المسيحيون في السودان … نهب وقتل تقوده الدولة
تقرير عاين : 24ديسمبر 2018
لم تقف حالات اضطهاد وقمع المسيحيين في السودان على حالات استثنائية أو عابره، انما أخذت طابعا ممنهجا لا سيما منذ بدء تطبيق الشريعة الاسلامية في السودان في العام 1983 من قبل نظام الديكتاتور الأسبق جعفر نميري مدعوما بحزب الجب الإسلامية القومية بقيادة الراحل حسن الترابي. وارتفعت وتيرة الاستهداف منذ قدوم نظام الإنقاذ للسلطة في العام 1989، لتنخفض نسبيا بعد توقيع اتفاقية السلام الشامل وإقرار الدستور الانتقالي لعام 2005. لكن الهجمة المنظمة ضد المسيحيين في البلاد عادت بصورة أكثر شراسة عقب انفصال جنوب السودان، لاسيما عقب الضوء الاخضر الذي أعطته تصريحات الرئيس البشير الشهيرة في ولاية القضارف التي قطع فيها أن السودان بات دولة اسلامية-عربية خالصة عقب انفصال جنوب السودان، موجها كافة مؤسسات الدولة بتبني دستور إسلامي وإسقاط كافة المواد الدستورية التي تكفل حقوق المسيحيين، الأمر الذي أطلق العنان لكافة مؤسسات الدولة لقمع المسيحيين في حملة غير مسبوقة بدأت منذ العام 2011.
وبتلك الصورة الممنهجة بدأت عمليات هدم الكنائس واصدار قرارات بازالتها ومنع بناء كنائس جديدة بحجة تناقص عدد المسيحيين عقب الانفصال، اضافة الى مصادرة أراضي وممتلكات المجمعات الكنسية في كافة أرجاء البلاد ، ومنع المسيحيين من ممارسة شعائرهم وتخويفهم عن طريق المحاكم والقبض على القساوسة دون مسوغات قانونية واضحة وتسليط حد الردة ومنع حرية المعتقد إلى غيرها من الممارسات القمعية بحق مسيحيي السودان الذين ينحدر معظمهم من منطقة جبال النوبة اضافة للمواطنين الاقباط وغيرهم من المسيحيين في البلاد.
وفي هذا التحقيق الاستقصائي لشبكة (عاين) نكشف عن ممارسات ممنهجة بصورة أكثر عدوانية وتحايل متعمد من قبل السلطات الرسمية ضد المسيحيين. ولا تقف حدود تلك الانتهاكات في تغييب التعليم المسيحي من المقررات الدراسية وعدم الاعتراف به بل والغاءه في بعض الأحيان وإجبار التلاميذ على اعتناق الإسلام من أجل الحصول على مقاعد دراسة جامعية، بل تمتد الى الارهاب والتخويف والاعتقال والقتل.
ووثق تحقيق عاين بيع المؤسسات الكنسية إلى مستثمرين سودانيين مقربين من النظام الحاكم اضافة لشق بذور الفتنة والفساد وسط قيادات الكنائس من أجل تسهيل اختراقها والقضاء عليهم. وكشف تحقيق (عاين) عن وجه اخر من عذابات المؤمنون المسيحيون في السودان تتعلق باختراق النظام للمنظومة الكنسية وموالاة جزء منها للنظام في ظل فساد واسع أدى إلى تضييع الكثير من حقوق الكنيسة نفسها تمهيدا لبيع الاراضي والممتلكات.
غدر
لا شك ان نهار الإثنين الثالث من شهر إبريل في العام 2017 كان يوما حزينا وفارقا لن ينسي طوال تاريخ المدرسة الانجيلية الممتد منذ العام 1924 والتي تعد إحدى الممتلكات التاريخية للكنيسة الانجيلية في السودان. وسط فناء المدرسة العتيقة التي تخرج منها العديد من مثقفي مدينة أمدرمان وقف الشيخ يونان كامبو يتحدي بصوت جهور قوات الشرطة والأمن التي طوقت المكان بسياراتها وعشرات الجنود … لم يتوقف العم يونان عن تلاوة الترانيم يردد وراءه جمهور من المصلين المحتشدين في المكان مبتهلين للرب ان يحمي مدرستهم من مكائد السلطة وطمع المستثمرين وبطش الشرطة وانقسامات أبناء الكنيسة على أنفسهم بايعاز من السلطات. كان يونان قائدا وسيما وشجاعا لاعتصام المسيحيين من أبناء الطائفة الانجيلية، ورغم سنوات عمره الممتدة، تجمع حوله الحادبون على مصير المدرسة القديمة عقب أن تسلمت ادارتها خطابا ممهورا من السلطات بضرورة تسليم مقرها لمستثمر بعدما أبرم عقداً مع اللجنة المؤقتة لإدارة الكنيسة الإنجيلية التي عينتها وزارة الإرشاد السودانية.
وتكشف مصادر من الكنيسة الانجيلية ل (عاين) عن وجود اعتراضات قانونية وإجرائية عديدة صاحبت تشكيل اللجنة المؤقتة الموالية لوزارة الارشاد حيث تولت تلك اللجنة المؤقتة إبرام تعاقدات مع أحد المستثمرين في عدد من ممتلكات الكنيسة الإنجيلية في العاصمة والولايات.
لكن الشرطة لم تنتظر كثيرا رغم أصوات الدعوات والترانيم القادمة من فناء المدرسة، إذ هجمت الشرطة ومن وراءها المستثمرون ورجال الكنيسة الموالون لوزارة الإرشاد على فناء المدرسة عند الساعة الرابعة عصرا، فيما تولى يونان والمصلون الدفاع عن المدرسة مستخدمين الحجارة والكر والفر والاحتماء بجدران المدرسة وممراتها … قاد يونان الأطفال والنساء في معركة غير متكافئة ضد المستثمرين المدججين بسلاح الشرطة. وفي الأثناء وجه شخص يدعى (شمسون) وهو مناصر للمجموعة الموالية لوزارة الإرشاد طعنة في الفخذ ليونان صادفت شريان رئيسي مما ترتب عليه نزيف حاد فارق على إثره يونان الحياة متأثراً بجراحه، في ما تم اعتقال 16 شخصاً من الموجودين.
قتل عمد وتحريض
لكن الأب يحيى عبدالرحيم يصف حادثة مقتل الشيخ “يونان” بالمدبرة من جهات لم يسمها، متهما تلك الجهات بالتحريض على قاتل “شمسون” والتخلص من الأشخاص الذين يقاومون بيع الكنائس متمثلا في شخص “يونان”. ويؤكد الاب عبدالرحيم في حديثه ل (عاين) انهم يمتلكون معلومات تكشف عن قيام مجموعة معينة بتحريض شمسون بغرض التخلص من يونان بقولهم له “أقتله وسندفع لك الدية” مشيراً في ذات الوقت لقيام الكنيسة برعاية أبناء شمسون حالياً في أعقاب إلقاء القبض عليه بسبب قتله “يونان”.
واعتبر عبدالرحيم ان ما حدث في فناء المدرسة الإنجيلية بأمدرمان جزء من استهداف المسيحيين في السودان منذ انفصال جنوب السودان. مضيفا” هناك خطة محكمة لمحو المسيحية من السودان والقتل سيستمر ولكن شعب الكنيسة سيقاوم”.
ويرى الكثيرين من أتباع الكنيسة الإنجيلية ان العم “يونان” قدم روحه قربانا لحماية المدرسة التاريخية اذ قاد مقتله إلى تسليط أضواء الإعلام الدولي على قضية مصادرة ممتلكات الكنيسة الأمر الذي أفضى في نهاية المطاف إلى إيقاف خطة انتزاع المدرسة لصالح المستثمرين ونكران الحكومة السودانية تورطها في حادثة القتل.
تقسيم المسيحيين
امتدادا لحالة الاستهداف التي أشار إليها القس يحي عبدالرحيم، استغلت وزارة الارشاد الخلافات الناشبة بين بعض الأطراف الكنيسة وقامت بتدخل سافر قضي بإيقاف جميع الهيئات المنتخبة من قبل أتباع الكنيسة، وعينت لجنة ادارية مؤقتة موالية لوزارة الارشاد، الامر الذي فاقم من الخلافات وزاد من تفتيت وحدة أتباع الكنيسة الإنجيلية الى ان وصل الامر الى حد الصراع والاقتتال.
وبدأت فصول الصراع الداخلي في الظهور في أعقاب انفصال جنوب السودان الأمر الذي إستدعى إعادة هيكلة الكنيسة ومؤسساتها نظراً لفقدان بعض خدامها المنتمين لجنوب السودان لجنسيتهم السودانية وهو ما أسقط عنهم عضوية مجلس الطائفة الإنجيلية ولجنتها التنفيذية وفقاً لما ينص عليه قانون مجلس الطائفة لسنة 1995م بجانب القرارات الصادرة عن مجلس الوزراء في يونيو 2011م الذي يلزم جميع المؤسسات العامة والتي تعتبر الكنيسة من ضمنها بتوفيق أوضاعها واستبعاد مواطني جنوب السودان منها.
توافقت جميع أطراف الكنيسة على إقامة الجمعيات العمومية في أبريل 2012م والتي أقيمت بمشاركة ورضى جميع الأطراف وبحضور مندوبي إدارة شؤون الكنائس الذين اقتصر دورهم على الإشراف فقط وتم تكوين وانتخاب جميع اللجان التنفيذية بقيادة القس يحيى عبد الرحيم و مجمع مشيخة السودان الإنجيلي بقيادة القس/ داؤود فضل ومجلس الطائفة بقيادة المهندس/ رافت سمير مسعد.
هذا التكوين لم يرض البعض داخل الأوساط الكنسية نفسها الذين توجهوا لوزارة الإرشاد والأوقاف – وهي الوزارة المعنية بتنظيم أنشطة المجموعات الدينية المختلفة وأملاكها في السودان- التي أصدرت بدورها قرارا إداريا في 28 أبريل 2013م بتكوين لجنة وساطة لطي الخلافات بين الطرفين بمهام محددة.
إلا أن رئيس تلك اللجنة أدلى بحديث مستفز في أحد الإجتماعات أشار فيه لوضع لجنة الوساطة يدها على جميع أملاك الكنيسة الإنجيلية بسبب عدم تمكن الطرفين من تجاوز خلافاتهما، وهو ما تسبب في فض إجتماعات اللجنة ومقاطعتها من قبل اللجنة المنتخبة شرعيا. واستمر رئيس لجنة الوساطة المعينة من قبل الوزارة في تنفيذ المخطط مصدرا قرارا – دون علم الكنيسة واللجنة الشرعية- قضى بحل جميع الهيئات المنتخبة في كل أنحاء البلاد، وتلاه بتعيين لجنة مؤقتة لإدارة الكنيسة الإنجيلية. واستكمالا لفصول ذلك التدخل من قبل وزارة الإرشاد أصدرت الوزارة خطاباً لمدير الشرطة بولاية الخرطوم بمعاونة اللجنة المؤقتة قضي بإستلام المكاتب حيث تم ذلك بكسر أقفال الأبواب، دون وجود حكم قضائي، وفقا لمصادر كنسية متطابقة.
بيع الكنائس للمستثمرين
وكنتيجة عملية لنجاح المخطط بحل اللجنة المنتخبة والسيطرة على ممتلكات الكنيسة ،بدأت وزارة الإرشاد واللجنة الموالية لها في بيع ممتلكات الكنيسة وابرام اتفاقيات مع المستثمرين، بل وحاولت الاستيلاء على الممتلكات بقوة الدولة. وفي هذا السياق يقول القس يحيى عبدالرحيم أن وزارة الإرشاد واللجنة المعينة استغلوا تلك الأوضاع وقاموا ببدء تنفيذ مخططهم في بيع الكنائس للمستثمرين رغم وجود العديد من القضايا أمام المحاكم في ظل تجاوزات عديدة من قبل اللجنة المؤقتة- المعينة من قبل الوزارة- ورفض مستمر من قبل اللجنة “المنتخبة”. ويشدد عبدالرحيم أن وزارة الإرشاد صممت على التعامل مع اللجنة المؤقتة رغم صدور قرار من المحكمة الإدارية بعدم شرعيتها في مارس 2014.
ويمضي القس عبدالرحيم في حديثه لـ (عاين) مبينا ان “وزارة الإرشاد ضربت عرض الحائط بقرار المحكمة، إذ قام أعضاء اللجنة الثلاثية باقتحام مقر الكنيسة الإنجيلية ببحري مدعومين بقوة كبيرة من الشرطة بغرض تسليمها للمستثمر “هشام حمد النيل” الذي قام بإبرام تعاقد مع اللجنة المؤقتة في ظروف مشبوهة بالنسبة للجنة المنتخبة”
صفقات مشبوه
وواصلت اللجنة المؤقتة – حسب القس عبدالرحيم- في مخططها المشترك مع وزارة الإرشاد في الاستيلاء على منشآت الكنيسة الإنجيلية واحدة تلو الأخرى، إذ تم توقيع عدد من العقود لبيع وايجار منشآت الكنيسة في بحري وامدرمان ومدينة ودمدني مع عدد من المستثمرين. ويقول عبدالرحيم أن اللجنة المؤقتة قامت في يوليو 2013م بتوقيع عدة عقود تخص منشآت الكنيسة الإنجيلية ببحري مع عدد من المستثمرين وهم هشام حمد النيل وزكريا محمد عبد الله بجانب مستثمرين اخرين هما خالد ونجيب بغرض إنشاء محلات تجارية في تلك المساحات المستغلة. ونتج عن إبرام تلك العقود هدم الجهة الغربية للمعبد نهائياً وقفل الكنيسة من الجهتين الجنوبية والشمالية وشمولها حتى للمساحة الخاصة ببيت الراعى.
ويروي عبد الرحيم في حديث لـ (عاين) ان المستثمر هشام حمد النيل حصل على ثلاث عقود مع اللجنة بغرض استثمار جزء من أراضي ثلاثة مدارس تتبع للكنيسة الإنجيلية في كل من بحري وأم درمان ومدني، وبدأ خطوات تنفيذ تلك العقود بمدرسة بحري حيث تمت مقاومة الأمر لكن في نهاية الأمر تم طرد مديرة المدرسة بعد تدخل الأجهزة الأمنية وسُلمت المدرسة للمستثمر بواسطة اللجنة المعينة من قبل وزارة الإرشاد. ويواصل مضيفا:”انتقلت بعدها اللجنة المؤقتة والمستثمر لمدينة ود مدني-عاصمة ولاية الجزيرة- بغرض السيطرة على مدرستها، إلا أن المحكمة رفضت تسليمها لهم، فقرروا الإستيلاء على مدرسة امدرمان، الأمر الذي نتج عنه المواجهات التي قادت إلى مقتل العم يونان كامبو”.
ويشكك القس عبدالرحيم في طبيعة العقود الموقعة بين اللجنة المؤقتة والمستثمرين، مبينا:”بالنسبة لنا فإن طبيعة هذه الاستثمار المبرم في تلك العقود الخاص بأجزاء من أراضي مدارسنا الثلاثة في كل من بحري وأم درمان ومدني مجهول … ولذلك حينما جاء الدور على مدرسة أمدرمان قاومنا واعتصمنا”، وأضاف:” بالنسبة لي فإن المجموعة المعينة من قبل وزارة الإرشاد تقع ضمن المخطط الخاص لإختراق الكنيسة بغرض الإستيلاء على أملاكها”.
اللجوء للهدم
تزامنا مع الأحداث الخاصة بمحاولة النزع والسيطرة على مدرستي مدني وامدرمان التابعتين للكنيسة الإنجيلية، وقعت محاولات مشابهة للسيطرة على كنائس أخري في مناطق مختلفة في العاصمة الخرطوم، الأمر الذي قاد لاعتقاد جازم وسط المواطنين المسيحيين بأن الأمر يعد استهدافا ممنهجا لكافة الكنائس الموجودة بالبلاد.
فبعد شهر من أحداث مدرسة أمدرمان الإنجيلية وتحديداً في السابع من مايو 2017 قام مندوبون عن وزارة التخطيط بولاية الخرطوم برفقة قوة كبيرة من الشرطة ومنسوبي جهاز الأمن والمخابرات بتهديم كنيسة المسيح في سوبا بمنطقة شرق النيل بالخرطوم التي تم بناؤها منذ العام 1989م، وحينما حضر أتباع الكنيسة بالمنطقة والذين يقدر عددهم بحوالي 600 شخص لأداء الصلاة فيها وجدوها قد سويت بالأرض، ورغم ذلك فقد أصروا على أداء الصلاة وسط أنقاضها المحطمة.
ويقول أحد المصلين ويدعى إدريس مختار وهو في العقد الرابع من عمره بأنهم حينما حضروا للصلاة صدموا بتهديم كنيستهم، ونظراً لعدم وجود مكان أخر فإنهم يؤدون صلواتهم في العراء. أما صموئيل عبد المسيح الذي ابدى استغرابه من سبب إصرار الحكومة على هدم كنائسهم، قائلا:”ربما يظنون أن البلاد لم يعد فيها مسيحيين بعد إنفصال جنوب السودان في يوليو 2011م .. لكن عليهم أن يعلموا أننا موجودين و كغيرنا من المواطنين السودانيين يحق لنا ممارسة شعائرنا الدينية”.
إزالة جماعية
وتبرر الحجج الرسمية حملة إزالة الكنائس انها شيدت بشكل عشوائي في أطراف العاصمة السودانية الخرطوم حيث يستقر عدد كبير من المسيحيين النازحين من الحرب الأهلية من مناطق جنوب السودان وجبال النوبة والنيل الأزرق.ورغم تشييد تلك الكنائس بشكل بدائي إلا أنها استمرت في القيام بواجباتها الدينية، إلا أن خطر الإزالات بات يتنامى بشكل متزايد منذ اعلان استقلال جنوب السودان في العام 2011.
ويقول محامي كنيسة المسيح السودانية ديماس جيمس إن الكنيسة تسلمت انذارا بازالة كنيستين تتبعان للطائفة في منطقة شرق النيل في العام 2016م، مشيراً إلى تقدمهم بتظلم لمدير عام مصلحة الأراضي بولاية الخرطوم لهذا القرار الذي حمل الرقم 214 وطالبوا مدهم بصورة من القرار وأسبابه والمطالبة بإيقافها وتم رفض التظلم وجميع المطالب المرفقة معه، مبيناً أنهم تقدموا بعدها بطعن للمحكمة الإدارية ومن ثم للمحكمة العليا باعتباره مخالف للمادة 6 من دستور البلاد الذي يمنح الجامع والكنيسة الحق في حيازة الأراضي وفقاً للقانون لكن المحكمتين رفضتا الاستجابة لطلب وقف الإزالة.
ويكشف جيمس ان القرار 214 الذي أصدره معتمد شرق النيل يتضمن 25 كنيسة في كل من بحري وشرق النيل التابعتين لولاية الخرطوم، مضيفا ” أن ما زاد دهشتنا أن القرار الذي تحصلنا على صورة منه يسمى (إزالة الكنائس في منطقة بحري وشرق النيل) بشكل صريح !!”. وتظهر إحصائيات اعدتها جهات كنسية بمنطقة سوبا أن عدد الكنائس بمنطقة سوبا في العام 2011م بلغ 13 كنيسة أما اليوم فقد اقتصرت على كنيسة واحدة وتم مسح جميع الكنائس الأخرى ولم يتبق منها سوى كنيسة المسيح بسوبا كأخر الكنائس الموجودة بالمنطقة.
ويشير جيمس إلي أن الحجة الرسمية بعشوائية بناء الكنائس وتعديها على بعض الميادين العامة التي اعتمد عليها القرار 214 أمر مردود، إذ يجب ان يتم معالجة ذلك قانونا باعتبارها أراض حيازة كما يحدث للمساجد وبذلك يتم تخطيطها وليس إزالتها.
ويضيف جيمس أن بعض الكنائس التي أمرت السلطات بإزالتها مخططة وتم تصديقها بشهادات ملكية رسمية (شهادات بحث) مثل كنيسة جبل أولياء التي تمت إزالتها رغم كونها مخططة. وكشف جيمس في حديث لـ (عاين) عن قيام قوة من جهاز الأمن والمخابرات في مارس 2016م بمصادرة حقيبة تحتوي على مستندات 15 قطعة تخص الطائفة اشترتها بمالها الخاص، واصفاً تلك المصادرة بـ”التعسفية” وتمت دون إجراءات قانونية أو أوامر قضائية.
خطة المحو
وكان مجلس الكنائس السوداني كشف عن قرار أصدرته السلطات بولاية الخرطوم يؤكد اعتزامها ازالة 27 كنيسة بالعاصمة السودان . لا سيما أن السودان يحتل المركز الثامن في قائمة أكثر الدول اضطهادا للمسيحيين في العالم للعام 2016 في التصنيف الذي أصدره المركز الدولي لحرية الأديان فيما صنفته منظمة الأبواب المفتوحة التي تعني بذات الأمر في المرتبة الخامسة في قائمة الدول التي تضطهد المسيحيين.
وقامت السلطات السودانية بالتعدي على عدد كبير من ممتلكات الكنائس اضافة لممارسات قمعية كثيرة ضدهم خلال السنوات الماضية منها مصادرة ممتلكاتهم ، وسجن قادة الكنيسة، و إجبارهم على الفرار، ومصادرة وتدمير ممتلكات الكنائس.
وألغت وزارة التربية بولاية الخرطوم أجازة يوم الأحد بالنسبة للمدارس الكنسية و أرغمتها على الإجازة الأسبوعية يومي الجمعة والسبت.
وتضع الولايات المتحدة الامريكية السودان ضمن الدول التي تضطهد المسيحيين، وتضع إدارة الرئيس دونالد ترامب ضمان الحريات الدينية في السودان ضمن شروطها لتطبيع العلاقات مع الخرطوم، ورفع اسم السودان من لائحة الدول الراعية للإرهاب.
وكشفت تقارير عن تنظيم الاجهزة الامنية حملة منظمة لنهب ممتلكات المسيحيين في الخرطوم وعدد من الولايات. وتقول التقارير إن المسيحيين تعرضوا لأشكال مختلفة من الترهيب من أجل مغادرة البلاد مثل الفتاوى بإحراق الكنائس ومعارض الكتاب المسيحي وغيرها من الفعاليات،التي تلقي رسائل تهديد بالقتل كما تجدر الاشارة إلى تعرض اثنين من القساوسة للاختطاف في ولاية النيل الأبيض قبل عدة سنوات.وتقدّر احصائيات غير رسمية عدد المسيحيين في السودان بعد انفصال الجنوب بنحو 1.4 مليون نسمة، أي ما يعادل 1.5 في المائة من عدد سكان السودان .
ومن جانبه يؤكد القس يحي عبدالرحيم وجود خطة حكومية محكمة بغرض تجريف السودان من المعالم الكنسية. “نحن نعيش في ظل ظروف إستثنائية ولكن سنستمر وسنعيش في ظل هذه الظروف ولن نخرج من بلادنا وسنستمر في المقاومة بالقانون وكانت مصادر كشفت عن معلومات بتشكيل الحركة الإسلامية -التي ينتمي إليها جزء كبير من عضوية الحزب الحاكم والنافذين في البلاد- لجنة خاصة تضم ممثلين عن مصلحة الأراضي والشرطة وجهاز الأمن والمخابرات واللجان الشعبية بالأحياء بغرض حصر الكنائس في ولاية الخرطوم وتصنيفها.
لكن عضو الحركة الاسلامية محمود عبد الجليل نفي ل (عاين) صحة تلك المعلومات مؤكدا ان الحركة الاسلامية تحترم كافة المعتقدات والاديان بالسودان، مشيرا الي عدم وجود مثل تلك الخطط .
أسلمة قسرية
معاناة المسيحيين في السودان لم تتوقف عند حدود التحريض علي القتل والقمع والاعتقال والتهديد والابتزاز ثم استهداف الكنائس بالمصادرة والاغلاق والبيع، بل وصلت لدرجة التأثير المتعمد من أجل أسلمة المناهج والتأثير علي معتقدات المسيحيين بل واجبار بعض تلاميذ المدارس علي اعتناق الاسلام عنوة من أجل السماح لهم بالجلوس والنجاح في امتحانات الشهادة الثانوية وبالتالي إيجاد الفرصة لدخول الجامعات واستكمال التعليم.
علي سبيل المثال، أضطر التلميذ “أيوب” يقطن مدينة الدامر بولاية نهر النيل للجلوس لامتحان التربية الاسلامية ضمن امتحانات الشهادة السودانية المؤهلة لدخول الجامعة رغم كونه مسيحيا نظرا لعدم اهتمام الوزارة بتخصيص حصص للتربية المسيحية أو توفير معلمين لتدريسها بالولاية. ويؤكد “ايوب” في حديثه ل (عاين) عبر الهاتف من الدامر أنه اضطر للجلوس لامتحان التربية الاسلامية التي تعد شرطا أساسيا لنيل الشهادة السودانية والتأهل للجامعة. ويؤكد أيوب أنه اضطر لذلك حتي لا يحرم من الدراسة الجامعية، مشيراً لنجاحه في امتحان التربية الإسلامية في نهاية المطاف واحرازه نسبة 70%.
أما والده فقال ل(عاين ) انه سمح لابنه بالجلوس لامتحان التربية الاسلامية مكرها عقب مشورته لرجال الكنيسة الذين وافقوا بذلك تحت الاضطرار. ” قمت بمشورة رجال دين مسيحيين قبل السماح لأبني بدراسة التربية الإسلامية وحفظ القرآن بغرض نيله الشهادة السودانية وفتح الباب أمامه لدخول الجامعة، ووافقت على الامر بعد ان وافق رجال الدين المسيحي على الخطوة”.
وطبقاً للنظام الأكاديمي السوداني فإن الحصول على الشهادة الثانوية التي تؤهل الطالب للالتحاق بالجامعة تلزمه بالنجاح في مادة التربية الإسلامية أو التربية المسيحية وتعتبر أي من هاتين المادتين أساسية للقبول للإلتحاق بأي جامعة من الجامعات ويعتبر الراسب فيها غير مستحق للحصول على الشهادة الثانوية.
ولكن حالة التلميذ “أيوب” لم تكن استثناء في مدينة الدامر إذ اضطر – حسب احصائية غير رسمية تحصلت عليها (عاين) – حوالي 40 آخرين من الطلاب المسيحيين في العام 2015م لدراسة التربية الإسلامية بمدينة الدامر نسبة لعدم وجود معلمين أو حصص للتربية المسيحية، وتكرر هذا الأمر في ولايات اخرى خاصة التي توجد فيها نسبة قليلة من المسيحيين مثل ولايات دارفور بغرب السودان.
وفي السياق نفسه يؤكد الخبير التربوي بكلية النيل اللاهوتية صمويل يوحنا أن إنعدام أساتذة التربية المسيحية وعدم وجود حصص ترتب عليه قيام حوالي 1000 طالب مسيحي بمناطق كمة والقولد وحلفا بالولايات الشمالية لدراسة التربية الإسلامية بدلاً عن التربية المسيحية.
تمييز ممنهج
وكانت التعديلات التي أجريت قسرا على المناهج التعليمية في البلاد، إحدى أهم أدوات القهر التي استخدمتها حكومة الإنقاذ منذ قدومها إلى السلطة بمشروعها الاسلامي الذي حاولت فرضه علي كافة المواطنين الذين يعتنقون ديانات مختلفة، لا سيما المسيحيين. وتم في هذا الإطار تغيير كل من السلم والمناهج التعليمية ضمن سياسات الأسلمة التي أتبعتها الحكومة السودانية حيث ترصد دراسات الكثير من أوجه التمييز ضد الدين المسيحي ومقرر تدريس المسيحية بل ومحاولة حذف حقيقة وجود الحضارة والدول المسيحية في تاريخ السودان القديم. اذ تم حذف أجزاء من المقرر السابق لتغيير المقررات على يد حكومة الإنقاذ كانت تشير إلى تاريخ دخول المسيحية للسودان ونشوء وتكوين الممالك المسيحية السودانية التي استمر حكم بعضها حتى تأسيس الدولة السنارية التي يطلق عليها السلطنة الزرقاء في العام 1504 م.
وتورد دراسة أعدها الباحث التجاني الحاج بعنوان “مداخل لفهم العنصرية في المناهج التعليمية بالسودان “العديد من أوجه التمييز الديني الممنهج ضد المسيحية في المقررات الدراسية للمواد الدراسية المختلفة.وفي هذا الإطار يقول الأب فيلو ثاوس فرج في حديث لـ (عاين) ان الطلاب المسيحيين مظلومون في المناهج التعليمية والمقررات الدراسية في السودان. متسائلا ” لماذا في كل كتب المطالعة واللغة العربية لا نجد اي استشهاد بآيات من الكتاب المقدس في حين أن المنهج ممتلئ بالايات القرانية وفي اخر الامر تدرس هذه الكتب للطلاب المسلمين والمسيحيين على حد سواء”.
من جهته يشير الخبير التربوي بكلية النيل اللاهوتية صمويل يوحنا لوجود تأثيرات جانبية على الطلاب المسيحيين بسبب دراستهم للمنهج التعليمي الحالي الذي امتدت الأسلمة فيه حتى للكتب العلمية، الأمر الذي جعل الطالب (مشوش للغاية) طبقاً لقوله، وضرب مثلاً بأحد التجارب التي مرت عليه حينما كان يقوم بالتصحيح في إحدى أوراق الإمتحانات وكان على الطالب أن يجيب على الفراغ في آخر السؤال الذي يقول (ذهب يونان من نينوي إلى….) حيث جاءت إجابة ذلك الطالب بأنه (ذهب إلي المدينة المنورة) والتي تعتبر مدينة مقدسة لدى المسلمين، معتبراً في حديثه لـ (عاين) “أن ذلك نتيجة لسيطرة الفكر الإسلامي على المناهج الأمر الذي أحدث تشويشاً أو حتى إنتقال لمئات من الطلاب المسيحيين للإسلام”.
تغييب المقرر المسيحي
وتؤكد مصادر متطابقة تعمد وزارة التربية والتعليم تغييب مقرر التربية المسيحية من المدارس بصورة متعمدة بالتزامن مع الحملة الشرسة التي شنتها السلطات على الكنائس والمواطنين والمنشآت الكنسية في البلاد. وتقول المصادر أن الوزارة استخدمت أساليب مختلفة لتحقيق إقصاء التربية المسيحية من المدارس مثل إلغاء الحصص ومنع تدريس التربية المسيحية وعدم توفير الاساتذة لتدريس المادة وغيرها من الأساليب المقصودة لتغييب المقرر المسيحي.
ويكشف الاستاذ كوكو مختار عن غياب تدريس مادة التربية المسيحية في كافة المدارس الحكومية في العاصمة الخرطوم، مشيرا إلى رفض بعض المدارس بمحلية أمدرمان تدريس مادة المسيحية رغم موافقة مكتب التعليم بأمدرمان السماح بتدريسها. ويقول مختار ل (عاين) رغم حصولنا على موافقة مدير مكتب التعليم بأمدرمان على فتح فصول لتدريس المسيحية في بعض المدارس الحكومية بالمحلية إلا أن مديري مدرستي وادي سيدنا والثورة الحارة 22 رفضا السماح بتدريس المادة. ويضيف:”دعنى أقول لك بأنه في كل المدارس الحكومية في الخرطوم لا تقوم أي مدارس حكومية بتدريس حصة مدرسية للتربية المسيحية وهذا لا يحدث إلا في المدارس الخاصة”.
أما في مدينة الدمازين عاصمة ولاية النيل الأزرق التي اندلعت فيها الحرب مجدداً في سبتمبر 2011م فقد قامت السلطات الحكومية بالولاية بإغلاق مكتب المدرسين المسيحيين بمكاتب التعليم بالولاية فور إندلاع الحرب ورفضت السماح للمتطوعين بتعليم التربية المسيحية للطلاب بتدريسها، حسب مصدر تحدث لـ (عاين) طالبا حجب اسمه لاسباب أمنية.
وسألنا مدير مدرسة دار السلام محمود عبد اللطيف عن سبب غياب حصة للتربية المسيحيين بالنسبة للطلاب المسيحيين في المدارس فعزا الأمر لعدم قيام وزارة التربية والتعليم بعد إنفصال جنوب السودان بتعين استاذة لتدريسها باعتبار ان اغلب الطلاب المسيحيين كانوا جنوبيين. وحينما أشرنا لوجود طلاب مسيحيين من مناطق أخرى بالسودان كالأقباط وجبال النوبة والنيل الأزرق رد علينا قائلاً:”إذا عينت لنا الوزارة أستاذاً للتربية المسيحية فسنقوم بوضع مادته ضمن الجدول الدراسي”.
من جهته يوضح الخبير التربوي المسيحي صمويل يوحنا بأن مشكلة تعيين المعلمين لتدريس التربية المسيحية مرتبط بشقين الأول عدم وجود تعيينات من الوزارة والثاني لعدم وجود أموال للكنيسة لدفعها كرواتب لأولئك المعلمين مع وجود عراقيل إدارية أخرى كرفض بعض المدارس السماح بفتح فصول مسائية لتدريس هذه المادة دون غيرها.
توجهنا لوزارة التربية والتعليم بغرض الحصول على إحصائيات للطلاب الذين يدرسون أو يجلسون لامتحانات التربية المسيحية لكن مسئوليها رفضوا الإدلاء بأي معلومات وطلبوا منا إحضار خطاب رسمي.
ومن الضروري هنا الإشارة لعدم وجود إحصائيات دقيقة حول عدد الطلاب الذين يدرسون مادة التربية المسيحية أو حتي لعدد المعلمين المتطوعين الذين يقومون بتدريس المادة للطلاب مع ملاحظة تزايد الحاجة لوجود مدرسين للتربية المسيحية لا سيما عقب الهجرة العكسية صوب السودان من دولة جنوب السودان بعد اندلاع الحرب الاهلية فيها في ديسمبر 2013م التي أدت لتوافد الآلاف من الأسر الجنوب سودانية للسودان عموماً وللعاصمة الخرطوم على وجه الخصوص.
اتهامات للكنيسة
لكن مصدر بالكنيسة الكاثوليكية طلب حجب إسمه حمل الكنيسة قدر من المسؤولية المترتبة على إهمال تدريس التربية المسيحية بالمدارس، مبيناً أنه بإمكانها متابعة هذا الأمر في كل أنحاء البلاد، بجانب وجود كنائس يمكن تدريس الطلاب التربية المسيحية فيها وأضاف:”للكنيسة قدرة على التحرك القانوني وحتى ممارسة الضغط على الحكومة لتشديد على ضرورة تدريس مادة التربية المسيحية للطلاب”.
فيما يضيف الأستاذ كوكو مختار اتهاما جديدا للكنيسة بقوله أنها تتدخل وتطلب من المعلمين منح الطلاب الدرجات الكاملة في الامتحانات النهائية التي تقوم الكنيسة بمراقبتها ويضيف:”ولذلك حينما يتم تصحيح هذه الامتحانات من دون رقابة الكنيسة تظهر نتائج متدنية جداً بسبب تدخلاتها تلك .. لذلك نفضل أن يكون التدريس للتربية المسيحية في المدارس الحكومية بعيداً عن سيطرة الكنيسية” وأردف بشي من الحسرة:”لكن في ظل منع تدريس التربية المسيحية في المدارس فلم يصبح لدينا خيار آخر”.