«على حواف الموت».. مرضى السرطان يجسدون الوجه المؤلم لحرب السودان  

عاين- 29 أغسطس 2023 

لم يستطع جسد “خالد سليمان” الذي أنهكه مرض السرطان تحمل تأخير جرعة العلاج الكيماوي لوقت طويل عن موعدها المعتاد فخطفه الموت تاركاً لعائلته حزن الفراق الأبدي، ومجسداً مشاهد متكررة في ساحة مستشفى مدينة ود مدني- وسط السودان- لعلاج الأورام السرطانية الذي تحول إلى سرادق واسع ترتفع فيه أصوات البكاء على مرضى ينضمون إلى عداد الموتى بشكل يومي.

ويكشف حال مرضى السرطان الوجه الأكثر قسوة للحرب المحتدمة في السودان منذ منتصف أبريل الماضي، حيث تسبب الصراع في إغلاق مستشفى الذرة الخرطوم وهي المركز المرجعي والأكبر لعلاج الأورام في البلاد، بجانب توقف إمداد الأدوية والجرعات التي تضاعفت أسعارها ووصلت لأرقام خرافية تفوق قدرة المرضى.

وبعد اندلاع الحرب توجه معظم المرضى لمستشفى “الذرة” في مدينة ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة فصار شبه مرجعي الآن إذ توجد بعض المراكز في مدن سودانية أخرى لكنها محدودة الإمكانيات، وهو ما خلق تكدس كبير في مستشفى مدني يفوق طاقتها الاستيعابية الشيء الذي جعل مئات المرضى يصطفون في قائمة انتظار طويلة.

حزن مضاعف

ويروي “محمد” وهو أحد مرافقي “خالد سليمان” في مستشفى ود مدني لـ(عاين)، أنهم عاشوا لحظات عصيبة وقاسية بعد أن استنفدوا عمليات البحث ولم يجدوا جرعة كيماوي لمريضهم وفي نهاية المطاف عثروا عليها في أحد المراكز التجارية لكن سعرها مرتفع يقدر بـ700 ألف جنيه وهو مبلغ يفوق قدرتهم المالية.

“ظللنا في حيرة من أمرنا بينما يخبرنا الأطباء باستمرار أن حالة مريضنا تمضي للأسوأ ولا يحتمل تأخير أكثر لجرعة العلاج الكيماوي مما يزيدنا قلق، وبعد أسبوع من البحث تمكنت إحدى قريباتنا في الحقل الطبي من العثور على جرعة واحدة في مدينة المناقل وعندما تم احضارها كان خالد قد توفي”. يقول محمد.

كيف حبست "كورونا" أنفاس الجزيرة؟
تكدس المرضى بمستشفى ود مدني لعلاج الأورام السرطانية

ويضيف: “فارق مريضنا الحياة وقد يلحق به المئات من المرضى الذين كانوا يرقدون في مستشفى الذرة بجواره، فالعلاج منعدم تماماً حتى الأدوية البسيطة مثل المحاليل الوريدية والمضادات الحيوية نضطر للوقوف في الصفوف أمام الصيدلية للحصول عليها”.

وتابع: “تضاعف حزن العائلة فإلى جانب وداعه للأبد كانت حسرتهم على عدم قدرتهم على شراء جرعة الكيماوي في الوقت اللازم مما قاد إلى تدهور صحته ومفارقة الحياة”.

وكان مرضى السرطان في السودان يعيشون على وقع أزمة العلاج الكيماوي والإشعاعي منذ أشهر قبل اندلاع الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع في 15 ابريل الماضي وذلك بعد رفع الحكومة يدها عن دعم الأدوية بما في ذلك دواء مرض السرطان.

ويشهد السودان ارتفاعاً مضطرداً في معدل الإصابة بمرض السرطان بواقع حوالي ألف حالة في الشهر مقابل مستشفى ومراكز محدود للعلاج، وذلك بحسب ما كشفه مدير مستشفى الخرطوم لعلاج الأورام “الذرة” الدكتور أحمد عمر عبد الله في مقابلة مع (عاين) في شهر فبراير الماضي.

توقف الإشعاع

تكشف أخصائية الأورام في مستشفى الذرة بود مدني الدكتورة “ندى عثمان” خلال مقابلة مع (عاين)، عن ارتفاع مضطرد في حجم تردد المرضى على المشفى لأنه أصبح مرجعي لكل السودان بعد إغلاق مركز الخرطوم، ويفوق معدل الدخول الطاقة الاستيعابية مما يجعل المرضى في حالة انتظار مستمرة رغم وجود حالات لا تحتمل التأخير.

توقف العلاج الإشعاعي في مستشفى ود مدني بعد تعطل كل الأجهزة ولم يتسن صيانتها ومئات المرضى ينتظرون الجلسات دون جدوى.

“توقف العلاج الإشعاعي بشكل كامل في مستشفى ود مدني بعد تعطل كل الأجهزة ولم يتسن صيانتها حتى الآن فهناك مئات المرضى ينتظرون الجلسات دون جدوى، كما يوجد نقص حاد في جرعات الكيماوي حيث لم تدخل الاحتياجات المطلوبات من الأدوية منذ اندلاع الحرب باستثناء كميات محدودة تصل من بعض المنظمات لكنها لا تسد الحاجة”. تقول ندى.

وتضيف:”الوضع في قسم الأطفال يعتبر الأسوأ فهو المركز الوحيد الذي يستقبل الأطفال المصابين بالسرطان في الوقت الراهن بالسودان، فهناك تردد عالي جدا بمعدل 20 طفل يومياً مع دخول حالات جديدة، فلا توجد استراحات كافية مع نقص كبير في الأدوية”.

ورغم تدهور الأوضاع في مستشفى “الذرة” بود مدني يتعلق المرضى ومرافقيهم بالأمل مع صبر على قوائم انتظار طويلة للحصول على جرعات من العلاج لتخفيف آلامهم، فهم يتجولون في ساحة المشفى وبين صيدلياتها في مشاهد تعكس أسوأ صور المعاناة.

وتقول خديجة بابكر، وهي مريضة بسرطان “الرحم” في حديث لـ(عاين): “نتألم بسبب واقع المستشفى أكثر من وجع المرض نفسه، لقد ارتفعت أسعار العلاج الكيماوي بصورة كبيرة تفوق قدرتي وفي بعض المرات لا نجده في الصيدليات ونظل في حالة بحث مستمرة ونتأخر في بعض الأوقات عن موعد الجرعة فتتراجع صحتي”.

وتضيف:”ظللت أقاوم سرطان الرحم لمدة عامين ماضيين وأجريت لي عملية لاستئصال الورم، لكنه تمدد مجدداً ووصلت مرحلة تتطلب أخذ جرعة كيماوي كل ثلاثة أسابيع وقد بلغت قيمتها الآن 100 ألف جنيه وهو مبلغ كبير لا نستطيع تحمله، فمن أين نأتي بكل ذلك وأنا بلا عمل، ونعتمد فقط على الزراعة في مساحات محدودة”.

صحة سكان ولاية الجزيرة في "السوق السوداء"
نقص ادوية علاج السرطان يفاقم معاناة المرضى

وتشير بابكر، إلى أنها تواجه فاتورة ترحيل من منزلها في مدينة سنار الى ودمدني كل 3 أسابيع الى جانب تكاليف الأدوية والإقامة وتكاليف كبيرة تعجز عن تحملها، فجميع المرضى في مستشفى الذرة ود مدني بحاجة الى مساعدة عاجلة على الأقل توفير جرعات العلاج الكيماوي.

وتتراوح أسعار العلاج الكيماوي حسب مراحل مرض السرطان في الجسم، فتبدأ أسعارها من 100 ألف وتصل حتى 700 ألف جنيه في المراكز التجارية، حسب مرضى ومرافقيهم.

انتظار طويل

ورغم ما تواجهه شريحة العلاج الكيماوي من مآس، لكنهم يبدون أحسن حالا من المرضى الذي يحتاجون لعمليات استئصال أورام سرطانية من أجسادهم في مستشفى الذرة بود مدني فهم بحاجة الى انتظار طويل يصل الى 3 أشهر في حده الأدنى.

ويقول مسؤول طبي بالمستشفى لـ(عاين)، إن “جميع غرف التخدير وعددها 4 تعرضت الى حريق مؤخراً مما أدى لخروجها عن الخدمة تماماً، وتعمل في الوقت الراهن غرفة واحدة فقط للتخدير وهي خاصة بقسم الطوارئ الشيء الذي أعاق برنامج العمليات الجراحية الخاصة باستئصال الأورام في المشفى”.

ويضيف المسؤول الطبي الذي فضل حجب اسمه: “يتم استثناء حالة واحدة من المرضى في الأسبوع ليتم تخديرها في الغرفة الخاصة بقسم الطوارئ، وهو معدل تعامل بسيط للغاية مقارنة بعدد المرضى الذين يحتاجون عمليات جراحة مما يجعلهم ينتظرون لأوقات طويلة، فالوضع كارثي ومع ذلك لا توجد أي جهود رسمية لحل هذه الإشكالات، فهناك غياب كامل للدولة ووزارة الصحة ولاية الجزيرة”.

من جهته، يقول الطيب عبد الله الذي يرافقه أحد أقاربه في حديثه لـ(عاين)، إنهم انتظروا طويلا بغرض إجراء عملية استئصال ورم في القولون بمستشفى الذرة ود مدني، لكنهم لم يفلحوا في ذلك واضطروا للانتقال إلى أحد المراكز الصحية التجارية وإجرائها بمبالغ مالية طائلة.

ويضيف: “هناك تكدس كبير لمرضى السرطان ففي ظل ذلك رأينا أننا ننتظر السراب، فلم يتم إعطائنا أي موعد لإجراء العملية الجراحية لذلك ذهبنا للمركز التجاري رغم تكلفته المالية العالية، لكن يملؤنا الحزن على أولئك المرضى الذين لا يقدرون على تكاليف العلاج الخاص”.

وتابع: “رأيت مشاهد مأساوية أمام مستشفى الذرة ومرضى لا حيلة لهم يبحثون عن علاج شحيح وإمكانيات متواضعة للمشفى الذي امتلأت حجراته قبل فنائه الخارجي، هذا فضلاً عن وقوف الناس طوابير في بوابات الصيدليات للحصول على الأدوية المختلفة التي تشهد بدورها نقصا حادا مع ارتفاع كبير في أسعارها”.

ويشير عبد الله، الى أنهم تمكنوا من إجراء العملية الجراحية، ولكن تنتظرهم متابعات أخرى قد تقودهم الى مستشفى الذرة مجدداً لخوض المأساة مع بقية المرضى وهو مصير سيكون قاسيا تمنى عدم حدوثه.

وضع كارثي

وتشدد إخصائية الأورام الدكتور، ندى عثمان، على ضرورة أن يتم تدخل عاجل بغرض تدارك الأوضاع في مستشفى الذرة وبخاصة قسم الأطفال والذي وصل الى مرحلة كارثية.

وتقول عثمان خلال مقابلتها مع (عاين): إن “بعض الجمعيات والمنظمات الخيرية المحلية مثل منظمة سما تقوم بجهود عظيمة بتوفير بعض الاحتياجات الدوائية والجرعات لمرضى السرطان، ولكن الحاجة الفعلية تفوق المستلزمات التي تصل من وقت لآخر بكثير، ومن هنا نطلق مناشدة لكل المنظمات بالتحرك لتدارك الأوضاع بمستشفى ودمدني”.

وتضيف: “توقف أجهزة العلاج الإشعاعي أدى لتفاقم الأوضاع في مستشفى الذرة ولم يكن هناك أي خيار أمام المرضى سوى الانتظار، وكانت هناك جهود للصيانة لكنها لم تنجح”.

كيف حبست "كورونا" أنفاس الجزيرة؟
إخصائية الأورام الدكتورة، ندى عثمان، تدعو لتدخل عاجل بغرض تدارك الأوضاع في مستشفى الذرة وبخاصة قسم الأطفال والذي وصل الى مرحلة كارثية.

وتكشف عن وضع قاسي يعيشه الفريق الطبي في المشفى الذي يعمل بطاقته القصوى في حين لم يتقاضوا أي أجور منذ شهر مارس الماضي ومع ذلك آثروا الاستمرار في العمل نظرا لحالة المرضى، ولكن هذا الأمر صعب للغاية فكيف يمكنهم مقابلة تكاليف الحياة بلا رواتب؟، فهذه مسألة ضرورية يجب التحرك لمعالجتها”.