العسكريون في السودان.. خرق الدستور وخنق الإنتقال؟
12 أكتوبر 2021
في الوقت الذي تُبزل فيه الجهود لإيقاف المواجهات الإعلامية، بين شركاء الفترة الانتقالية، والعودة لتنفيذ بنود الوثيقة الدستورية الحاكمة، عن طريق إكمال المهام بنجاح، جاءت تصريحات قائد الدعم السريع، محمد حمدان دقلو، لتعمل على تصعيد الأزمة من جديد بعد تشديده على عدم تسليم ادارة جهاز الشرطة وجهاز الأمن والمخابرات العامة للمدنيين، الأمر الذي أعتبر محاولة لاختبار إمكانية تمرير خرق دستوري جديد.
ومنذ 21 أغسطس 2019 يعيش السودان فترة إنتقالية، من المؤمل أن تقود إلى إجراء إنتخابات حرة ونزيهة في نهايتها.
وسارع وزير شؤون مجلس الوزراء، خالد عمر يوسف بالقول:” إن تصريح عضو مجلس السيادة، محمد حمدان دقلو، بشأن تبعية الجهازيين للعسكريين، فيه خرق واضح للوثيقة الدستورية، التي نصت في المادة (36): ” على خضوع الشرطة للسلطة التنفيذية، ولم تنص على تبعية حصرية للعسكريين على الجهازين.
وأكد يوسف في منشور على فيس بوك، إن مهمة تطوير وإصلاح الأجهزة الأمنية والعسكرية، تعتبر مهمة جوهرية في إنجاح التحول الديمقراطي، مشيراً إلى أن تصريح “حميدتي” يُعدُ تهديداً مباشراً للوفاء بالتزامات ومهام الوثيقة الدستورية، مؤكداً على أنهم سيعملون للتصدي لذلك بشكل جاد وصارم.
ولا يُمكن النظر لتصريحات حميدتي المتعلقة بتبعية الشرطة وجهاز الأمن المخابرات العامة بمعزل عن الواقع السياسي المختنق الذي تشهده البلاد، الذي يُشير لمحاولة العسكريين خنق البلاد، عبر خلق الأزمات المتوالية على المستويين السياسي والأمني.
ففي وقت سابق، دفع التردي الأمني الحكومة إلى إتهام عناصر النظام البائد، بالوقوف وراء الاضطرابات الأمنية التي تشهدها العاصمة الخرطوم وعدد من مدن البلاد.
وشهد الواحد وعشرون من سبتمبر الماضي، محاولة إنقلابية فاشلة، نفذها ضباط من سلاح المدرعات بمنطقة الشجرة جنوب الخرطوم، الأمر الذي أدى لمزيد من المخاوف على مصير المرحلة الانتقالية.
وفي شرق السودان يطالب الزعيم الأهلي محمد الأمين ترك، المدعوم من المكون العسكري بالحكومة الإنتقالية، بحل الحكومة وإلغاء مسار الشرق المُضمن في إتفاق جوبا لسلام السودان. الأمر الذي دفع دول الترويكا، أمس الجمعة، للدعوة بإنهاء الحصار المستمر للموانئ والبنية التحتية للنقل في شرق البلاد.
ودرج المكون المدني على إتهام العسكريين بالتغول على صلاحيات الحكومة التنفيذية التي نصت عليها الوثيقة الدستورية، كما يُطالب بالعمل على وقف تمدد العسكريين على السلطات التنفيذية وتعزيز مدنية السلطة الإنتقالية، لنزع ملف السلام من بين أيدي العسكريين، ضمن ملفات أخرى.
وفي مقابلة مع (عاين) يقول والمستشار القانوني والمرشح السابق لمنصب النائب العام، محمد الحافظ :”إن تصريحات ” حميدتي” تعتبر ضد روح الوثيقة الدستورية. وضد الأهداف التي اندلعت لأجلها ثورة ديسمبر المجيدة، موضحاً أن السودانيين، خرجوا للشارع من اجل الاطاحة بالحكم الشمولي ورغبةً في الوصول إلى نظام ديمقراطي برلماني واضح.
ويلفت الحافظ النظر إلى أن جوهر الوثيقة الدستورية، جعل من مجلس السيادة الانتقالي مجرد رمز يتكون من عدة أعضاء لا يحق لأحدهم التصريح بشكل منفرد، على أن تصدر القرارات بإسم كامل المجلس. مشيراً إلى أن المكون العسكري بمجلس السيادة الانتقالي غير مدرك لهذا المعنى.
وتابع: إن جوهر الوثيقة الدستورية يحضّ على التحول الديمقراطي، بحيث تكون سلطات إتخاذ القرار بيد المدنيين، على أن تعمل قوات الشعب المسلحة والشرطة وجهاز الأمن والمخابرات الوطني على حماية الوثيقة الدستورية، موضحاً أن العسكريين اخترقوا الوثيقة التي التزموا بحمايتها مراراً بما في ذلك تصريحات حميدتي المُشار إليها.
خروقات دستورية
“الوثيقة الدستورية لم تنص على وجود منصب نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي” يقول الحافظ. ويضيف:إن الوثيقة نصت بوضوح على أيلولة كل صلاحيات رئيس الجمهورية لرئيس مجلس الوزراء، في إشارة إلى أن الدولة ديمقراطية، يلعب فيها رئيس مجلس الوزراء الدور الأكبر طوال الفترة الانتقالية. ونوه الحافظ إلى أن جهاز الشرطة يعدُ جهازاً فنياً في المقام الأول، موضحاً أن النظام البائد ذو الوجهة الشمولية عمل على عسكرته وتحويله آلة قمع.
ويرى الحافظ إن الانفلات الأمني الذي شهدته الخرطوم العاصمة والعديد من الأقاليم الأخرى، بالإضافة إلى تصاعد مشكلة شرق السودان، عبر مطالب الزعيم الأهلي محمد الأمين ترك، المدعوم من العسكريين،التي تدعو لحل الحكومة الانتقالية ، ضمن مطالب أخرى، الهدف منها إضعاف الحكومة الانتقالية للانقضاض عليها.
ويشير الحافظ إلى أن تنامي الحديث عن وجود خلايا إرهابية مؤخراً أمر مقصود، الهدف منه ترويع المدنيين ومحاولة إقناعهم بضرورة إستمرار العسكريين في تقلد مهامهم بذريعة الحفاظ على الأمن.
وأوضح الحافظ أن تمسك العسكريين بالسلطة بالرغم من مخالفته للوثيقة الدستورية الحاكمة، مرده الخوف الذي يُسيطر على مخيلتهم، منذ مجزرة فض اعتصام القيادة العامة للجيش في الثالث من يونيو 2019.
من جانبه، يقول المحامي والناشط في الشأن العام، عبد الباسط الحاج، في حديثه لـ(عاين): “إن مهام الانتقال الأساسية في السودان، تتمثل إصلاح القطاع الأمني بشكل وإعادة هيكلته ليتوافق مع الخطط والسياسات التي تعمل على إرساء قواعد النظام الديمقراطي.
ويقول الحاج إن مظاهر تغول العسكريين على سلطات الحكومة الانتقالية المدنية، تتجلى في عدم إخضاع الشرطة وجهاز الأمن والمخابرات، حتى الآن للسلطة المدنية المعنية بإنفاذ سياسات وبرامج الانتقال الديمقراطي في السودان.
تغول العسكريين
ويوضح الحاج إن العسكريين تغولوا على سلطات المدنيين المنصوص عليها الوثيقة الدستورية، مثل ملف السلام الذي تم تغييب المدنيين فيه، بالإضافة لتدخل المكون العسكري السافر في ملف علاقات البلاد الخارجية، ومحاولة رسم سياسات البلاد بشكل مُنفرد عن المكون المدني.
ولفت الحاج إلى أن المكون العسكري ظل يعيق إكمال هياكل السلطة الانتقالية بما في ذلك المجلس التشريعي، الذي يقع على عاتقه مراقبة أعمال مجلسي السيادة و الوزراء و يجيز تصرفاتهم، الأمر الذي لا يتوافق مع أهواء العسكريين، بالإضافة لتأخير العسكريين تشكيل المفوضيات القومية المستقلة.
تبعية بموجب الدستور
ويوضح الحاج، أن المادة (36) من الوثيقة الدستورية، حددت مسألة تبعية جهاز الشرط عندما نصت علي أنها تخضع مباشرة للسلطة التنفيذية و تأتمر بأوامرها ولسلطات مجلس الوزراء وفقاً للقانون. ويرى الحاج أن أي خطوات أو تصرفات مضادة لهذا النص الصريح تعتبر تعطيلاً لإدارة جهاز الشرطة بواسطة المدنيين، كما تُعد ضد السياسات العامة للمرحلة الإنتقالية وتوطين الديمقراطية.
“وبالنسبة لجهاز المخابرات العامة، فقد نصت المادة (37) علي أنه جهاز يختص بجمع المعلومات و تحليلها و تقديمها للجهات المختصة. ومن حيث تبعيته فإنه يخضع للسلطتين التنفيذية و السيادية معاً. يوضح الحاج، الذي يعتبر أن تصريحات “حميدتي” تُعد خرقاً للدستور وضد إكمال مهام الإنتقال الأساسية التي قامت من أجلها ثورة ديسمبر المجيدة. مشيراً إلى أن المادة الثامنة من الوثيقة الدستورية الفقرة (12) مهام الفترة الانتقالية نصت علي: “وضع برامج لإصلاح أجهزة الدولة خلال الفترة الانتقالية، مؤكداً على أن عملية الإصلاح من ضروريات خلق نظام سياسي مستقر و حكم رشيد.
وأشار إلى أن تصريح “حميدتي” يعتبر تهديد للمكون المدني و تقليص لدوره في الإصلاح المؤسسي خاصة الشرطة وجهاز المخابرات العامة الذّين يجب أن يخضعا للسلطة التنفيذية.
ويلفت الحاج النظر إلى أن الهدف من الإصلاح المؤسسي في مدة الفترة الانتقالية هو التمهيد للمرحلة التي تعقب الفترة الانتقالية مباشرة وهي الانتخابات والتي تقوم نزاهتها و شفافيتها على استقلالية المؤسسات،كما أنها تحفظ العملية الديمقراطية كإستحقاق أساسي للمواطن ولاحقاً لتكون المسؤولة عن حفظ النظام و الدستور .
ارباك المشهد السياسي
من جهته يقول القيادي بالحرية والتغيير،عضو المكتب السياسي لحركة القوى الجديدة (حق)، مجدي عبد القيوم، في حديث مع (عاين):”إن تصريحات حميدتى الأخيرة، تأتي فى سياق سياسة محاولة الإيقاع بين شركاء الحكم بهدف تعديل ميزان القوى السياسية، مشيراً إلى أن العسكريين يسعون لارباك المشهد السياسي عن طريق صناعة الأزمات بانتهاج سياسة حافة الهاوية، بغرض تحسين شروطهم التفاوضية.
وشدد عبد القيوم، على أنه نهج غير مفيد وسيقود العسكريين إلى مأزق جديد، عن طريق تضييق الخناق عليهم أكثر. ودلل عبد القيوم على ذلك بقوله: “إن سياسة قفل الطريق الرئيسي بين بورتسودان وبعض مدن السودان، بواسطة الزعيم الأهلي “ترك” المدعوم من العساكر، سيضعهم على طريق الجرائم ضد الانسانية، لافتاً إلى أن المنظمات الحقوقية العالمية لن تقبل بتعرض حياة ملايين المواطنين للخطر، بغض النظر عن الذرائع، خاصة فى ظل دولة مدنية تتاح فيها حرية التعبير والفعل السياسي بكافة أشكاله.
وأكد عبد القيوم على أن تصعيد الأزمة من قبل المكون العسكري حول الشرطة وجهاز المخابرات العامة مفهوم، موضحاً أن الجهازين يُعتبران ضمن أدوات الصراع المهمة، منوهاً إلى أن العسكريين يريدونها كأجهزة تُستخدم للقمع، أما المدنيين فيرغبون فى السيطرة عليها لتجنب تجييرها لصالح العسكريين وبالتالي لحماية التحول والانتقال الديمقراطى.
تِركة بغيضة
وأوضح عبد القيوم أن التفلتات الأمنية، تقف وراءها جماعات الجريمة المنظمة المشهورة بالنيقرز، مشيراً إلى أنها نشأت في كنف أجهزة النظام المباد، وتُعد ضمن تركته البغيضة التي ورثتها الأجهزة الأمنية.موضحاً أن ذلك أحد الأسباب الأساسية التي تجعل قوى الثورة تطالب باصلاح هذه الاجهزة، وهو أمر لن يتم إن استمرت تحت سيطرة الشريك العسكرى.
من جانبه يؤكد أستاذ العلوم السياسية بجامعة بحري محمد أحمد شقيلة، في حديثه لـ(عاين):”إن أي حديث ينسب للعسكريين يشير لعدم تبعية الشرطة وجهاز المخابرات العامة للمدنيين، يعد مخالفاً للوثيقة الدستورية، مشيراً إلى أن عدم تنفيذ ما نصت عليه الوثيقة سيدخلهم في مشكلات قانونية مع المجتمع الدولي.
وقال شقيلة، إن التوترات الأمنية بأنواعها المختلفة هي محاولة من العسكريين للإبقاء على على سلطتهم عن طريق وضع الأجهزة الأمنية تحت ولايتهم، بإعتبار أن وجودهم مهم، على الرغم من أن الواقع في هذه الحالة يُشير لعكس ذلك، لأنه وبنص الوثيقة الدستورية فإن مجلس الأمن والدفاع هو المسئول من الأمن القومي “الداخلي والخارجي” وأمن الحدود، وهو ضمن مسئوليات المكون العسكري وليس من بين مسؤوليات المكون المدني.
ودعا شقيلة لضرورة أن يعمل المكون العسكري، على إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية وتصفية عناصر النظام المباد منها، الأمر الذي لم يتم حتى الآن. لافتاً إلى أن السلطة المدنية اتخذت الكثير من الإجراءات بهدف إصلاح الخدمة المدنية بموجب قانون لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو 1989 واسترداد الأموال العامة.