الأقباط في حرب السودان.. فظائع تطال الأحياء والموتى
عاين- 15 أكتوبر 2024
لم تتوقف نيران الحرب الضارية عند الأحياء من السودانيين الأقباط، لكنها طالت الأموات منهم عندما اقدم جنود على اقتحام كنائس في العاصمة الخرطوم ونبش قبور الموتى بحثا عن الذهب، ما يجسد نوعاً مختلفاً من الانتهاكات التي تعرض لها هذا المكون الاجتماعي، مما دفعهم إلى فرار قسري من البلاد للمرة الرابعة في تاريخهم الحديث، وسط تساؤلات بشأن إمكانية عودتهم إلى ديارهم مجدداً.
بدأت الانتهاكات في حق الأقباط باحتجاز قوات الدعم السريع عدد من رجال الدين، ومن ثم اقتحام دور العبادة “كنائس” في الخرطوم وأم درمان، كما اُسْتُهْدِفُوا على أساس المعتقد، وفق ما وثقه الجناة بمقاطع مصورة بثت على منصات التواصل الاجتماعي.
يشكل الأقباط أكبر طائفة مسيحية في السودان، وينتمون إلى الكنيسة القبطية الأرثوذكسية
ويشكل الأقباط أكبر طائفة مسيحية في السودان، وينتمي معظم الأقباط إلى الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، ويعود تاريخ وجودهم في السودان إلى القرن الرابع الميلادي، وفق مؤرخين.
ويمثل الأقباط كتلة اقتصادية مؤثرة في البلاد، إلى بصماتهم في الحياة الثقافية والاجتماعية في كافة المناطق التي سكنوها لا سيما مدن العاصمة السودانية الثلاث، الخرطوم، بحري، أم درمان، وود مدني عاصمة ولاية الجزيرة أواسط السودان، والأبيض في شمال كردفان، ونيالا في جنوب دارفور، بالإضافة إلى ولاية سنار، فقد أسسوا أول مدرسة أهلية للبنات في العام 1902م.
صرح آخر يمثل أبرز ملامح هذا المكون الاجتماعي في وسط العاصمة الخرطوم، وهو المكتبة القبطية التي تأسست في العام 1908، وتضم كتباً تاريخية ومخطوطات، وكانت مركزاً ثقافياً مهما، كما توجد كنيسة العهد الجديد في مدينة نيالا غربي البلاد، والتي كانت بمثابة مقر للاستنارة، فجميع هذه المعالم باتت تحت النيران، بينما هجرها أهلها في رحلات هروب جماعية.
نبش القبور
تنوعت الانتهاكات بحق مكون السودانيين الأقباط، ووصلت حد نبش قبور الموتى في بعض كنائس الأقباط بواسطة مسلحي قوات الدعم السريع، بحثاً عن الذهب، وفق ما أفادت به المحامية والناشطة في قضايا حرية الدين والمعتقد بابل اسحق (عاين).
وتقول إسحق: إن “الاحتجاز الذي تعرض له عدد كبير من الأقباط في المنازل والكنائس بعد اندلاع الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع منتصف أبريل من العام الماضي، أثر سلباً على الوضع النفسي لهم قبل أن تتدخل اللجنة الدولية للصليب الأحمر وتجليهم”.
وتشير بابل إلى أن الأقباط مجموعة مؤثرة في المجتمع السوداني، وأسهمت في تعزيز التنوع لتميزهم بالسلام الاجتماعي وقبول الآخر، وما تعرضوا له مماثل لما عانوه المكونات السودانية الأخرى، والتي واجهت التهجير القسري ونهب الممتلكات الخاصة والعامة والاعتداءات الجسدية واللفظية، وتدمير دور العبادة وغيرها من الانتهاكات.
وهي المرة الرابعة التي يضطر فيها الأقباط السودانيون إلى مغادرة البلاد قسرا، فبحسب الروايات التاريخية، فإن العديد من الأقباط فروا من السودان إبان حكم المهدية والتضييق الذي كانت تمارسه عليهم سلطة الخليفة عبد الله التعايشي وتخييرهم بين اعتناق الإسلام أو دفع الجزية، وعادوا مع بداية الحكم الإنجليزي المصري للبلاد.
عاود الأقباط هجرات قسرية من السودان خلال حكم الرئيس الأسبق جعفر نميري وسن ما يعرف بقوانين سبتمبر سنة 1983م، فقد مارست السلطات وقتها تضييقاً واسعاً عليهم، وعلى أنشطتهم الاقتصادية والتجارية، وبلغت الانتهاكات ذروتها بعد صعود نظام الجبهة الإسلامية إلى الحكم بانقلاب عسكري في 89، والذي كان وبالا على هذا المكون، إذ صُودِرَت ممتلكاتهم، ودفعهم ذلك إلى المغادرة لمختلف دول العالم.
وترى الحقوقية بابل اسحق، أن عودة الأقباط إلى السودان مجدداً مرهون بتوقف الحرب ووحدة البلاد بعدها نظراً لارتباطهم بالأرض والتاريخ والثقافة والوطن، فالنظام السياسي الذي يحكم السودان عقب القتال الحالي ينبغي أن يراعي قضايا الأقليات الدينية وإنصافها، وأن تقف الدولة على مسافة واحدة من كل الأديان.
وتوقعت إسحق التي تحدثت لـ(عاين) أن تشهد فترة ما بعد الحرب تغييرات كبيرة في أوضاع عامة المسيحيين في السودان.
عدالة ديسمبر
وأنهت ثورة ديسمبر التي أطاحت بحكم الإخوان المسلمين، عقود من الظلم المرتكب في حق السودانيين الأقباط، وأعادت لهم ممتلكاتهم التي صُودِرَت مع السماح لهم بتأسيس دور عبادة جديدة، لكن السلطة الانتقالية لم تستمر طويلا، فسرعان ما اُنْقُضّ عليها من قبل العسكريين، واندلعت الحرب ليعود الأقباط إلى عهد الانتهاكات والفرار القسري.
لبت الثورة الشعبية أشواق أقباط السودان، ورسموا خلالها أبهى صور التسامح والتعايش، عندما أمسكوا بالخيام، وهم يظللون للمصليين المسلمين في أحد أيام الجمعة في ساحة الاعتصام أمام قيادة الجيش في الخرطوم في العام 2019 ليحموهم من حرارة الشمس، في مشهد ما يزال عالقاً في مخيلة السودانيين.
ويقول الخبير القانوني نبيل أديب في مقابلة مع (عاين): إن “أغلب منسوبي طائفة الأقباط اضطروا للجوء خارج البلاد، وهو واقع مماثل لما عاشه عامة السودانيين الذين فروا من ديارهم هربا من الحرب.”
ويشير أديب، إلى أن الأقباط طائفة دينية نشأت في مصر، وهاجرت إلى السودان بعد الغزو الإنجليزي والتركي المصري للبلاد، وكان ذلك خلال العام 1820، واستمرت الهجرات طوال العهود اللاحقة، لكنها انقطعت خلال فترة حكم الدولة المهدية لتعود مع الحكم الثنائي، وهي مدة زمنية طويلة جعلت الأقباط يأخذون طباع المكونات الاجتماعية الأخرى في المناطق التي عاشوا فيها بالبلاد، مع احتفاظهم بالعادات المتصلة بمعتقداتهم الدينية.
عدد الأقباط في السودان نحو مليون ونصف ينتشرون في أنحاء متفرقة من البلاد خاصة عواصم الولايات، وأكبر تجمع لهم في مدينة عطبرة وأم درمان
وشدد أن “الأقباط أصبحوا يشكلون طائفة سودانية معروفة في المدن الكبيرة في شمال وغرب السودان، وفي العاصمة المثلثة على وجه الخصوص، وساهموا في الحركة الوطنية، وفي الحركة السياسية السودانية”.
ويبلغ عدد الأقباط في السودان نحو مليون ونصف نسمة ينتشرون في أنحاء متفرقة من البلاد خاصة عواصم الولايات، وأكبر تجمع لهم في مدينة عطبرة بولاية نهر النيل شمالي البلاد، وأم درمان.
واشتهر الأقباط المسيحيون الأرثوذكس، بالعمل في الصناعة والتجارة، وتولوا وظائف في الخدمة المدنية والسياسية، إذ تولى وديع حبشي منصب وزير الزراعة، وموريس سدرة وزير الصحة، في عهد الرئيس الأسبق جعفر نميري، وكانت تريزا شاكر نائبا في البرلمان في عهد الرئيس المخلوع عمر البشير، كما تقلدت رجاء نيكولا عبد المسيح عضواً بمجلس السيادة في السلطة الانتقالية التي تشكلت بعد ثورة ديسمبر.
ويرى القانوني نبيل أديب، الذي ينتمي إلى الطائفة القبطية أن عودة السودانيين بمختلف مكوناتهم بما فيهم إلى الأقباط إلى ديارهم مرهونة بتوقف الحرب والتي ما تزال تشهد غموض ومدى قدرتهم ونجاحهم أو فشلهم في خلق بدائل للعيش والاستقرار في المناطق التي لجأوا إليها، لافتاً إلى أنه مع تطاول أمد القتال حاول الفارين إيجاد أعمال تمكنهم من العيش في البلدان التي وصلوها خاصة مصر.
شكوك العودة
وكشف تقرير الحريات الدينية الأمريكي لعام 2023 السنوي عن وضع الحريات الدينية حول العالم عن تعرض دور العبادة للقصف الجوي والمدفعي في السودان واستهداف متعمد للمباني الكنسية من قبل قوات الأمن (قوات الأمن السودانية / قوات الدعم السريع) للاستيلاء على الأراضي أو تهجير المجتمعات المسيحية.
في الأول من أغسطس، نشرت وسائل إعلام محلية مقطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي يظهر أفرادًا من قوات الدعم السريع يهاجمون ويهددون المسيحيين الأقباط، ويضغطون عليهم لاعتناق الإسلام، إلى جانب اقتحام قوات الدعم السريع لكنيسة مار مينا القبطية في أم درمان، وكنيسة أسقفية في الخرطوم واستخدامها كقاعدة استراتيجية، وإخلاء قوات الدعم السريع جميع الكهنة قسراً، بما في ذلك الأسقف إيليا، أسقف الخرطوم وجنوب السودان، من كنيسة السيدة العذراء القبطية الأرثوذكسية في الخرطوم من أجل استخدام المبنى كقاعدة عسكرية.
ويقول الأكاديمي السوداني النزير إدريس لـ(عاين): إن “الأقباط شريحة مميزة في المجتمع السوداني ورغم قلة عددهم، إلا أن دورهم في مختلف مناحي الحياة كان حاضراً ومؤثراً، وذلك من خلال معايشتهم لهم عن قرب في مدينة نيالا غربي البلاد لسنتين، فالتعامل التجاري معهم مريح، إذ لا يعرفون الغش، ولا يزيدون الأسعار دون مبرر.
وأضاف إدريس: أن “التجار الأقباط لعبوا دوراً كبيراً في توثيق وتوسيع العلاقات التجارية بين مصر والسودان؛ حيث كانت مصر طريق التجارة الخارجية للسودان إلى العالم.
ويرى أن الانتهاكات والفظائع التي تعرض لها الأقباط خلال الحرب الحالية ربما تجعلهم يمتنعون من العودة إلى ديارهم مجدداً؛ مما يشكل خسارة كبيرة للسودان.