حدث في (النهود).. سلاح المستنفرين يرتد على الجيش
عاين- 10 نوفمبر 2024
صراع نفوذ حاد بدأ يتمظهر في محلية النهود بولاية غرب كردفان، بين الجيش والجماعات المسلحة التي تقاتل إلى جانبه والتي يعرف أفرادها بـ”المستنفرين”، وسط تعقيدات اجتماعية وأهلية، ليشكل تهديداً واسعاً للأمن والاستقرار في المدينة التي تأوي آلاف النازحين، وتمثل شريان حياة لمناطق عديدة في إقليم كردفان.
ووصل الخلاف بين الطرفين، إلى حد المواجهات المسلحة الدامية في عمق مدينة النهود لتدخل المنطقة إلى نفق التوترات، وهي سيناريوهات رجحها باحثون سودانيون في وقت سابق من اندلاع الحرب الحالية في السودان، كنتيجة حتمية لعملية التسليح العشوائية للمواطنين من جانب الجيش، وجعلهم طرفاً في الصراع.
وعاش مواطنو النهود يوم الاثنين الماضي، ساعات من الترويع نتيجة اشتباكات مسلحة بين مستنفري الجيش الذي يطلقون على أنفسهم قوات الاحتياطي، ويقودهم حمد صافي، وشرطة الجمارك، وقتل خلالها نحو 7 مسلحين من الطرفين، وجرح العشرات بعد أن استخدمت فيها الأسلحة الخفيفة والثقيلة مثل الدوشكا، وفق ما نقله شهود لـ(عاين).
وبحسب الشهود، فإن المستنفرين اقتحموا المحال التجارية في سوق النهود، ومارسوا أعمال نهب واسعة، بعدما غادرها أصحابها بسبب ما تعرضوا له من ترويع جراء الاشتباكات التي استمرت زهاء الساعتين، مما خلف حالة من الغبن واحتقان شديد في المدينة، وضعها على شفا الانفجار، وسط مساعي للتهدئة.
تشكلت قوات الاحتياطي “المستنفرين” على أساس جهوي لتكون الجناح العسكري لما يسمى بـ”اتحاد حمر صر” الذي كونه قيادات من حزب المؤتمر الوطني المحلول
وكان الاشتباك وفق روايات متطابقة، بسبب استحواذ المستنفرين على عربة لاند كروزر تتبع لشرطة الجمارك ورفضوا إعادتها، بينما تحركت قوة من شرطة الجمارك، وهاجمت المستنفرين في مقر مخصص لهم في مدينة النهود ضمن محاولة لاسترداد السيارة بالقوة الجبرية، مما أدى إلى مقتل قيادات مؤثرة وسط المستنفرين، كما قتل ضباط من الشرطة.
نفوذ يتصاعد
وتشكلت قوات الاحتياطي “المستنفرين” على أساس جهوي لتكون الجناح العسكري لما يسمى بـ”اتحاد حمر صر” الذي كونه قيادات من حزب المؤتمر الوطني المحلول، في العام 2020 أي بعد أقل من عام على إنهاء حكم الرئيس المخلوع عمر البشير، وأسندت رئاسته إلى حمد صافي حمد، أحد أبرز عناصر الحركة الإسلامية في المنطقة.
ومع اندلاع الحرب وتطاول أمدها، تصاعد نفوذ قوات الاحتياطي، وارتفع عدد جنودها الذين انتشروا في كل أرجاء وشوارع مدينة النهود والطرق السفرية المؤدية إليها، كما نشطوا في تحصيل الجبايات من المحال التجارية والمركبات السفرية، في ظل نشر السلاح وضرب النار عشوائيا في المدينة، وهو نشاط مزعج للقوات الرسمية، وفق مصدر عسكري تحدث لـ(عاين).
قوات الاحتياطي تعتقد أنها السلطة الأعلى في النهود والمتحكم في مصيرها وهي تستند إلى قوة أهلية
مصدر عسكري
ويقول المصدر العسكري الذي طلب عدم ذكر اسمه، إن قوات الاحتياطي تعتقد أنها السلطة الأعلى في النهود والمتحكم في مصيرها وهي تستند إلى قوة أهلية، وهم يتحركون بصورة منفردة بعيدا عن القوات النظامية، والتي لن تستطيع التحدث معهم أو منعهم خشية الصدام، فجنود الجيش موجدي مثل الضيوف في النهود، على حد تعبيره.
وكشف المصدر، أن المستنفرين يقومون بتحصيل جبايات غير قانونية من أصحاب المحال التجارية عبر لجنة أسموها “لجنة إسناد معركة الكرامة” ويستحوذون على كل هذه الأموال بحجة أنهم يتولون مهمة تأمين المدنية، بينما يكسرون المحل التجاري الخاص بأي تاجر يمتنع من دفع هذه الرسوم النقدية، ليلا ونهبه في أبشع صيغ الابتزاز.
تصاعد نفوذ قوات الاحتياطي يبرز من خلال تسجيل صوتي لقائدها حمد صافي تعليقاً على الاشتباكات الأخيرة مع شرطة الجمارك، والذي أكد خلاله أن جميع السيارات الحكومية في مدينة النهود اُسْتُنْفِرَت ويحق للمستنفرين استغلالها في مهامهم في الأوقات كلها، بما في ذلك عربات الأجهزة النظامية، وشركات النفط.
واعتبر أن “ما جرى مخطط له، ولم يكن دافعه إعادة سيارة استغلها المستنفرون، لكن له دافعاً آخر، ويجب على شرطة الجمارك مراجعة صفوفها؛ لأنه ربما يكون بينها مرتزقة ودعم سريع ومندسين، بغرض تعكير الصفو، لأن القتل الذي مارسه منسوبي الجمارك كان غدرا، واستخدمت فيه الدوشكا، الأمر الذي راح ضحيته خيرة قادتنا، وكذلك تعاطف معهم بقية عناصر الشرطة، في سلوك غريب”.
مدينة النهود واحدة من أربع مناطق في ولاية غرب كردفان ما يزال الجيش يحتفظ بالسيطرة عليها إلى بابنوسة وحقل هجليج النفطي ومدينة لقاوة
والنهود هي واحدة من أربع مناطق فقط في ولاية غرب كردفان، ما يزال الجيش يحتفظ بالسيطرة عليها، وإلى جانبها بابنوسة وحقل هجليج النفطي، ومدينة لقاوة، وتمثل الملاذ الأخير إلى آلاف النازحين الذين وصولها من البقاع المضطربة في الولاية وإقليم دارفور غربي السودان، ولا توجد خيارات نزوح قريبة أمام سكانها.
وتحيط قوات الدعم السريع التي تسيطر على معظم أرجاء ولاية غرب كردفان، بمدينة النهود من ثلاثة اتجاهات، إذ تتمركز في مدينة غبيش غرباً، ومنطقتي فوجا وصقع الجمل شمالاً، وبلدة دونكي الحر، جنوباً، وعلى الدوام يردد جنودها من خلال مقاطع مصورة تنشر على مواقع التواصل الاجتماعي، أنهم بصدد مهاجمة النهود وبسط السيطرة عليها.
لكن تهديدات عناصر قوات الدعم السريع المتواصلة لم تعد تشكل مصدر قلق إلى سكان النهود، بقدر خشيتهم من انفجار الأوضاع من الداخل بصدام القوات الرسمية مع المستنفرين، كما يثير الانتشار الكثيف للسلاح وتجاوزات قوة الاحتياطي الرعب الأكبر لدى الأهالي، وذلك وفق ما ذكره مصلح حمد وهو ناشط في العمل الطوعي المنطقة.
ويقول حمد في حديثه لـ(عاين): إن “المستنفرين يضربون الرصاص بشكل عشوائي في مدينة النهود، ويعتدون على المواطنين وحركتهم داخل المدينة، وعندما اشتبكوا مع شرطة الجمارك توجهوا لنهب المحال التجارية في سلوك مرعب، ويخشى السكان من تكراره ودخول المنطقة في حالة فوضى شاملة في ظل انتشار السلاح”.
وشدد أن الاشتباكات بين شرطة الجمارك والمستنفرين خلفت احتقاناً كبيراً وتوترات كبيرة على أساس أهلي، وهو مؤشر خطير ينذر بتكرار هذه الحوادث، والتي ستضع مئات الآلاف من المواطنين بما في ذلك النازحين أمام كارثة إنسانية، فليس لهم طريق للفرار في ظل اضطراب كامل للمناطق من حولهم.
وأبلغ مصدر محلي (عاين) أن أمير إمارة دار حمر عبد القادر منعم منصور استدعى جميع الشراتي والمشايخ (رجال الإدارة الأهلية) في النهود إلى ملتقى عاجل مقرر انطلاقته أمس السبت، لبحث التوترات بين القوات النظامية وقوة الاحتياطي، وفوضى المستنفرين ضمن محاولة لمنع انزلاق المنطقة نحو العنف.
تصدع حتمي
وقبل أيام من هذه الاشتباكات هرب قائد قوات الاحتياطي حمد صافي من مدينة النهود، ووصل إلى أسرته الصغيرة التي تقيم في دولة ليبيا منذ اندلاع الحرب بحسب مصادر تحدثت مع (عاين)، وقال صافي نفسه في مقطع صوتي إنه “خارج حدود البلاد في مهمة رسمية يعلمها الجميع”، في حين أن الرجل لا يحمل أي صفة رسمية في الدولة، أو يتقلد منصبا حكوميا، ويرجح خروجه نتيجة خوفه من انفجار الأوضاع، لا سيما وأن موجة من الغضب الأهلي تجاهه.
يتهم الأهالي في النهود حمد صافي، بتجنيد أبنائهم والزج بهم في صراع لا يعنيهم، والتسبب في موتهم بشكل مجاني خلال معارك دارت مع قوات الدعم السريع
ويتهم الأهالي في النهود حمد صافي، بتجنيد أبنائهم والزج بهم في صراع لا يعنيهم، والتسبب في موتهم بشكل مجاني خلال معارك دارت مع قوات الدعم السريع في غبيش، والخوي، والدودية، وود بندة وغيرها.
ويرى الناشط السياسي في ولاية غرب كردفان عماد صالح في حديث لـ(عاين) أن ما جرى في مدينة النهود تصدع حتمي لأجسام مسلحة غريبة على بعضها، ولا يوجد تناسق فيما بينها، فهم شلة من الأرزقية جمعتهم المصالح المالية، وبدأت مرحلة اقتسام ما استحوذا عليه، لكن من الواضح أن المنهوبات كانت ضئيلة، ولا تكفي سواء إلى أحدهما، فجاء الصدام بغرض بسط النفوذ.
ويتوقع صالح مزيداً من المواجهات خلال الفترة المقبلة بين الطرفين، فهذه هي المرة الثالثة التي تهاجم فيها القوات النظامية المستنفرين وقتل أفراد منهم، فطالما هناك موت لن يتوقف هذا المسلسل في ظل تعقيدات اجتماعية واسعة، وتفشي ثقافة الثأر في المنطقة، الأمر الذي يجعل مدينة النهود تحت تهديد كبير من الداخل.
مدينة النهود باتت على شفا كارثة أمنية مع تصاعد نفوذ المستنفرين
محلل سياسي
وليس ببعيد من ذلك، يقول المحلل السياسي صلاح حسن جمعة إن النهود باتت على شفا كارثة أمنية، مع تصاعد نفوذ المستنفرين وسعيهم لأن تكون كلمتهم هي العليا، ويتحكمون في شؤون المنطقة بشكل كامل، مع انتشار السلاح وما يترتب عليه من سيولة أمنية، تصبح الأوضاع غاية في الخطورة.
ويشير جمعة في مقابلة مع (عاين) إلى أن نظام الحركة الإسلامية استنفر المواطنين، وسلحهم بشكل عشوائي للقتال مع الجيش، رغم التحذيرات المسبقة من خطورة هذه العملية، فستكون العواقب وخيمة على القوات النظامية نفسها قبل مواطني مدينة النهود الذين سيدفعون استقرارهم وممتلكاتهم ثمناً لجريمة ارتكبها فلول النظام السابق.
تصعيد متوقع
وشدد صلاح جمعة أن تجرؤا أحد المستنفرين والاستحواذ على عربة تتبع إلى مؤسسة حكومية “شرطة الجمارك” عنوة، وتسبب في هذه المواجهات الدامية، يعكس مستوى الطموح الذي وصل إليه هؤلاء المستنفرون، مما سيقود إلى مزيد من الدماء.
وفي السياق نفسه، يقول أستاذ العلوم السياسية في الجامعات السودانية، البروفيسور صلاح الدومة في مقابلة مع (عاين) إنه منذ بدء فكرة الاستنفار الشعبي لصالح الجيش جرت العديد من التجاوزات والانفلات، وإن ما طفح يمثل نذراً يسير للغاية لما هو قادم.
وشدد الدومة أن “كل العلماء والفلاسفة والمفكرين ومنظري السياسة والعسكرية والعلاقة بينهما، أجمعوا على ضرورة احتكار الدولة للقوى القهرية، وليس لأي جهة شعبية أو غيرها الحق في امتلاك هذه القوة، وتم حصر ذلك في القوات النظامية التي تصر وتركز على توحيد مصدر الأوامر، وذلك تفادياً للفوضى الأمنية”.