“بحـــري”.. مدينة تقاوم لعودة الحياة من بين الركام

عاين- 14 مايو 2025    

يكافح آلاف المواطنين العائدين إلى منازلهم في مدينة بحري شمالي العاصمة السودانية، من أجل صناعة الحياة بعدما دمرت الحرب كل شيء، بما في ذلك المنازل والمرافق الخدمية، مما خلف واقع صعب تنقصه الخدمات الأساسية مثل الكهرباء ومياه الشرب والمواد الغذائية، والرعاية الطبية.

وفي مقابل نقص الخدمات يواجه سكان بحري تفلتات أمنية كبيرة وعمليات نهب وسلب من قبل عناصر الجيش السوداني، بينما جرى نشر قوات الشرطة في المنطقة في مساعي من السلطات لحسم هذه المظاهر التي فاقمت معاناة السكان العائدين إلى منازلهم بعد رحلة نزوح طويلة استمرت لعامين، وفق ما يرويه مواطنون ومتطوعون لـ(عاين).

ومع انتشار الشرطة وإزالة نقاط التفتيش “الارتكازات” التي كانت في الأحياء السكنية بمدينة بحري، انخفضت وتيرة الانتهاكات، بينما يقف متطوعون في غرف الطوارئ على المطابخ المجانية “التكايا” التي ما تزال تمثل المصدر الأساسي لسكان المنطقة للحصول على الطعام.

كانت ضاحية شمبات في مدينة بحري الأفضل نسبياً من حيث الأوضاع الأمنية، وظل معظم سكانها في منازلهم طوال الفترة التي أعقبت اندلاع الحرب، ويقول أحمد عماد وهو مواطن من شمبات لـ(عاين):”هناك انتشار ملحوظ للشرطة وعودة تدريجية لعمل الأقسام الشرطية، وهذا يعطي بعض الإحساس بالأمان”.

المواطنون مترددون في العودة إلى مدينة بحري نتيجة غياب الخدمات الأساسية، ووجود تفلتات أمنية، وتصل نسبة العودة الطوعية 30% فقط حتى الآن

 مواطن

لكن هذه الصورة الأولية سرعان ما تتلاشى عند التعمق في تفاصيل الحياة اليومية للسكان العائدين إلى منازلهم في معظم أحياء مدينة بحري شمالي العاصمة السودانية، ابتداء فإن عودة الأهالي لا تزال بطيئة ومترددة، إذ لا تتجاوز نسبة العائدين حتى الآن 30% من العدد الفعلي لسكان المنطقة قبل اندلاع الحرب، وفق ما يؤكده عماد.

هذا التردد له ما يبرره، فتحديات جمة تواجه العائدين، أبرزها غياب الخدمات الأساسية، وفي مقدمتها المياه والكهرباء. فبينما عادت الحياة إلى بعض المظاهر التجارية بفتح تدريجي للمحال، لا يزال النقص حاداً في سلع أساسية كالأجبان واللحوم، وذلك بسبب الانقطاع المستمر للتيار الكهربائي في كل أنحاء بحري.

وفرة الخبز

الجيد في الأمر- بحسب المواطن أحمد عماد- هو وفرة الخبز في المنطقة حيث عادت 9 مخابز للعمل في ضاحيتي شمبات وحلة حمد، بينما لا تعوض وفرة الخبز الغياب شبه الكامل لمنتجات أخرى تعتمد على التبريد، مما يضع السكان أمام خيارات غذائية محدودة.

في المقابل، تبدو حركة المرور في مدينة بحري طبيعية إلى حد كبير، بعد إزالة الارتكازات العسكرية التي كانت تعيق تنقل السكان خلال فترة سيطرة قوات الدعم السريع، وانتشار شرطة المرور لتنظيم الحركة.

وفي فبراير الماضي، استعاد الجيش السوداني السيطرة على مدينة بحري شمالي العاصمة السودانية بعد أن ظلت نحو عامين في يد قوات الدعم السريع، مما مهد إلى عودة بعض المواطنين إلى منازلهم ليصطدموا بدمار واسع لحق بمدينتهم، بسبب المعارك الضارية التي شهدتها، ويتلمس هؤلاء المواطنون حالياً حياتهم تحت ركام الحرب.

ويجد غالبية السكان العائدين ملاذًا في “التكايا” أو المطابخ الخيرية التي تعمل باستمرار لتوفير وجبات الطعام، وهو ما يعكس حجم المعاناة التي يواجهها الأهالي في تأمين قوت يومهم.

المطابخ الجماعية مصدر الغذاء لمعظم سكان الخرطوم بحري

وفيما يتعلق بالأزمة التي تعيشها المنطقة مع مياه الشرب، يشير المواطن من شمبات أحمد عماد في حديثه لـ(عاين) إلى بعض المبادرات الخيرية، بحفر عدد من آبار المياه الجوفية في مختلف أنحاء مدينة بحري، وإلى جانب ذلك توجد ثلاث آبار عاملة في شمبات وبئر في الصافية، بالإضافة إلى آبار أخرى في حلة حمد والدناقلة، جميعها تمت بجهد شعبي لمواجهة العطش.

أزمات متلاحقة

في قطاع الصحة، يبدو أن هناك تحركًا لإعادة الحياة إلى المؤسسات العلاجية، حيث اُفْتُتِحَت مستشفيات بحري والصافية والشهيد علي عبد الفتاح بالدروشاب. لكن هذا التحسن النسبي في الخدمات العلاجية يقابله واقع مؤلم يواجه الأسر فيما يتعلق بتعليم أبنائهم، إذ يصف المواطن أحمد عماد ملف التعليم بأنه “تحدٍ حقيقي”.

ويضاف إلى هذه التحديات استمرار أزمة الكهرباء والدمار الهائل الذي لحق بالمنازل جراء القصف والاشتباكات، ليضع العائدين أمام مهمة شاقة لإعادة بناء حياتهم في مدينة لا تزال ترزح تحت وطأة آثار الحرب.

وتطابقت شهادة عضو غرف طوارئ شمال بحري، عصام محمد مع المواطن أحمد عماد حول وجود تحسن نسبي في خدمات المياه والكهرباء بعد دخول الجيش، مقارنة بالوضع الكارثي الذي كان سائداً تحت سيطرة قوات الدعم السريع. ويشير إلى انخفاض ملحوظ في أسعار السلع الاستهلاكية بعد استقرار الأوضاع الأمنية نسبياً.

دمار كبير طال قطاع الكهرباء

ويؤكد عصام في مقابلة مع (عاين) أن توفر المياه في شمال بحري أفضل حالاً، رغم الانقطاعات المتكررة للتيار الكهربائي، وأن الأسواق تشهد وفرة في المواد التموينية والغذائية، مع استمرار عملها طوال اليوم بفضل الشعور النسبي بالأمان.

ما يزال المواطنون في مدينة بحري يتعرضون لانتهاكات واسعة من قبل الجيش وكتائب البراء بن مالك المتحالف معه، حيث يحتجزون المدنيين، ويسرقون المنازل

متطوع في غرفة طوارئ

ويشير إلى استمرار مشكلة الكهرباء في بعض الأحياء مثل دردوق، في الوقت الذي يعمل فيه التيار الكهربائي بشكل متذبذب في بعض المناطق بمدينة بحري شمالي العاصمة السودانية.

أما حركة التنقل، فقد عادت إلى طبيعتها تدريجيًا، بعد أن كان الجيش يفرض في بداية سيطرته قيودًا وتصاريح للحركة ونقل الأثاث. ويشير عصام محمد إلى أن الارتكازات الأمنية أصبحت أقل بكثير مما كانت عليه في الأيام الأولى لسيطرة القوات المسلحة على المنطقة.

انتهاكات ضد المواطنين

يؤكد عضو غرفة طوارئ بحري عصام محمد لـ(عاين) وقوع بعض الانتهاكات والمضايقات للمواطنين عند دخول الجيش، بالإضافة إلى حالات سرقة للمنازل نفذتها مجموعات تابعة للجيش في وضح النهار، وقد تراجعت هذه الممارسات قليلا، ولم تختف كلياً.

ويشدد على أن الانتهاكات قلت في شمال بحري، لكنه يلفت إلى أن غرف الطوارئ في جنوب ووسط بحري لا تزال تسجل حالات انتهاكات، سواء من الجيش، أو من كتائب البراء بن مالك، وإن كانت غير موثقة بدقة، مشيرًا إلى وجود حالات اختفاء كبيرة. ويشير إلى أن الانتهاكات كانت أوسع وأكبر خلال فترة سيطرة قوات الدعم السريع.

من جهته، يقدم عضو غرفة طوارئ بحري، محمد عثمان (اسم مستعار لحساسية موقعه)، صورة أكثر تفصيلاً لواقع العائدين وتحدياتهم. يقول عثمان لـ(عاين) بعد سيطرة الجيش، حدثت عودة طوعية للمواطنين، خاصة في وسط وجنوب بحري، لأنهم كانوا الأكثر تضرراً من الحرب”. ويشير إلى أن المناطق التي كانت تحت سيطرة قوات الدعم السريع شهدت نزوحًا كاملاً لسكانها الذين توزعوا بين شمال بحري وولايات أخرى.

ويوضح أن شمال بحري تأثر بشكل محدود في منطقة الحلفايا التي كانت تحت سيطرة قوات الدعم السريع، ونزح سكانها إلى مناطق أخرى في الشمال، بالإضافة إلى لجوء البعض إلى معسكرات النزوح وولايات أخرى وحتى خارج السودان. ويؤكد أن أغلب العائدين هم من كانوا في معسكرات النزوح داخل ولاية الخرطوم، ومن سكان شمال بحري، بينما لا تزال عودة من كانوا خارج السودان محدودة للغاية.

ويواجه العائدون بحسب المتطوع محمد عثمان تحديات جمة في الخدمات، وعلى رأسها مياه الشرب، ويكشف عن تعرض محطة مياه بحري لتخريب كبير، مما اضطر السكان للعودة إلى الآبار كمصدر بديل للمياه. ورغم عودة عدد من الآبار للعمل، إلا أنها تعاني مشكلة انقطاع التيار الكهربائي.

يمثل استقرار الاتصالات بارقة أمل للسكان في مدينة بحري، إذ يتمكنون من التواصل مع أقاربهم في الخارج

متطوع

ويشير إلى جهود غرفة طوارئ بحري لتخصيص جزء من التمويل لشراء وقود لتشغيل الآبار في بعض الأحياء، لكن الكميات تظل غير كافية. كما أثنى على مبادرات فردية من أهالي بحري بحفر آبار جديدة في عدة أحياء، بالإضافة إلى جهود جلب المياه عبر “تناكر” لبعض الأحياء والمطابخ.

أزمة حادة في مياه الشرب

ورغم هذه الجهود الذاتية، يحذر محمد عثمان من أن الاعتماد على الآبار ليس حلاً مثاليًا، مشيرًا إلى ظهور مشكلات في بعض الآبار أدت إلى أمراض وتسمم بعد اكتشاف عدم صلاحيتها للشرب.

عودة الاتصالات

مع تدهور كافة الخدمات الأساسية من انقطاع في الكهرباء ونقص مياه الشرب والغذاء، فإن أكثر ما يؤرق السكان العائدين إلى مدينة بحري هو الاعتداء من قبل عناصر في الجيش وكتائب البراء بن مالك المتحالفة مع القوات المسلحة، حيث تتم عمليات قبض عشوائية للمواطنين، ومضايقتهم في الطرقات وداخل الأحياء السكنية، وسرقة المنازل، وفق ما نقله متطوع لـ(عاين).

وبحسب المتطوع، فإن الوضع الصحي كارثي في بحري، حيث تنتشر الحميات مثل حمى الضنك والملاريا، في ظل نقص الرعاية الطبية، كما تغيب السلطات الحكومية بشكل كامل عن المشهد.

ويؤكد المتطوع أن “كل ما يحدث من خدمات في بحري هو بجهود غرف الطوارئ بالتعاون مع برنامج الغذاء العالمي، فهما أكثر جهتين خدمتا إنسان بحري، دون أي مجهودات تذكر من الحكومة”. ويضيف: “الحكومة لا حيلة لها، وتعتمد على غرف الطوارئ لمساعدة المواطنين”.

أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *