مرضى السرطان في السودان.. محنة الداء وغلاء الدواء

1 فبراير 2023

في جزء من ساحة صغيرة تتوسط مستشفى الخرطوم لعلاج الأورام “الذرة” وسط العاصمة السودانية وقفت حواء عبد الله، وهي في حيرة من أمرها بعد أن أظهرت الفحوصات المعملية للتو  إصابة والدتها بمرض سرطان الثدي.

صدمة الإصابة بسرطان الثدي كافية لتحطيم آمال “حواء” بشأن صحة والدتها، لكن الأقدار حملت إليها مفاجأة أخرى أكثر قسوة وهي غلاء الدواء، إذ تفوق تكلفة جرعة العلاج الكيماوي 400 ألف جنيه وهو مبلغ يفوق قدرتها المالية بكثير خاصة وانها من عائلة محدودة الدخل وبالكاد يفي دخلها بمتطلبات الأكل والشرب، حسب حديثها لـ(عاين).

حواء عبد الله، تجسد واقع مأساوي يعيشه آلاف السودانيين من مرضى السرطان وعائلاتهم في الحصول على الأدوية التي رفعت الحكومة الدعم عنها بالكامل وأصبحت تباع بشكل تجاري في الصيدليات وتتقلب أسعارها حسب مجريات السوق- وفق أطباء.

مدير مستشفى علاج الأورام”: “بسبب نقص أجهزة العلاج الإشعاعي وصلت قائمة المنتظرين لستة أشهر قادمة، وهي فترة زمنية طويلة تمكن المرض من الانتشار لمناطق اخرى في جسد المريض ووفاته.

يأتي ذلك وسط حصيلة “مرعبة” كشفها المدير العام لمستشفى الخرطوم لعلاج الأورام “الذرة” الدكتور أحمد عمر عبدالله لـ(عاين) تشير إلى إرتفاع مضطرد في معدل الإصابة بالسرطان، إذ يستقبل المشفى نحو ألف حالة جديدة شهرياً، 80% منها قادمة من الأقاليم السودانية أي من خارج العاصمة.

كارثة وشيكة 

لم تتوقف الأزمة عند نقص الدواء الكيماوي وغلائه، لكن هناك كارثة وشيكة ستحل بعد أقل من شهرين وهي توقف كامل لأجهزة العلاج بالأشعة بمستشفى الذرة المرجعي، ما لم تتدخل السلطات الحكومية وتدارك الموقف. بحسب عبد الله الذي يقول في مقابلة مع (عاين):”توجد 4 أجهزة علاج إشعاعي في مشفانا، 2 منها تعمل عن طريق الإنتاج الذاتي للإشعاع وقد تعطلت وخرجت عن الخدمة منذ زمن بعيد، أما الجهازين الآخرين يعملان بنظام تغذية الإشعاع وقد إقترب إشعاعها من النفاد وسوف يتوقفان خلال شهرين كحد أقصى ويكون العلاج الإشعاعي للمرضى معدوم تماماً”.

وأضاف: “بسبب نقص أجهزة العلاج الإشعاعي وصلت قائمة المنتظرين عندنا لستة أشهر قادمة، وهي فترة زمنية طويلة تمكن المرض من الانتشار لمناطق اخرى في جسد المريض وبالتالي وفاته”. ولفت عبد الله، إلى أنهم قدموا لوزارة المالية طلب لتعبئة الإشعاع في الجهازين وقد قامت بتصديق المبالغ ومضت الإجراءات بشكل طيب، لكن مدير المركز القومي للأورام أوقف التصديق ولم يبلغنا بالأسباب”.

بحاجة لمعجزة

حواء عبدالله التي ترافق والدتها المصابة بسرطان الثدي، لا تعلم حتى اللحظة بالكارثة المحتملة والخاصة بانعدام العلاج الإشعاعي وما إن كان يقرره الأطباء لوالدتها أم لا، لكنها تحمل هماُ كبيراً في الوقت الراهن لجرعات العلاج الكيماوي غالية الثمن.

"كورونا" في السودان.. قاتل يجول بحرية

وتقول حواء في مقابلة مع (عاين): “لقد أكملت كافة الفحوصات التي أكدت إصابة والدتي بسرطان الثدي، وأبلغنا الطبيب أنها بحاجة إلى بروتوكول علاجي يستمر لمدة عامين، تتلقى خلالها جرعة كيماوي كل ثلاثة أسابيع، وحسب ما علمنا أن تكلفة الجرعة الواحدة ربما تصل خمسمائة الف جنيه سوداني”.

وتابعت حواء: “ما زلنا في بداية المشوار وتكملة الفحوصات ولا نعلم ما ينتظرنا خلال الأيام المقبلة، فنحن بحاجة الى معجزة حتى نتمكن من توفير مبالغ الجرعة العلاجية إلى والدتنا .. نشعر بحزن عميق وقلة حيلة تجاه هذه المحنة..”.

حواء في خطوات أولية لطريق طويل للحصول على الدواء،  لكن ثمة من استنزفت جرعات علاج مرض السرطان وأنهت كل مدخراته في الحياة وصار تحت رحمة مساعدات شحيحة تصله من أقاربه ومعارفه.

كوثر محمد، واحدة من هذه الفئة والتي أكملت عامها الثاني في مواجهتها مع سرطان القولون وما تزال تقاوم المرض رغم نفاد ما لديها من أموال وتقول كوثر في مقابلة مع (عاين): “كنت اعمل كموظفة ودخلي محدود عندما اصبت بمرض السرطان، ولم تكن الأدوية بذات الغلاء وقتها، وعندما صار الدواء تجاري منذ أشهر تعهد جيران لي ميسوري الحال بتوفير مبالغ الجرعة “.

وأضافت “هناك دواء يسمى افاستين يعطى لمرضى سرطان القولون يبلغ سعر العبوة الواحدة نحو 360 ألف جنيه هذا للسويسري الصنع، وتوجد منه شركات أقل بقليل، ومن ثم علينا دفع مبلغ 1700 جنيه لدخول المستشفى، وجميع الأدوية والمستلزمات الخاصة بالجرعة العلاجية يشتريها المريض باستثناء بعض المحاليل تمنح مجانا”.

وتابعت كوثر: “لم تتوقف معاناتنا عند غلاء الأدوية، بل تمتد إلى التردي البيئي داخل مقر تلقي العلاج في برج الأمل، فهناك رداءة وطفح في الحمامات واتساخ عام الشيء الذي يجعلني ممسكة عن الأكل والشرب طوال ساعات بقائي لأخذ الجرعة العلاجية “.

وانتقدت كوثر بشدة السلطات الحكومية لرفع يدها عن علاج السرطان والذي أشارت إلى أنه يواجه شح وغلاء معاً، وقالت: “في كل العالم دواء مرض السرطان يقدم مجاناً فلا يعقل أن تتقاعس دولة بأكملها عن مسؤوليتها وتترك آلاف المرضى تحت رحمة تجار وشركات الأدوية”.

وتضيف كوثر لـ(عاين): “نواجه مأساة كبيرة فإن كنت محظوظة بجيراني الذين يدفعون لي تكاليف العلاج إلا أنني حزينة لآلاف الأشخاص لا يستطيعون شراء الجرعات وهو مشهد يتكرر أمامي كل مرة نأتي فيها لتلقي علاجي .. أشعر بأسى شديد حيال هؤلاء”.

مشاهد مأساوية

وبين مستشفى الذرة وبرج الأمل المتجاورين وسط الخرطوم، مشاهد مأساوية تعكسها حركة المرضى ومرافقيهم وهم يحملون وصفات دوائية “روشتات” ويتنقلون بين الصيدليات بحثاً عن الدواء ويخذلهم نقص الأموال في الحصول عليه ويستقرون في الأرصفة المجاورة في حيرة وقلة حيلة.

وفي ظل واقع شديد الظلام يتحرك متطوعون من منظمات مجتمع مدني محاولين ايقاد شموع من الأمل بجمع تبرعات لمساعدة مرضى السرطان العاجزين عن الحصول على الأدوية، ولكن الحاجة كبيرة تفوق ما يحصلون عليه من تبرعات شحيحة، حسبما تحدث أحد المتطوعين لـ(عاين).

صحة سكان ولاية الجزيرة في "السوق السوداء"

أيضاً يوجد نشاط كبير للتكافل الاجتماعي حيث يتداعى الأقارب لجمع تبرعات عينية لمساعدة مريضهم وتوفير الأدوية والمستلزمات الخاصة بمرض السرطان، لكن تبقى مجرد جهود محدودة لا تغطي كل الحاجة.

ويقول بشير الصادق، ناشط في جمع التبرعات لمرضى السرطان في مقابلة مع (عاين)، إن الاستجابة من الجهات الخيرية ضعيفة للغاية مقارنة بحجم المرضى المحتاجين ومع ذلك نحن مستمرين في عملنا ونقوم بتوزيع ما نجمعه على الحالات الأكثر حاجة.

وأضاف: “نتابع حالات إنسانية حرجة، فغالبية مرضى السرطان الذين يترددون على المشافي داخل السودان من الفقراء، لأن المرضى من ميسوري الحال يغادرون لتلقي العلاج خارج البلاد”.

وناشد الصادق الجهات والأشخاص الخيرين بالاستجابة القوية لنداءات التبرع لمرضى السرطان لإنقاذ حياتهم، فهم بحاجة إلى المساعدة أكثر من أي فئة أخرى.

تحرير كامل

في هذا الصدد يقول الطبيب الصيدلاني طارق محمد في مقابلة مع (عاين) إن الحكومة رفعت الدعم كليا عن الأدوية بما في ذلك علاجات السرطان والأمراض المزمنة. وكشف عن زيادة أسعار أدوية السرطان والأمراض المزمنة مثل الضغط والسكري بنسبة 300% خلال عام منقضي، وبالتحديد عقب الانقلاب العسكري في السودان الشيء الذي ألقى بأعباء كبيرة على المرضى في ظل تدني في الأوضاع الاقتصادية، فهناك من يعودون الى منازلهم بلا دواء”.

وأضاف طارق: “حكومة رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك كانت تدعم الأدوية وتوفر العملات الحرة لاستيرادها من خلال محفظة السلع الاستراتيجية، ولكن توقف الدعم منذ رحيل السلطة الانتقالية وأصبحت جميع الأدوية محررة تستوردها شركات وتضع ما يناسبها من أسعار حسب مجريات سعر الصرف”.

وتابع “يذهب المرضى إلى الامدادات الطبية الجهة الحكومية المعنية بتوفير الأدوية، ولكن لا يجدونها ويضطرون للعودة إلى الصيدليات التجارية لشراء العلاج بأسعار عالية، حيث تصل بعض علاجات السرطان 380 ألف جنيه سوداني وهي مبالغ طائلة لا يحتملها الفقراء”.

مراحل علاج السرطان 

هنا، يوضح مدير مستشفى الخرطوم للأورام “الذرة” الدكتور أحمد عمر عبدالله  لـ(عاين)، أن هناك عدة مراحل لعلاج السرطان، وهي “الخط الأول، وهو بداية المرض ويقدم فيها العلاج الكيماوي مجاناً لكل المرضى بدعم من الدولة وما يزال مستمراً وهو ذو تكلفة مالية قليلة”.

ويضيف “الخط الثاني وهو علاج يعطي في مرحلة متقدمة من المرض وتكلفته عالية. كما يوجد الخط الثالث أو العلاج الموجه وهذا يعطي للمريض في مرحلة متقدمة من انتشار المرض وثمنه غالي جدا مثل افاستين، وهذا يأخذه عدد قليل من المرضى وليس جميعهم”.

نهب مستشفى في الخرطوم احتجاجاً على تخصيصه لعزل مصابي (كورونا)

ونبه عبد الله، إلى أن الدولة تقوم بتوفير علاجات الخط الأول مجاناً وقد ظلت الشركات مستمرة في استيرادها رغم مديونيتها العالية على الإمدادات الطبية والتي وصلت 50 مليون دولار، لكن قد تحدث بعض الإشكالات والنقص الدوائي من وقت لآخر بسبب شح العملات الحرة.

وقال عبدالله، إن “مستشفى الذرة يعاني من نقص في الكوادر الطبية والتمويل حيث لم يتلق أي مبالغ مالية من الحكومة منذ شهر مايو الماضي”، ولفت إلى أنه عندما تسلم المشفى كان يواجه نقص في اغلب الخدمات العلاجية وشح في الكيماوي واجهزة الإشعاع ولكنه تمكن من توفير العديد منها وصيانة العنابر وإصلاح مصعد كهربائي خفف معاناة المرضى ومرافقيهم في نقلهم للطوابق العلوية.

ويرى الدكتور أحمد عمر عبدالله، أن حجم التردد الشهري من الحالات الجديدة الذي يصل 1000 حالة في الشهر و 12 الف في السنة ليس مزعجاً مقارنة بعدد سكان السودان الذي يصل 40 مليون نسمة، الطبيعي كان ينبغي ظهور 40 ألف حالة سرطان سنويا، وهذا يشير الى وجود حالات كثيرة غير مكتشفة”.