“التقولا” بجنوب كردفان.. بلدة تغطيها سموم تعدين الذهب

عاين- 31 أكتوبر 2025

“القاتل لا يعترف بجريمته”، بهذه العبارة، تلخص سعدية، وهي شقيقة لشاب توفي نتيجة تلوث بيئي ناجم عن عمليات التعدين باستخدام مادة السيانيد السامة في منطقة التقولا التابعة إلى محلية تلودي في ولاية جنوب كردفان، وذلك بعدما سعت السلطات الحكومية، إلى نفى ربط وفيات غامضة في البلدة بأنشطة التنقيب عن الذهب، وأرجعتها إلى وباء الكوليرا.

ورصدت لجنة مناهضة السيانيد في محلية تلودي وفاة 30 شخصاً وإصابة 150 آخرين خلال الفترة القليلة الماضية، باسهالات مائية غير معهودة، مما دفع السلطات الحكومية في تلودي إلى اتخاذ تدابير أشبه بحالة الطوارئ الصحية، شملت منع الدخول والخروج من المدينة. وأكد أطباء إنما يجري هو تسمم ناجم عن استخدام السيانيد بكثافة حتى داخل الأحياء السكنية، وتسبب في نفوق حيوانات وطيور بالتزامن في المنطقة.

وتنتشر عشرات الشركات في ولاية جنوب كردفان خاصة منطقتي تلودي وقدير، للعمل في مجال معالجة مخلفات التعدين التقليدي “الكرتة” واستخلاص الذهب باستخدام مادة السيانيد السامة، ويرفض السكان المحليون على الدوام هذه الأنشطة؛ نظراً لآثارها البيئية والصحية، لكن العمل ظل متواصلاً نسبة لارتباط بعض هذه الشركات بشخصيات نافذة في السلطة، وبعضها مملوك للأجهزة العسكرية والنظامية.

وتُعَالَج مخلفات التعدين التقليدي “الكرتة” من خلال عدة أحواض على الأرض، وتُغمر بالمياه، ومن ثم تضاف لها مادة السيانيد، لاستخلاص الذهب، وأثناء هذه العملية تتسرب المياه على مساحات واسعة في التربة.

وتعتبر معالجة الكرتة، النشاط الأكثر شيوعا في قطاع التعدين في السودان، وتعمل عدة شركات متخصصة في هذا المجال من خلال عقود امتياز وتصديق من السلطات الحكومية المعنية، فهي ذات مكاسب سريعة وكبيرة، حيث يستخلص المعدنيين التقليديون 40 بالمئة فقط من الذهب الموجود في الأحجار التي يستخرجونها من باطن الأرض؛ لأنهم يستخدمون معينات بدائية، بينما تأتي الشركات، وتستخرج الـ60 بالمئة المتبقية في “الكرتة” بعد معالجتها بمادة السيانيد.

نتاج تسمم

سعدية، التي فقدت شقيقها، تروي لـ(عاين) تفاصيل القصة الموجعة. كان أخوها يعمل في منجم التقولا، شأنه والكثير من الشباب الساعين للرزق. فجأة، أصابه إسهال حاد، ونُقِل إلى المستشفى حيث اشتبه الأطباء في البداية بأنها “كوليرا”، لكن العلاج لم يجدِ، وفارق الحياة.

وتؤكد سعدية، أن أحد الأطباء أكد لهم لاحقاً أن الوفاة ليست بسبب الكوليرا، بل نتيجة “تسمم”، ولتثبيت قناعتها، تستطرد قائلة: “بالطريقة نفسها نفقت ثلاث أبقار كانت تستفرغ بطريقة غريبة، وهي أعراض مشابهة لتلك التي توفي بها المرحوم، مما يؤكد أن ما حدث ليس كوليرا بالنسبة لي”. هذا النفوق الجماعي للماشية والطيور كان مؤشراً حاسماً لدى الأهالي والناشطين على سمية المادة المتفشية.

جانب من الأحواض التي تستخدم فيها مادة السيانيد لاستخلاص الذهب بولاية جنوب كردفان

وتشير لجنة مناهضة السيانيد في محلية تلودي إلى أن منجم التقولا، الذي يوجد به ما يقارب 200 شركة لاستخلاص الذهب بشكل عشوائي، كان قد شهد خلال الأشهر الماضية حالات مشابهة من التهابات حادة وحساسيات جلدية، فضلاً عن نفوق الطيور، وكلها دلائل واضحة على خطر مادة السيانيد في التعدين.

وفي محافظة قدير المجاورة، أعلنت لجنة الخدمات الصحية حالة الخطر، ووجهت السلطات الأمنية بمنع أي مركبات تنقل مخلفات “الكرتة” من الدخول إلى مدينة كالوقي، عاصمة المحافظة، خوفاً من انتقال العدوى، أو ما بات يُخشى أن يكون تسمماً.

جدار الحقائق

في خضم الكارثة، أعلنت الشركة السودانية للموارد المعدنية المحدودة بجنوب كردفان في بيان صحفي تلقته (عاين) عن تقديم دعم طبي عاجل إلى تلودي. لكنها، وخلال زيارة ميدانية واجتماع مشترك مع لجنة أمن المحافظة، قدمت تبريراً رسمياً مغايراً لرواية الأهالي والناشطين. فممثل وزارة الصحة، جلال الدين النعيمة، أكد، حسب بيان الشركة، أن وزارته هي الجهة المختصة بتحديد الأسباب، مشيراً إلى أن التقارير اليومية أثبتت أن الحالات ناتجة عن “تلوث بكتيري وليس كيميائياً”، مثنياً على دعم الشركة.

ومن جانبه، شدد المهندس مصباح خليل القديل، رئيس قسم شركات الإنتاج، على أن ما يُتداول في وسائل التواصل حول علاقة السيانيد بالإسهالات “لا أساس له من الصحة”، واصفاً إياها بأنها “ادعاءات تهدف إلى تعطيل النشاط التعديني”، داعياً إلى إحكام الرقابة ووقف الأحواض والخلاطات العشوائية فوراً.

الإسهالات المائية في التقولا ليست كوليرا، بل وباء ناتج عن التسمم جراء التعدين بالسيانيد، لأنه تسبب في وفيات للبشر ونفوق للحيوانات وتأثر النباتات بشكل متزامن

 طبيب

لكن هذا التبرير الرسمي يصطدم بجدار من الحقائق البيئية والطبية التي يؤكدها الأطباء والناشطون. أحد الأطباء في تلودي، تحدث مع (عاين) وطلب حجب اسمه خوفاً على سلامته، يرفض حديث الشركة ووزارة الصحة بشأن ربط الوباء بالعدين، مؤكداً أن ما حدث كان نتيجة “تسمم مائي من مخلفات التعدين العشوائي”.

ويوضح الطبيب، أن هناك أدلة إكلينيكية حاسمة تؤكد أن الإسهال ناتج عن تسمم مائي لسببين جوهريين: أولاً، اختلاف شكل الإسهال عن إسهال الكوليرا المعهود. وثانياً، وهو الدليل القاطع، نفوق الحيوانات والنباتات. ويقول: “الكوليرا لا تُهلك الحيوانات، ولا تقتل الخضروات والنباتات”.

في المقابل، شهدت المنطقة نفوقاً جماعياً للماشية والطيور، وتحولت التربة المحيطة بمنطقة السيانيد إلى أرض قاحلة لا تنبت فيها حبة، وهو دليل صريح على التسمم الكيميائي، وفق الطبيب الذي أشار كذلك إلى ظهور حساسيات جلدية لم تكن موجودة من قبل كعلامة إضافية للتلوث الخارجي السام، متهماً الشركة السودانية وبعض الإدارات الأهلية بمحاولة تضليل المواطنين وطمس الحقيقة خوفاً من توقف العمل الذي يخدم مصالحهم المشتركة في استخلاص الذهب.

من جهته، ينبه الناشط الاجتماعي في المنطقة محمد أبكر في مقابلة مع (عاين) إلى الأسباب التي قادت إلى ما وصفه بالكارثة البيئية، مؤكداً أن الجهات المستفيدة من النشاط التعديني روجت لفرضية أن الوفيات كانت نتيجة الكوليرا، وهي سعت إلى استغلال انتشار هذه الوباء في مناطق متفرقة من السودان، لكن الحقيقة هي أن الوفيات كانت جراء التسمم المتعمد أو الناتج عن الإهمال الجسيم في التنقيب.

ويؤكد أبكر، أن شركات التعدين كانت تعمل وفق خطط “جائرة وظالمة” في منجم التقولا، مستخدمة مواد كيميائية سامة وخطيرة مثل السيانيد وغيره، حيث تصب هذه المواد في أحواض مكشوفة بلا أغطية ومليئة بالمياه، مما يؤدي إلى تسربها.

ويضيف: “كان الأهالي يُطلقون التحذيرات منذ البداية، لكن محاولاتهم كانت كالصراخ في وادٍ. وقد جاء فصل الخريف ليكشف المأساة، وأدت الأمطار الغزيرة إلى امتلاء هذه الأحواض الخطيرة بالمخلفات السامة، ومن ثم فيضانها وانتشارها. المفارقة المأساوية أن الأبقار والحيوانات الأخرى بدأت تموت حتى قبل بدء الخريف، مما يؤكد أن التلوث كان قائماً ومستمراً. وللأسف، لم تكن آبار الشرب في مأمن؛ كانت الآبار القريبة من الشركات مكشوفة، والناس يشربون منها، ليدفع البعض حياتهم ثمناً لهذا التهاون”.

مقاومة مستمرة

ويتابع أبكر، أن المياه الملوثة، التي حملت معها سموم السيانيد بعد أن فاضت الأحواض مع موسم الأمطار، تجمعت في المناطق المنخفضة القريبة جداً من أحواض التعدين. هذه المياه الآسنة والملوثة وصلت إلى البيوت، وشرب منها الناس، لتظهر عليهم أعراض التسمم الحاد.

 وشدد “بدأت الكارثة بسبعة أشخاص أصيبوا بالإسهال والقيء، لكن ما أيقن الأهالي معه أنه تسمم وليس كوليرا هو إعلان السلطات عن مائة وخمس وثلاثين حالة إصابة وثلاث وعشرين حالة وفاة، بالإضافة إلى نفوق سبع أبقار في مثلث تلودي، كالوقي والليري، إضافة إلى تأثر النباتات ومجمل الحياة البرية. لافتاً إلى أن الكوليرا لا تقتل الماشية بهذه الطريقة، والأدوية المعتادة لم تفلح في علاج الحالات التي سُميت زوراً كوليرا”.

تلك المخاطر البيئية والصحية واسعة النطاق دفعت سكان المناطق المتأثرة في ولاية جنوب كردفان، إلى مقاومة أنشطة التعدين بالسيانيد، ويرى الأهالي أن المشكلة لا تكمن في الأفراد العاديين، بل في شبكات المصالح المعقدة التي تستفيد من استمرار عمل الشركات، خاصة وأن الشركة السودانية كانت تعمل بالتنسيق مع أطراف محلية متنفذة.

عامل في مصنع تعدين ذهب بولاية جنوب كردفان

يكشف عضو في لجان المقاومة في محلية تلودي تحدث لـ(عاين) طالباً حجب هويته، إن محاولات التستر من الشركة السودانية واضحة عبر نشر بيانات تدعي أن المشكلة “كوليرا” لصرف الأنظار عن استخدام السيانيد، مؤكداً أن أحواض تخزين السيانيد تقع بشكل خطير للغاية ضمن محيط سكني كثيف في التقولا، على مساحة لا تتجاوز 500 متر مربع، ونطاق يقطنه ما بين 50 إلى 70 ألف نسمة.

وشدد أن الأخطر من ذلك، أن عمليات طحن المخلفات الخام واستخلاص الذهب تتم داخل الحدود الإدارية لمدينة تلودي نفسها، قرب السجن والحامية والقيادات العسكرية، مما يزيد احتمالية التلوث المباشر، ويثير تساؤلات حول تواطؤ أو تغاضي الجهات الأمنية.

ويؤكد وجود شبكة واسعة من الفساد والمصالح تساهم في تفاقم الكارثة، حيث تتلقى السلطات المحلية مدفوعات ورواتب شهرية من الشركات مقابل التغاضي عن هذه الممارسات، وهو ما يفسر سبب عدم توقف العمل. ويشدد على أن هذه المشكلة ليست وليدة اللحظة، بل هي ظاهرة متجذرة تعود إلى سنوات سابقة، ملقياً باللوم على الأنظمة المتعاقبة التي سمحت بهذه التجاوزات. وينفي بشدة مزاعم الكوليرا، مستنداً إلى الموقع الجغرافي؛ فلو كانت كوليرا، لكانت انتقلت إلى مناطق تعدين أخرى قريبة، لكن الحالات تركزت حول منطقة التقولا تحديداً.

مطالب مشروعة

خلصت لجنة مناهضة السيانيد في تلودي، وفق عضو منها تحدث لـ(عاين) طالباً حجب اسمه، إلى جملة مطالب لوقف التلوث في المنطقة، من ضمنها المحاسبة الفورية لكل من تسبب في الكارثة، أو تستر عليها، التخلص الآمن من جميع النفايات الكيميائية السامة الموجودة في المنطقة، والإغلاق الفوري لجميع عمليات التعدين التي تعتمد على مواد سامة مثل السيانيد بشكل نهائي، والاعتراف الرسمي من السلطات الصحية بأن ما يحدث هو تسمم وليس كوليرا.

ويشدد الأهالي على أنهم لا يطالبون بعرقلة استغلال الموارد، بل بوقف الجريمة المرتكبة بحقهم، وأن تُسْتَغَلّ الثروات بطريقة تخدم المجتمع المحلي، وتوفر العائدات الضرورية لتمويل الخدمات الأساسية كالصحة والتعليم والمياه النقية.

أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *