“دواء مُهرب ومغشوش”.. السودانيون أمام وعد كاذب باستمرار الحياة
عاين- 10 يوليو 2025
في السودان، لم تعد الحرب تقتل بالرصاص فقط، بل تسللت إلى داخل العلب الصغيرة التي توضع على رفوف الصيدليات، لم يعد السؤال حول توفر الدواء، بل صار: هل المتوفر في الأسواق فعلاً دواء؟.
من قطرة عين تحرق البصر، إلى شراب أطفال بلا مادة فعالة، ومن صيدلي يرفض الغش ويخسر الزبائن، إلى شبكات تهريب تتاجر بالدواء كما تتاجر بالوقود والسلاح تتكشّف مأساة خفية تهدد أرواح ملايين السودانيين.
هنا لا نبحث عن الدواء، بقدر بحثنا عن الحقيقة داخل عبوات الدواء التي قد تكتب للمريض الحياة، أو الموت.
من مدينة أم درمان غربي العاصمة السودانية، روت المريضة عواطف تجربتها المؤلمة مع الدواء المغشوش لـ(عاين)، بعد شرائها قطرة لعلاج الجلوكوما من صيدلية معروفة.
لم تكن تتوقع عواطف، أن تتحول القطرة التي اعتادت استخدامها بانتظام إلى مصدر خطر مباشر على بصرها. تقول: “بمجرد أن وضعتها شعرت بحرقة شديدة كأن شيئًا حارقًا دخل عيني، تبعتها حكة واحمرار لم أعهده من قبل.” وبعد مراجعة طبيبها، تبيّن أن ضغط عينها قد ارتفع بشكل ملحوظ، وعند اطلاعه على العبوة، أوقفها فورًا وأخبرها بأنها “قطرة مغشوشة”. الدواء جاء من صيدلية موثوقة، مما زاد صدمتها. تقول: “منذ ذلك اليوم، أصبحت لا أشتري إلا من صيدلية محددة أوصى بها الطبيب”. ورغم أنها لا تلوم بالضرورة بلد المنشأ، إلا أنها أصبحت تتوجس من الأدوية القادمة من مصر، مضيفة: “المشكلة في طريقة دخولها إلى السودان، وليس في مكان تصنيعها”.
تجربة عواطف ليست حالة معزولة، فقد التقت خلال مراجعتها للطبيب مرضى آخرين تعرضوا لمشكلات مشابهة، أحدهم ساءت حالته حتى فقدان البصر تماماً كما تقول عواطف مما يعكس اتساع رقعة الدواء المغشوش في السوق السوداني.
تهريب منظم وأرباح خيالية: من القاهرة إلى السودان
يكشف أحد المشتغلين في تجارة الأدوية المهرّبة، وهو لا يملك خلفية طبية، لـ(عاين)، كيف تحوّلت هذه التجارة إلى مصدر دخل مغرٍ منذ اندلاع الحرب في السودان. يقول: “بدأت العمل مع بداية الحرب، لأن الأرباح كبيرة رغم المخاطر. في إحدى المرات، فقدت شحنة كاملة بعد تعرض السيارة لإطلاق نار عند الحدود المصرية السودانية، مما أدى إلى تلف كل الأدوية.”
يعمل هذا التاجر على نحو غير رسمي، بناءً على طلبات خاصة. “الناس ترسل لي الاسم العلمي فقط، ولا أتعامل باسم الشركة، فقد يختلف هنا، أو صورة العبوة”، كما يوضح. يتعاون مع شخصين في مصر يمتلكان مخازن مرتبطة بسلسلة صيدليات. أحدهما يشترط نصف المبلغ مقدمًا، بينما يقبل الآخر الدفع بعد التسليم. ومع تصاعد الفوضى في الطريق السفري بين البلدين، أصبح التاجر يكتفي بتلبية الطلبات الخاصة دون العمل على نطاق واسع.
بعض المصريين يستغلون حاجة السودانيين، من خلال تصنيع أدوية مغشوشة بمواد أولية غير دوائية مثل نشا الذرة ومكونات صناعية للنكهة واللون
مُهرب أدوية
يشير التاجر الذي فضل حجب اسمه، إلى استغلال بعض المصريين لحاجة السودانيين، من خلال تصنيع أدوية مغشوشة بمواد أولية غير دوائية مثل نشا الذرة ومكونات صناعية للنكهة واللون، كما تُحَضَّر القطرات والمعلقات باستخدام الماء. ويضيف: “أحيانًا يكتفون بتعديل تاريخ الصلاحية فقط، ويعتبرونه أهون الشرور.”
تهريب الأدوية من مصر إلى السودان يخضع لمعادلات معقدة تختلف حسب النوع والكمية. بعض الأدوية النادرة، مثل أدوية السرطان، تُهرّب بكميات صغيرة (3 إلى 4 عبوات)، ويُعتمد في إيصالها على سائقين بصات يملكون علاقات وثيقة في المعابر. هذه الأدوية تُشترى في مصر بسعر مدعوم لا يتجاوز 25 ألف جنيه سوداني، وتُباع لاحقًا في السودان بأكثر من 500 ألف، مع دفع عمولات إضافية تصل إلى 100 ألف جنيه سوداني للصيدلي المصري المزوّد.
أما الشحنات الكبيرة، فيجري تنسيقها عبر المعابر الحدودية بالتعاون مع ضباط في الجانبين. وتُنقل باستخدام سيارات دفع رباعي، حيث تُرسل الشحنة من القاهرة إلى أسوان كأنها شحنة محلية، ومن هناك يتسلمها السائق. أما نقاط التسليم داخل السودان، فتتنوع بين مناطق مثل أب حمد الطريق “الشرقي” عبر نوراي، العبيدية ثم عطبرة، وعبر منطقة شلاتين لبورتسودان، ما يعكس مدى تنظيم وتعقيد شبكات التهريب التي تربط بين البلدين.
بين الأخلاق والخسارة
من داخل إحدى الصيدليات في أم درمان، يواجه الصيدلي عمر تحديات يومية بين التزامه المهني ومتطلبات السوق المتقلبة. يقول بصراحة: “أرفض بيع الدواء المهرّب، لأنني لا أضمن جودته، ولا يمكنني توفير علاج لا أعرف مصدره.” لكن هذا الموقف المبدئي له كلفة باهظة، إذ يضيف في مقابلة مع (عاين): “أفقد بعض الزبائن، لأنهم يجدون نفس الدواء – أو ما يشبهه – خارج الصيدلية بسعر أقل.”
لا يوجد دعم حقيقي للصيدليات الملتزمة، وهذا ما يفسح المجال لانتشار الأدوية المغشوشة والمهرّبة، ومعه تضيع الثقة بالنظام الصحي بأكمله
صيدلي في أم درمان
يعمل عمر وفق القوانين، ويشتري الأدوية من شركات معروفة وبفواتير رسمية. إلا أن وجود سوق موازية خارج الرقابة يشكّل ضغطًا حقيقيًا على عمله، كما يقول: “هناك سوق كاملة تعمل دون رقابة، وهذا يضر بنا كثيرًا.”
لا تتوقف الخسائر عند الجانب المالي فحسب، بل تمتد لتشمل الثقة بين المريض ومقدّم الخدمة. “المريض قد يستخدم دواءً مهرّبًا غير فعّال، فيظن أن الخطأ من الطبيب أو الصيدلي، بينما المشكلة في الدواء نفسه.”
ومع تزايد النقص في الأدوية المسجّلة، يعترف عمر بأن بعض المرضى لا يعودون إليه، ببساطة لأنه لا يوفّر ما يحتاجونه. يقول: “أحيانًا لا أجد بديلًا، وأشعر بأن لا خيار أمام المريض سوى التوجّه إلى السوق الموازية، خاصة مع غياب الرقابة تمامًا.”
ويختم حديثه: “كل يوم نفقد جزءًا من السوق، ولا يوجد دعم حقيقي للصيدليات الملتزمة، وهذا ما يفسح المجال لانتشار الأدوية المغشوشة والمهرّبة، ومعه تضيع الثقة بالنظام الصحي بأكمله.”
قطرات الجلوكوما تفقد فعاليتها
من مدينة دنقلا شمالي السودان، يصف د. جماع الصادق، اختصاصي طب العيون، المشهد الطبي بعد اندلاع الحرب بأنه “مفتوح على المجهول”. ويشير إلى أن توقف شركات توريد الأدوية وفقدانها لمخازنها بالكامل، أجبر المرضى على الاعتماد على الأدوية “مجهولة المصدر، وتُباع دون رقابة، مما يزيد احتمالات تسرب أدوية مغشوشة أو منتهية الصلاحية تم تغيير تواريخها.”
د. الصادق في مقابلة مع (عاين) يشير إلى أن ملاحظات أطباء العيون — ومن بينهم هو — تشير إلى تراجع ملحوظ في فعالية بعض أدوية علاج الجلوكوما، خاصة قطرة “زولامول”، وهي واحدة من أكثر القطرات استخدامًا في السودان. ويضيف: “من غير السهل التمييز بين الدواء المغشوش والأصلي، لكن استمرار ارتفاع ضغط العين رغم الالتزام بالعلاج يُعد مؤشرًا خطيرًا.”
معظم قطرات العيون المتوفرة حاليًا في الأسواق يُشكّ في جودتها وتُباع أحيانًا على نحو علني في بعض الصيدليات
طبيب عيون في مدينة دنقلا
ويوضح أن المرضى العاديين يصعب عليهم كشف الغش الدوائي، لكن في بعض الحالات يمكن ملاحظة اختلاف في الطعم — خاصة في الأدوية الفموية — بينما يمكن للصيادلة المحترفين التعرّف على الأدوية المشكوك فيها من شكل العبوة أو اختلافات بسيطة في الغلاف الخارجي.
وينوه د. جماع إلى أن معظم قطرات العيون المتوفرة حاليًا في الأسواق “يُشكّ في جودتها”، بل تُباع أحيانًا على نحو علني في بعض الصيدليات. ويؤكد أنه شخصيًا لاحظ تزايدًا في عدد المرضى الذين يأتون إلى العيادة، وهم يعانون ارتفاع في ضغط العين، رغم استخدامهم القطرات بانتظام.
ويُعرب عن أسفه لغياب الجهة المسؤولة عن تحليل الأدوية وفحصها، ويقول: “هذا من صميم عمل إدارة الصيدلة والسموم، لكنها غير حاضرة في المشهد الآن”. ويشير إلى أنه، ومع عدد من الأطباء، يحاولون قدر الإمكان تجنّب الأدوية المشكوك فيها والاعتماد على بدائل من شركات معروفة، عندما تكون متاحة.
ويحذر د. جماع قائلا:”سبق أن نبّهت إلى خطورة الوضع، بل لدي صور توضح عمليات غش صريحة، منها حالة تم فيها تغليف عبوة أوبتفلوكس بديباجة زولامول” ويعتبر هذه الحيلة دليلاً صارخًا على اتساع دائرة الغش في غياب الرقابة”.
عندما يُباع الوهم في عبوة
في ظل الانهيار المتسارع لنظام الرعاية الصحية في السودان، ووسط شحّ الأدوية وغياب الرقابة، تتداخل مفاهيم دقيقة وتُستغل بطريقة خطيرة. من بين هذه المفاهيم، يبرز الخلط بين “البيلاسيبو” — وهو علاج وهمي يُستخدم لأغراض البحث العلمي — وبين “الدواء المغشوش” الذي يُباع في السوق السوداء دون ضمان أو رقابة.
يوضح الطبيب السوداني علي حسن (اسم مستعار) هذا الفرق قائلاً: “البيلاسيبو مادة خاملة تُعطى في سياق تجربة سريرية وبعلم المريض، أما الدواء المغشوش فهو مادة غير فعّالة أو ضارة، تُباع كدواء حقيقي، وتُعرض صحة الناس للخطر”. ويضيف محذرًا من التبريرات التي بات يروّج لها بعض البائعين، مثل القول إن “البيلاسيبو قد يُشفي”، معتبراً ذلك “تضليلًا خطيرًا يفتح الباب لبيع الوهم على أنه علاج”.
أحيانًا يأتي المريض وقد تحسّن ظاهريًا بعد تناول دواء مجهول، لكن عندما نفحصه نجد ضغط الدم أو مستوى السكر في الجسم خارج السيطرة
طبيب
ويروي الطبيب من واقع تجربته في عيادته قائلاً لـ(عاين): “أحيانًا يأتي المريض وقد تحسّن ظاهريًا بعد تناول دواء مجهول، لكن عندما نفحصه نجد ضغط الدم أو مستوى السكر في الجسم خارج السيطرة، وقد تكون حالته في تدهور خطير، دون أن يدري”. ويرى أن الحرب جعلت من الوهم سلعة، يشتريها الناس بثمن بخس، لتكون النتيجة أمراضًا مزمنة أو فشلًا كلوياً، خاصة بين مرضى السكري والضغط، مؤكدًا أن “هذا غش، وجريمة كبيرة”.
ويوجّه الطبيب نداءً صريحًا للمرضى وللشارع العام: “إذا أخبرك شخص غير مؤهل أو حتى صيدلي أن لديه دواء يشبه الأصلي لكنه أرخص، لا تأخذه. لا يوجد دواء حقيقي يُباع من صندوق سيارة، أو في الظلام”. كما قدّم ثلاث نصائح للوقاية من هذا الخطر: التحقق من تسجيل الدواء في وزارة الصحة، بسؤال الصيدلي بشكل واضح إذا كان مسجلاً أم لا وعرض الأدوية على الطبيب قبل استعمالها، وعدم الاعتماد على التحسّن السطحي دون فحوصات طبية، والإبلاغ الفوري عن أي أعراض غريبة بعد استخدام دواء مشكوك فيه.
ويختم قائلاً: “البيلاسيبو ينتمي للبحث العلمي ويُدار بأخلاقيات صارمة، أما الدواء المغشوش، فهو أداة استغلال لليأس، وخداع قاتل مغلّف بعبوة ملونة”. في ظل هذه الظروف، يؤكد الطبيب أن أخطر ما يمكن فعله هو المساواة بين الأمل القائم على العلم والوهم المغلّف بالخداع.
في انتظار دواء لا يخون
بين المهربين الذين يسعون للربح، والمرضى الذين يتمسكون بأي أمل، تضيع الحقيقة داخل عبوات ملوّنة، بعضها يحمل شفاءً، وبعضها الآخر يحمل سماً قاتلًا يتلاشى على إثره الوعد بالحياة الذي تمنحه عبوات الأدوية الصغيرة للمرضى، لكنه عندما يُزوَّر هذا الوعد، يفقد السودانيون آخر ما تبقى من ثقته بنظامهم الصحي الذي ضاعفت الحرب معاناته.