموية – لحشد الداخل الإثيوبي ضد عدو وهمي متذرعة بدعاو زائفة حول السيادة على نهر النيل الذي يمثل ملكية مشتركة لدولة المتشاطئة“.

اتفاق السودان إثيوبيا.. خطوة مهمة

بالنسبة لخبراء سودانيين مثل الدكتور أحمد المفتي، خبير القانون الدولي والمياه، ذكر في أحدث منشور له عن سد النهضة، أكد إن الاتفاق المُسرب يمثل خطوة في الاتجاه الصحيح؛ لأنه يوفر إطاراً لتقليل المخاطر المباشرة على السودان، لكنه يظل ناقصاً ما لم تتم المصادقة عليه وتطويره إلى إدارة مشتركة للسد، ومن ثم توسيعه ليشمل مصر.

وأشار إلى أن القاهرة، تعتبر التسريب تأكيداً لمخاوفها من تجاوزها في الترتيبات الثنائية، لتلجأ مجدداً إلى مجلس الأمن مطالبةً بضمان “حقوقها الوجودية“.

وعند سؤال وزير الري والموارد المائية الأسبق عثمان التوم، عن التناقض بين موقف السودان في اجتماع الرباعية مع مصر والاتفاقية الموقعة مع إثيوبيا، أوضح في حديثه مع (عاين) إن اجتماع الآلية ركز على مراجعة مواقف الدول الثلاث بشأن الملء الثاني لسد النهضة وتشغيله، وتبادل البيانات، وأمن السدود. وقد انتهزت القاهرة غياب وزارة الموارد المائية والري السودانية لتعزيز موقفها السياسي والفني، فيما شددت الخرطوم على ضرورة العمل المشترك وتوحيد الرؤية الفنية لضمان حماية السدود السودانية والمواطنين على مجرى النيل الأزرق.

وأوضح أن الاتفاقية لا تمس الحقوق مباشرة، بل تركز على تحسين إدارة المياه العابرة للحدود وتعزيز التعاون الإقليمي لتبادل المنافع مع وضع تحوطات للآثار السالبة على السودان. وأضاف التوم أن بعض المعلومات المتداولة حول التدفق اليومي للسد غير دقيقة، وهو أمر يعرفه جيداً العاملون في تشغيل الخزانات، ويصعب شرحه لغير الممارسين.

أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *