“ثقافة حرب”.. أطفال السودان يتشبهون بالجنود

عاين- 30 يوليو 2024

تزدحم أزقة وشوارع جنوب العاصمة السودانية بمشاهد الأطفال، وهم يحملون الأسلحة المصنوعة من الخشب على نحو جيد في محاكاة لسلاح (الكلاشنكوف) لدرجة قد يخالها البعض من على البعد أسلحة حقيقية، ولا يكتشفون أمرها إلا عند الاقتراب.

ومن يمر بمناطق النزاع التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع جنوبي الخرطوم لا تخطئ عينه مشاهد الأطفال، وهم يرتدون لثام الصحراء (الكدمول) ويضعون الأسلحة على أكتافهم مثلما يحملها منسوبو الدعم السريع، بالإضافة إلى ذلك ينادون بعضهم بلهجة من ينتسبون إلى الدعم السريع حيث ظل الأطفال يسمعونها وتكثر في أوساطهم عبارة (يا خي) وتعني (يا أخي).

وتثير هذه التحولات في ثقافة الأطفال، ومظاهر عسكرة الحياة مصدر قلق للمهتمين بالحياة المدنية وتنشئة الأطفال على قيم السلام.

وبدا ذلك السلوك المائل نحو حياة العسكرة والحرب لافتاً لكثير من المهتمين بمدنية الحياة، وأصبحوا يحذرون من تنامي ثقافة الحرب لدى الأطفال.

ويقول رابح حسين- اسم مستعار- وهو أحد سكان جنوب الخرطوم لـ(عاين)، إن “أحد الأطفال في منطقتهم أصبح يصر عليهم بإلحاح لإلباسه (الشال) في شكل (كدمول) وهو يحمل (مسدساً) بلاستيكياً من النوع المصنوع للعب الأطفال”.

في أحد أحياء جنوب العاصمة الخاضعة لسيطرة الدعم السريع، تنزعج عائلة أحد الأطفال من سلوك ابنهم الذي ما زال في عمر رياض الأطفال بعد أن ظل يحمل بشكل دائم سلاحاً (كلاشنكوف) مصنوعاً من الخشب بشكل يطابق السلاح الأصلي، وهو على هذا الحال بشكل شبه دائم.

كما أنه يردد الأغاني التي انتشرت في فترة الحرب نتيجة تشغيلها من قبل منسوبي الدعم السريع خلال تجوالهم داخل الأحياء بالدراجات النارية (المواتر) أو التي تنطلق أصواتها من مكبرات الصوت في المحلات التجارية بالأسواق.

كثير من الأطفال أصبحوا يتأثرون بثقافة الحرب ويقلدونها، ومنها ثقافة النهب

أحد سكان جنوب الخرطوم

فيما يشير محمد فارس- اسم مستعار – يسكن أحد أحياء جنوب الخرطوم، إلى أن كثيراً من الأطفال أصبحوا يتأثرون بثقافة الحرب ويقلدونها، ومنها ثقافة النهب.

وقال فارس لـ(عاين): “أحد أطفال الحي الذي أسكنه قطع عليهم الطريق بطريقة فكاهية، وهو يحمل سلاحاً (كلاشنكوف) مصنوعاً بغرض اللعب والتقليد، وأمرهم بترك الخبز الذي يحملونه معهم”.

ورغم أن التقليد يقصد منه الطفل اللعب والفكاهة، إلا أن “فارس” اعتبر ذلك مؤشراً على انتشار ثقافة الحرب وأن هذا السلوك يتطلب الانتباه حتى لا يتغذى الأطفال على ثقافات الحروب.

تلاميذ جنود

وفي منحى وصف بالخطير، انخرط بعض الأطفال في صفوف الدعم السريع ضمن المستنفرين، وأبلغ الطفل (ر- أ) تشير (عاين) إلى اسمه بالأحرف الأولى أنه لم يكن يعلم أن زميله بالفصل في المدرسة التي أسست مؤخراً (في فترة الحرب) استنفر مع قوات الدعم السريع.

تلميذ يقتحم مدرسة مع شقيقه الطفل المسلح للانتقام من معلم عاقبه

تلميذ شاهد على الحادثة

 وأشار الطفل الذي تحدثت إليه (عاين)، إلى أنه تفاجأ بسلوك وصفه بالغريب من زميله في الدراسة عندما عاقبه أحد المعلمين، فدخل التلميذ المعني في هذه الحادثة المدرسة في اليوم التالي، وهو يحمل سلاح (كلاشنكوف) وبصحبته شقيقه المنتمي لقوات الدعم السريع، وأصبحا يبحثان عن المعلم وحين وجداه حاول التلميذ اختلاق مشكلة مع المعلم مستقوياً بالسلاح، ولكن المعلم تمكن من إقناع شقيق التلميذ بصحة موقفه، فأخذ شقيقه التلميذ وانصرفا معاً.

وأشار (ر-أ) إلى انه بفصلهم الدراسي هناك تلميذين ينتميان إلى الدعم السريع.

اندماج في العنف:

وبمتابعة المشهد في مناطق الحرب التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع، هناك الكثير من الأطفال الذين اندمجوا في الثقافة التي خلفها واقع الحرب، فأصبحوا يقلدون منسوبي الدعم السريع في أزيائهم بارتداء (الكدمول) أو الملابس العسكرية المموهة أو ارتداء (الشاليه) على الرأس، ومنهم من يحمل سلاحاً نارياً صغيراً وآخر يحمل (سكيناً)، وتحول كثيرون إلى لصوص يسرقون ممتلكات المواطنين، ولم يسلم منهم حتى (الجيران) حيث يبيعون ما يسرقونه بأثمانٍ بخسة تقل كثيراً عن القيمة الحقيقية للمسروقات.

ويظهر تأثر الأطفال بثقافة الحرب كذلك في فرزهم لأنواع الأسلحة طبقاً لأصواتها (كلاشنكوف، دوشكا…)، بالإضافة إلى فرزهم أنواع الطائرات من أصواتها (الميج، الانتنوف، المسيرة)، ويتسابقون في التعرف عليها.

الأطفال الناجون من هذه التأثيرات قيدت الحرب حركتهم، فأغلب أوقاتهم يقضونها داخل المنازل، ويبدو الرعب عليهم عندما يسمعون أصوات الرصاص

والأطفال الناجون من هذه التأثيرات لجهة معاونة عائلتهم، قيدت الحرب حركتهم، فأغلب أوقاتهم يقضونها إما داخل المنازل أو اللعب على مقربة منها، ولا يتمكنون من الذهاب إلى الميادين البعيدة بصحبة بعضهم البعض كما اعتادوا، ويبدو الرعب عليهم عندما يسمعون أصوات الرصاص ليلاً أو أصوات الدراجات البخارية (المواتر) في الشوارع المجاورة عند محاولات مسلحي الدعم السريع اقتحام أحد المنازل بغرض النهب.

تهديد المستقبل:

وفي سياق متصل بتأثير الحرب على الأطفال أوضحت الاختصاصية الاجتماعية د. هيفاء عمر أحمد، أنه ومنذ اندلاع الحرب في السودان نزح الملايين شخص داخل السودان، بمن فيهم حوالي (2.5) مليون طفل، وتوقف حوالي (19) مليون طفل عن ارتياد المدارس، واعتبرت ذلك مهدداً لمستقبل السودان، حيث تقل أعمار (42%) من السكان عن (14) عاماً.

وأبانت هيفاء، إن الحرب تؤثر في الأطفال مباشرة باعتبارهم الحلقة الأضعف، ويتسمون بالرقة وسرعة التأثر بمشاهد القتل والدمار والرعب الشيء الذي يترك آثارا سلبية وأضراراً بالنفس والصحة النفسية سواء على المدى القريب أو البعيد، وقالت: (لذا هم بحاجة إلى الدعم النفسي والتأهيل، حتى يخرجوا بأقل الخسائر من هذه الحرب.

أخطر الآثار أن يعمل الأطفال كجناة، ويصيروا جنوداً أطفال، ويحرموا من أسرهم، ويتعرضوا للأذى الجسدي والعقلي

اختصاصية اجتماعية

وفصلت الاختصاصية الاجتماعية د. هيفاء، في إفادة لـ(عاين)، الآثار السالبة للحرب على الأطفال، ومنها القلق الشديد، الخوف من الموت، تعطل الإحساس بالأمن والاستقرار، ضعف الذاكرة، صعوبة النوم، الأحلام المزعجة المترتبة على الذكريات المؤلمة التي خزنها العقل الباطن، ويمكن أن تدخل الطفل في حالة من الحزن الشديد تعرضه للدخول في حالة اكتئاب، ويصبح الطفل سريع الانفعال، ويدخل في نوبات الغضب الشديد عند أبسط المواقف كنوع من التفريغ الانفعالي.

وبالإضافة لذلك أشارت د. هيفاء، إلى أنه قد تظهر مشاكل في النمو العقلي والعاطفي، بجانب صعوبة الاندماج في المجتمع والعجز عن بناء روابط عاطفية مع الآخرين.

ولفتت هيفاء، إلى الاضطرابات السلوكية وردود الأفعال العدائية واليأس من المستقبل، وأن ذلك قد يقود إلى إدمان التدخين والكحول، وفي أسوأ الحالات المخدرات.

وأضافت: أن “الأطفال أكثر عرضة للعنف والتجنيد القسري والاستغلال والاعتداء الجنسي”. ونوهت إلى التزويج الإجباري للطفلات، وتابعت: “أما أخطر الآثار أن يعمل الأطفال كجناة، ويصيروا جنوداً أطفال، ويحرموا من أسرهم، ويتعرضوا للأذى الجسدي والعقلي”.

واستدعت الاختصاصية الاجتماعية مقولة مايك في سيلز بروفيسور علم النفس كلية أندرو ماكون: “عندما يتأثر الآباء بالحرب تنخفض قدراتهم العقلية والعاطفية؛ مما يدهور قدراتهم الأبوية على رعاية أطفالهم بشكل صحيح، ويزيد العنف الأسري، ويخلق نمطاً يورث عندما يصير الأطفال آباءً مستقبلاً”.

ناقوس الخطر:

وشددت هيفاء، على ضرورة دق ناقوس الخطر مستندة على أن الأطفال يقتلون في أثناء الحروب من خلال التعرض المباشر للعنف في أثناء المعارك، (وقد يفقدون بعض أعضائهم أو سمعهم أو بصرهم؛ مما يزيد نسبة الأطفال ذوي الإعاقة)، كما نوهت بأن الاضطرابات الناتجة عن الحرب تزيد الخوف، وتتسبب في صعوبة التركيز في التعليم عند الأطفال والمعلمين على حد سواء، الأمر الذي يخلق فجوة تعليمية، ويحرم الأطفال من التعليم الأساسي وبناء المهارات الاجتماعية، ورأت أن ذلك قد يؤدي إلى خروج جيل كامل من خط التعليم، ويهدد مستقبل البلاد.

وذكرت هيفاء، أن انخراط الأطفال في العمل مع القوات العسكرية يعرضهم للعنف الجنسي، ويشكل خطورة على حياتهم، ويهدد بقاءهم على قيد الحياة، ويؤثر في سلوكياتهم واتجاهاتهم نحو الحياة بشكل سلبي، ويحرمهم من فرص التعليم.

أساليب العلاج:

وبعد التفصيل في تأثير الحرب على الأطفال طرحت الاختصاصية الاجتماعية د. هيفاء عمر أحمد، جملة من الأساليب التي يمكن اتباعها لعلاج وتخفيف تلك الآثار السلبية للحرب، تضمنت تعليم الأطفال ممارسة تدريبات التنفس (الشهيق والزفير العميق مع العد حتى العدد عشرة عند الإحساس بالضيق الشديد.

وبجانب ذلك نصحت بمساعدة الأهل للأطفال على تقبل مشاعر الخوف والقلق وعدم الهروب منها بالكبت، وذلك بإتاحة مساحة آمنة لهم للتفريغ الانفعالي، (إما بتشجيعهم على التحدث واسترجاع ذكرياتهم مع الأصدقاء والإخوان والأخوات والأحباب أو حتى بالبكاء.

ودعت هيفاء، للسعي لاكتشاف ما يعرفه الأطفال وما يشعرون به، وعدم تغافل مخاوفهم، (وذلك بفتح حوارات معهم ومشاركتهم أنشطة يعبرون من خلالها عن أنفسهم)، كما نبهت إلى أهمية تقديم المشورة الفردية وإحالة الحالات الحرجة للمختصين لتقديم الدعم المطلوب.

ونصحت د هيفاء، أولياء الأمور بعدم المبالغة في مشاركة مخاوفهم مع أطفالهم، وتجنب الحديث عن الحرب قبل النوم، وتمسكت بضرورة بث روح الاطمئنان بأن الأطفال بمأمن من أي خطر، وتشجيعهم على تذكر بعض الأذكار وسور القرآن التي يحفظونها لتعزيز الإحساس باليقين والتوكل على الله، (كمثال للأطفال المسلمين.

وأكدت هيفاء، أهمية التحدث عمن يقدمون المساعدات في ظل ظروف الحرب، وبيان أنهم يمثلون نماذج إيجابية تساعد على ظروف بالغة التعقيد، ويعرضون حياتهم للخطر من أجل الآخرين، وأن هنالك العديد من الناس يعملون بجد في كل أنحاء العالم لوقف الحرب وإحلال السلام، وقطعت بضرورة تثقيف الأهالي حول كيفية العناية بالأطفال في ظروف الحرب، ومحاولة إقامة تجمعات عائلية لخلق أجواء أسرية تسودها المحبة والأحاديث الإيجابية بعيداً عن الحرب وأهوالها.