“أزمة كاش”.. السودانيون أمام فصل آخر من أوجاع الحرب

عاين- 9 يونيو 2024

يقطع آدم حسين حوالي 100 كيلومتر شهرياً في السفر من بلدته إلى مدينة غبيش بولاية غرب كردفان، من أجل صرف تحويل مالي يصله عبر التطبيق المصرفي الإلكتروني، ومع ذلك لم يحصل على الأوراق النقدية “الكاش” في كثير من الأحيان، ويجد نفسه مضطراً لأخذ سلع ومواد تموينية، نظير تلك المبالغ.

وبهذه الطريقة يخسر حسين، جزء كبير من الأموال المرسلة إليه في تكاليف السفر، بينما لا يستطيع الاستفادة من المبالغ الموجودة في التطبيق المصرفي “بنكك” والحصول على احتياجاته اليومية نسبة لانقطاع خدمة الاتصالات والإنترنت في منطقته، كما يفضل أصحاب المحال التجارية التعامل بالكاش في عمليتي البيع والشراء.

مُعادَلَةٌ قاسية لا يعايشها آدم وحده، بل المواطنون جميعهم في مناطق الحرب في العاصمة الخرطوم وإقليمي دارفور وكردفان غربي السودان، والجزيرة أواسط البلاد، فجميعهم وجدوا أنفسهم أمام فصل جديد من مآسي القتال المحتدم بين الجيش وقوات الدعم السريع لأكثر من عام، وهو الشح الكبير في السيولة النقدية.

ومنذ وقت مبكر لاندلاع الحرب، توقفت المصارف التجارية والحكومية عن العمل في المناطق المضطربة، وصار الطريق الوحيد أمام العملاء للوصول إلى ودائعهم المصرفية، هو التطبيقات الإلكترونية والتي بدورها واجهت مصاعب واسعة نتيجة لانقطاع خدمة الاتصالات والإنترنت في البلاد.

وتوقفت الحركة الطبيعية لتوزيع النقد على أنحاء البلاد المختلفة، إذ لم ترسل مرتبات العاملين في الدولة إلى مناطق الحرب في دارفور وكردفان على مدار عام كامل، وهي أحد روافد السيولة النقدية، كما فرضت الأحوال الأمنية قيوداً على تنقل “الكاش” في كل السودان، وأصبحت الأموال رقمية في التطبيقات المصرفية.

تكبد المشاق

ويروي آدم حسين لـ(عاين) قصة معناته والسكان في ولاية غرب كردفان في الحصول على الأوراق النقدية، حيث يتكبد الجميع مشاق الذهاب إلى المدن الكبرى للبحث عن الكاش، ومع ذلك يواجهون صعوبة كبيرة في إيجاده، كما يضطرون في أغلب الأحيان إلى تبديل رصيد التطبيق المصرفي “بنكك” ببضائع وسلع تفوق الحاجة الاستهلاكية للفرد.

مواطن: الكاش يكاد يكون منعدماً في مناطق واسعة بولاية غرب كردفان، وتعطلت مصالح المواطنين.

ويقول: “أصبح الكاش يكاد يكون منعدماً في مناطق واسعة بولاية غرب كردفان، وتعطلت مصالح المواطنين نتيجة ذلك، فالذي يريد بيع أغنامه أو محصوله الزراعي من أجل تسيير شؤونه الحياتية لا يفلح بسبب شح الكاش، وربما لا يجد مشترياً، أو يضطر لمقايضتها بمبالغ على التطبيق المصرفي الإلكتروني أو تسلم مقابلها سلع ومنتجات غذائية”.

ويشير إلى أن تدهور الوضع الأمني وانتشار عصابات النهب المسلح بكثافة، دفع الذين بحوزتهم مبالغ نقدية من أصحاب المحال التجارية إلى إخفائها والاحتفاظ بها بعيداً وعدم طرحها في التعاملات اليومية، الأمر الذي فاقم من أزمة السيولة النقدية في تلك المناطق.

ولمدة عام كامل، لم يتمكن السودان من طباعة أوراق جديدة نتيجة لدمار المركز الرئيسي لطباعة العملة التابع للبنك المركزي في البلاد، والذي يقع جنوبي العاصمة الخرطوم، وتحول إلى ثكنة عسكرية.

عُملة مزيفة.. سلاح آخر للدعم السريع يلتهم أموال عالقي حرب الخرطوم
فئات من الجنيه السودان- عاين

وتعتبر طباعة الأوراق النقدية عملية دورية، للحفاظ على السيولة النقدية والكتلة المتداولة لتعويض التالف من تلك الأوراق، وتغذية عجز الموازنة العامة فيما يعرف بمفهوم الاستدانة من الجهاز المصرفي، والذي أيضاً يمكن أن يتم عبر اعتمادات وضمانات وإصدار السندات غير النقد، وفق تفسير اقتصاديين.

ويكشف محمد صالح من مدينة الضعين بولاية شرق دارفور لـ(عاين) إن أزمة السيولة النقدية بلغت ذروتها في منطقته، ويواجه المواطنين معاناة واسعة في الحصول على الكاش.

مواطن من الضعين: ولاية شرق دارفور تشهد جفافاً في السيولة النقدية، لأن التجار يصدرون السلع والمنتجات المحلية من محصولات زراعية وثروة حيوانية خارج الولاية لا يعيدون مقابلها كاش.

ويقول صالح، إن ولاية شرق دارفور تشهد جفافاً في السيولة النقدية، لأن التجار يصدرون السلع والمنتجات المحلية من محصولات زراعية وثروة حيوانية خارج الولاية لا يعيدون مقابلها كاش، وإنما يأتون بقيمتها بضائع ومواد غذائية كالسكر والزيت والبصل، كما يفضلون التعامل عبر التطبيق المصرفي الإلكتروني نسبة لخطورة الوضع الأمني وانتشار عمليات النهب المسلح التي يصعب معها حمل الكاش.

استغلال وابتزاز

ليس شح السيولة النقدية سوى تجل طفيف لأزمة اقتصادية طاحنة يعيشها السودان بعد حرب ضارية بين الجيش وقوات الدعم السريع متواصلة لأكثر من عام، حيث انخفضت قيمة العملة الوطنية مقابل النقد الأجنبي إلى مستوى قياسي، وارتفع معدل التضخم، وزادت أسعار مجمل السلع الاستهلاكية، بينما وضعت ملايين المواطنين على حافة الجوع.

وينقل أحمد عمر (اسم مستعار بناء على طلبه) واقع قاسي يعيشه السكان في جنوب الخرطوم في فيما يتعلق بالسيولة النقدية، فهي شحيحة للغاية، وقدر الكميات المتوفرة يحتكرها مسلحو قوات الدعم السريع، ويمارسون أبشع أنواع الابتزاز والاستغلال للمواطنين الراغبين في استبدال رصيد التطبيق المصرفي “بنكك”.

ويقول عمر في حديثه لـ(عاين) إن “مسلحي قوات الدعم السريع استحوذوا على المحال التجارية التي هجرها أصحابها في كل الأسواق الكبرى جنوبي الخرطوم، وشغلوها لحسابهم الخاص من خلال نشاط الاتجار بالعملات والأوراق النقدية بعد أن زودوها بأجهزة الإنترنت الفضائي أستار لنك، فقيومون بأخذ عمولات طائلة تصل 20 بالمئة من جملة المبلغ البنكي المراد استبداله بالكاش”.

ويضيف “مع ذلك ربما يمنحون المواطن صاحب التحويل البنكي مبالغ نقدية مزيفة حيث تكثر العملات المزورة في المنطقة، ولا يستطيع التحدث معهم بشأن ذلك لأنهم مدججون بالأسلحة النارية، أو منحه أوراقاً نقدية سليمة وقانونية، وبالتالي تَتَبَّعَهُ في طريق عودته إلى منزله، ونهبه تحت تهديد السلاح، وفي وضح النهار”.

أمدرمان تعاني

ويعتمد السكان العالقون في مناطق الصراع المسلح في العاصمة الخرطوم على التطبيقات المصرفية الإلكترونية في تلقي المساعدات المالية من أقاربهم ومعارفهم، فليس لهم أي مصدر كسب خلافهم، ومع ذلك يتغول منسوبو قوات الدعم السريع على تلك الأموال الشحيحة.

ولم يكن الوضع في مدينة أمدرمان الآمنة نسبياً، ويسيطر عليها الجيش، بأحسن حال فهي الأخرى تعاني شح السيولة النقدية، ولكن الاستقرار النسبي في خدمات الاتصالات والإنترنت خفف وطأة الأزمة، حيث تحولت غالبية المحالات التجارية للتعامل مع المواطنين عبر وسائل الدفع الإلكترونية خاصة تطبيق بنكك، وفق ما نقله صديق أحمد لـ(عاين).

ويقول أحمد الذي يسكن في ضاحية الثورة شمالي أمدرمان، “توجد أزمة السيولة نقدية في أمدرمان، فمن الممكن أن يحصل الشخص على كاش قليل في حدود 10 أو 15 ألف جنيه، ولكن إذا أحد يرغب في مبالغ نقدية بحجم كبير لن يجدها، ويضطر هؤلاء للسفر إلى مدينة شندي، نحو 120 كلم شمالي العاصمة لجلب حاجتهم من الكاش”.

الجنيه السوداني فقد أكثر من 60 بالمئة من قيمة خلال شهر مايو الماضي، والدولار  قارب الألفي جنيه.

وخلال الشهر الماضي، قرر محافظ بنك السودان المركزي تحجيم السحب النقدي من المصارف وخفض السقف اليومي للسحب إلى 3 ملايين فقط، وفي المقابل رفع سقف التحويل عبر التطبيقات المصرفية إلى 15 مليون جنيه في اليوم الواحد، كما خفض السحب النقدي من أجهزة الصراف الآلي إلى 50 ألف جنيه في اليوم، في خطوة قال إنها تهدف إلى وقف تدهور قيمة العملة الوطنية “الجنيه” أمام النقد الأجنبي.

انقلاب السودان يشل اقتصاد البلاد وتوقعات بموازنة كارثية

وخسر الجنيه السوداني أكثر من 60 بالمئة من قيمة خلال شهر مايو الماضي، حيث لامس الدولار حاجز الألفين جنيهاً، بعد أن كان في حدود 1300 جنيه الشهر السابق.

مأساة اللاجئون

وألقى تراجع قيمة الجنيه بأعباء واسعة على السودانيين الذين اضطروا للجوء خارج البلاد وما زالوا يعنمدون على مصادر كسب مالي من داخل السودان، وجعلتهم يعجزون عن الوفاء بالتزاماتهم المعيشية هناك، خاصة اللاجئين في مصر.

وروت سيدة سودانية لاجئة في مصر لـ(عاين) إنها تعتمد على ايجار منزلها في مدينة أمدرمان لمواجهة احتياجاتها المعيشية في القاهرة، ونظراً لظروف الحرب لم تقوم بأي زيادة في قيمة الايجار الشهري، ومع انفاض قيمة الجنيه السوداني أصبحت المبالغ التي تأتيها قليلة جدا، ولا تكفيها للوفاء بالتزامات ايجار الشقة في القاهرة، ومصاريف المدارس.

وتقول: “نعول ايتام، وبسبب انخفاض العملة الوطنية فإنني نوجه شبح الإخلاء من الشقة في القاهرة، وربما نعجز عن سداد الرسوم الدراسية. ليس لدينا أي طريق آخر للكسب المالي، ولا نتلقى التحويلات الا عن طريق التطبيق المصرفي بنكك فقط، فنحن نحث بنك الخرطوم على تأسيس فرع أو خلق علاقات مع المصارف المصرية بما يتيح لنا صرف أموالنا بسعر ثابت ومجزي، بعيداً عن تجاذبات السوق السوداء”.

من جهته، يرى الخبير الاقتصادي عبد الله الرمادي أن قرار البنك المركزي يعكس وجود أزمة سيولة نقدية في السودان، وبخلاف ذلك لم يكن مضطراً لتحجيم السحب النقدي، وإلى مثل هذه الإجراءات.

ويقول الرمادي في مقابلة مع (عاين): “تحجيم السحب النقدي وتشجيع التداول عبر التطبيقات المصرفية يعطي مؤشر قوياً لأزمة السيولة، وانعدام الثقة بالجهاز المصرفي نتيجة لاهتزاز في الاقتصاد الكلي؛ بسبب تطاول أمد الحرب والتي وضعت الاقتصاد على حافة الانهيار؛ مما يهدد بقاء الدولة كذلك”.

ويضيف: “استهدفت هذه الحرب عن عمد تدمير القطاعات الإنتاجية وتدمير البنى التحتية، بهدف خلق حالة من عدم الاستقرار وصولاً إلى الانهيار الكامل، وكل ما تحطم يحتاج إلى مليارات الدولارات لإعادة تأهليه”.

مشكلة قديمة

لم تشهد الولايات السودانية الآمنة التي يسيطر عليها الجيش، بما في ذلك العاصمة الإدارية بورتسودان، وكسلا، عطبرة، أي ملامح في شح السيولة النقدية، ومع ذلك آثار تحجيم السحب النقدي من المصارف حفيظة عملاء المصارف، وفي مخيلتهم أزمة الطاحنة في الكاش في نهايات حكم الرئيس المخلوع عمر البشير عام 2003م.

ويرى الخبير الاقتصادي عادل خلف الله، أن قرار تحجيم السحب النقدي وتشجيع التداول الإلكتروني للأموال الذي اتخذه بنك السودان المركزي، يمكن أن يعوض الشح النقدي أو نقص العملة المادية المتداولة، ويقلل الضغط على المصارف وأجهزة الصراف الآلي، كما أنه يمثل خطوة لتحقيق الشمول المالي والتمكين الاقتصادي.

"عام على الانقلاب".. إعادة الاقتصاد السوداني إلى الصفر
مبنى بنك السودان المركزي – ارشيف

ويقول خلف الله في مقابلة مع (عاين) إن “عدم القدرة على طباعة الأوراق النقدية لفترة طويلة يمكن أن يكون له آثار واسعة النطاق على الاقتصاد والمجتمع من خلال المعاملات اليومية والتعاملات الحكومية والاستقرار الاجتماعي، وفي المقابل تقلل نسبياً من تآكل القوة الشرائية للعملة الوطنية الجنيه”.

ويشير إلى أن طباعة العملة خارج البلاد قد تقدم حلاً قصير الأجل للتخفيف من النقص النقدي، ولكنها مكلفة، ومحفوفة بالمخاطر الأمنية والتحديات اللوجستية في استيراد وتوزيع الأوراق النقدية محليا، خاصة في ظل عدم الاستقرار السياسي والأمني.

ويضيف “مشكلة السيولة في السودان قديمة حولتها سياسات نظام الإنقاذ المخلوع ونهج التمكين والتجنيب إلى أزمة في سنواتها المتأخرة، عكستها تقارير البنك المركزي التي ظلت تشير إلى أن ما بين 90 – 95 بالمئة من السيولة، خارج الجهاز المصرفي، مضافاً إلى ذلك ما تتعرض له العملة من تزييف وتلف متزايد”.