سكان بحري بعد تقييد عمل (التكايا): الجوع لا ينتظر توقيع مسؤول
عاين- 18 أغسطس 2025
بينما بدأت الحياة تعود إلى بعض المناطق في مدينة بحري شمالي العاصمة السودانية بعد توقف الحرب فيها، برز شبح الجوع مهدداً مئات الآلاف من السكان، عقب توقف معظم المطابخ المجانية “التكايا” التي كانت بمثابة شريان حياة للمدنيين العالقين في مناطق الصراع المسلح في البلاد، وباتت العائلات في رحلة بحث مستمرة عن لقمة تسد الرمق.
ويأتي توقف التكايا في بحري نتيجة قرار أصدرته حكومة ولاية الخرطوم في منتصف مايو الماضي، يقضي بإلزام جميع الكيانات الطوعية بما في ذلك غرف الطوارئ والمبادرات المحلية التسجيل لدى مفوضية العون الإنساني، تحت مبرر تنظيم العمل الإغاثي وفق بيان صحفي وقتها، مما دفع جهات مانحة وقف تمويل المطابخ التي نشأت جميعها تحت ظروف الحرب.
وكان للقرار الحكومي أثر فوري ومباشر على مدينة بحري ومختلف أنحاء العاصمة السودانية، إذ تسبب في توقف الدعم عن مئات المطابخ الجماعية المجانية، التي كانت تقدم وجبات يومية لآلاف المدنيين في بحري، مما زاد معاناتهم في ظل ظروف الحرب القاسية.
وتستمر الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع لأكثر من عامين بتداعيات إنسانية كارثية، وبحسب برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، فإن أكثر من 24.6 مليون شخص في السودان يعانون انعدام الأمن الغذائي الحاد، في واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية التي يشهدها العالم اليوم.
واقع العودة
وبعد رحلة نزوح طويلة وقاسية استمرت لعامين في مدينة شندي بولاية نهر النيل شمالي السودان، عادت السيدة فاطمة وابنتيها إلى منزلها في ضاحية شمبات ببحري أملاً في مواصلة الحياة بعد استعادة الجيش السيطرة على المنطقة، لكنها اصطدمت بواقع قاس مع المعاش، فهي فقدت كل شيء خلال الحرب، وهي كذلك بلا معيل، فقد توفى زوجها.
تقول فاطمة في حديث لـ(عاين): “ليس لدينا مصدر رزق، قبل اندلاع الحرب كنت نعتمد على عائد إيجار منزلي الذي اضطررت إلى قسمه لنصفين، بعد عودتنا كنا نأكل من التكية، لكنها توقفت، وليس لدينا شيء حالياً غير مشاركة الجيران والأقارب طعامهم”.
ومع ذلك، فإن توقف التكايا يترك سؤال كيف ومن أين؟، يتردد في أركان منزل فاطمة الخاوي. وكانت منظمة اليونيسف أشارت في تقريرها لشهر مايو 2024، أن توقف نقاط التغذية المجتمعية أدى إلى انخفاض في مدخول الغذاء الأساسي للنساء بنسبة 18%.
وفي منطقة الحلفايا ببحري، عاد علي كركاب وهو مالك شركة نظافة، إلى منزله وأعاد تشغيل مطبخ مجاني كمبادرة فردية، تعتمد على التبرعات من الخيرين، وهي تعمل تحت مصاعب كبيرة، لكن صاحبها يدرك حجم المسؤولية وحاجة السكان للغذاء، مما يحتم عليه الاستمرار مهما كان مستوى العقبات التي يواجهها.
تسبب قرار الحصول على تصديق حكومي لعمل غرف الطوارئ في إيقاف الدعم عن معظم التكايا في بحري، مما أدى إلى تفاقم الوضع الإنساني
متطوع
وقال كركاب لـ(عاين): إن “تكيته على عكس الكثير، لم تتلقَ أي دعم من الحكومة أو المنظمات الإنسانية، وهو يعتمد كلياً على تبرعات متابعيه على وسائل التواصل الاجتماعي، ويلجأ إلى ميزانية شركته الخاصة لتغطية أي نقص. ويرى أن القرارات الأخيرة التي أثّرت في تكايا بحري وتسببت في توقف معظمها، كانت قرارات صعبة، لكنه يدعو المتطوعين إلى البحث عن حلول وبدائل تضمن استمرارية هذه المبادرات الحيوية كما يفعل هو حالياً”.
ويشير الاتحاد الدولي للصليب الأحمر والهلال الأحمر إلى أن أكثر من 17 مليون سوداني يعانون انعدام الأمن الغذائي، وأن شبكات التضامن المحلية مثل التكايا أصبحت تعوّض غياب شبكات الدعم الرسمية.
قرار غامض
أنس عبد الغفار، متطوع محلي يقول لـ(عاين)، “رغم عدم وجود قرار رسمي بوقف عمل التكايا، فإن إجراءات المفوضية الجديدة أدت إلى تعطيلها. طُلب منا شفهياً الحصول على أذونات من المحليات وموافقة من وزارة الرعاية الاجتماعية لإعادة تشغيلها”.
ويضيف: “هذه الإجراءات أدت إلى توقف الدعم الذي كان يصل إلى التكايا لأكثر من شهرين، مما جعلها تعتمد بشكل كامل على التبرعات الفردية من الأهالي، وهو دعم لا يفي بالاحتياجات المتزايدة. تسبب هذا الوضع في تدهور عمل العديد من التكايا، حيث توقف بعضها تماماً، فيما يعمل البعض الآخر بشكل متقطع للغاية، أحياناً ليوم واحد فقط في الأسبوع”.

وتابع: “هذا قرار غامض، إذ لم يصدر أي توضيح رسمي من أي جهة حكومية حول سبب توقف الدعم أو خفضه. هناك مشكلة أخرى تفاقم الوضع، وهي خفض برنامج الغذاء العالمي لدعمه، معلناً أنه سيعيد توجيه المساعدات عبر سلال غذائية مباشرة للمواطنين”.
ويشير المتطوع أن برنامج الأغذية العالمي لم يوف بتعهده الخاص بتوزيع سلال على المواطنين، فالمساعدات التي وصلت شحيحة جدا، ولا تكفي الحاجة، ويضيف: “هذه التعديل أدى فعلياً إلى تجويع الناس تحت ذريعة الإجراءات والسياسات، وكان من الأفضل استمرار دعم التكايا التي أثبتت فعّاليتها.
وتظهر الأرقام حجم هذا التحدي، إذ إن خطة الاستجابة الإنسانية في السودان (2025)، التي تشرف عليها الأمم المتحدة، قد رُصدت لتغطية احتياجات 17 مليون شخص، إلا أن نسبة التمويل لم تتجاوز 23% حتى نهاية يوليو، ما يُنذر بعجز هائل في تلبية الاحتياجات الأساسية للناس، وفي ظل هذا العجز الدولي يرى المتطوع أنس أن التبرعات الفردية، أصبحت المصدر الرئيسي لدعم التكايا، ما خلق مشكلة أخرى من عدم المساواة في توزيع المساعدات.
وتابع: “التكايا التي لديها علاقات بدعم خارجي تستمر في العمل، بينما تكافح الأخرى أو تتوقف، فهذه السياسات لا تراعي واقع الحياة في بحري. ففي ظل انعدام الطاقة (الكهرباء، الغاز، الوقود)، تعتبر التكايا هي الحل الأمثل، حيث توفر وجبة جاهزة للمواطنين دون الحاجة إلى الطهي، وهو ما يصعب على معظم الأسر القيام به”.
شريان حياة
ومع اندلاع الحرب توقف كل شيء في بحري التي كانت منطقة عمليات ساخنة مع كثافة في القصف الجوي والمدفعي، فشكلت غرفة طوارئ بحري في يوم 16 أبريل 2023م أي بعد يوم واحد من نشوب القتال بين الجيش وقوات الدعم السريع، لتشكل شريان حياة للسكان العالقين في المدنية، وفق ما يروي مسؤول العلاقات الخارجية في الغرفة جاد السيد لـ(عاين).
ويقول: “كان أول تدخل لهم هو إجلاء عائلات من منطقة حلة حمد المشتعلة إلى وسط المدينة الأكثر أمناً آنذاك. ومع كل يوم يمر، كانت الحاجة تتزايد، ومعها تتسع استجابة الغرفة. شكلنا فرق عمل متعددة: فريق للمكتب النسوي، وآخر طبي، وثالث لوجستي، كانت هذه المكاتب هي المحرك لكل ما تلا ذلك من أعمال إنسانية”.
لم يقتصر عملهم على الإجلاء، بل امتد ليلامس كل جوانب الحياة اليومية. وأوضح جاد السيد أن الغرفة تدعم أكثر من 105 تكية لتقديم الوجبات للمحتاجين، وتوزّع السلال الغذائية، وحتى المساعدات النقدية. في البداية، اعتمدوا على تبرعات أبناء بحري في الداخل والخارج، وبعض رجال الأعمال، ومع اتساع نطاق الأزمة، أصبحت المنظمات الدولية مثل برنامج الغذاء العالمي تدعم التكايا.
ويضيف: “الجانب الطبي كان تحدياً هائلاً، فالطوارئ ليست فقط الجوع، بل الأمراض وخصوصاً المزمنة التي لا يملك أصحابها حتى ترف الصبر على الألم فالموت مصيرهم المحتوم بدون أدوية، فالغرفة دعمت سبعة مراكز صحية وعشر صيدليات، ووفرت الأدوية الأساسية، وساهمت في صيانة الأجهزة الطبية”.
شرط التسجيل قرار سياسي، وتسبب في تراجع الدعم المالي للمطابخ المجانية بنسبة 95% مما أثر في المواطنين المستفيدين
متطوع
وتابع جاد السيد: “واجهت الغرفة عقبة كادت أن توقف مسيرتها، هذا القرار السياسي بمنع عمل المنظمات غير المسجلة، وعدم التمويل إلا عبر المفوضية، على نحو مفاجئ توقفت منح من ثلاث جهات داعمة رئيسية، وتراجع الدعم المالي الذي تعتمد عليه الغرفة بنسبة 95% جراء القرار الحكومي الخاطئ، فهو غير مفيد للدولة، ولم يقلل فقط من كمية المساعدات، بل أثر سلباً على معنويات المتطوعين والمستفيدين على حد سواء”.
ويؤكد أن تجربة غرفة طوارئ بحري تثبت أن الاستجابة المجتمعية هي أقوى أشكال الصمود، وتجسيد للروح السودانية في التكافل مثل “النفير”. إنها قصة عن قدرة المجتمع على أن يكون شريكاً في صناعة مصيره، وأن ينهض من رحم الكارثة ليصنع الأمل.

وذكر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية “أوتشا” أن الوصول الإنساني للمحتاجين قد تراجع بنسبة 35% في المناطق المتأثرة بالحرب؛ بسبب القيود البيروقراطية والأمنية”.
ومع توقف التكايا في بحري، تتجلى أزمة مركبة؛ فبعد أن واجه المواطنون حرباً استنزفت مواردهم، يواجهون الآن إجراءات إدارية تعرقل أبسط وسائل صمودهم، بينما تؤكد السلطات أن التقنين ضرورة لتنظيم العمل الإنساني، يرى متطوعون ومواطنون أن هذه السياسات أوقفت شريان حياتهم الأساسي؛ فالجوع، كما يردد سكان بحري، لا ينتظر ختم مسؤول أو توقيع مفوضية.