معالم السودان الأثرية إلى زوال أمام آلة الحرب
عاين- 26 يناير 2024
قبل أن تغمره مياه السد العالي في ستينات القرن الماضي، نجحت اليونسكو في إنقاذ معبد بوهين الذي يعود إلى عام 1200 قبل الميلاد، من الغرق، غير أن القذائف المتبادلة في الحرب الدائرة بالسودان الآن خلفت أضرارا وحريقا بسقف الهيكل الحديدي المحيط بالمعبد، الموجود في حديقة متحف السودان القومي بالخرطوم العاصمة، والذي يعد أكثر المتاحف الواقعة في مرمى نيران المعارك.
ومع التساقط اليومي للضحايا المدنيين العزل، تعاني كذلك المواقع الأثرية بالسودان عقب اندلاع حرب 15 أبريل الفائت بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، من استهداف عسكري حيث أصبح معظمها في بؤرة الصراع الذي دخل شهره العاشر.
قصف وحرائق
بعد مرور شهر على حرب الخرطوم، أظهرت صور للأقمار الصناعية لمعمل رصد التراث الثقافي لجامعة ميرلاند، بعض الأضرار التي لحقت بمتحف السودان القومي الذي يضم أكثر من 100 ألف قطعة أثرية يعود تاريخها إلى آلاف السنين.
وتسبب القصف في ظهور حريق في اثنين من المعابد المعروضة بحديقة المتحف حيث أصيب سقف الهيكل الحديدي المحيط بمعبدي بوهين وعكشا.
وفي الثاني من يونيو الفائت، اقتحم أفراد من قوات الدعم السريع، معمل البايولوجي بالهيئة العامة للآثار والمتاحف بشارع الجامعة بالخرطوم، وشرعوا في فتح صناديق تحتوي على هياكل عظمية معدة للدراسة؛ مما تسبب في تهشيمها وتلفها، كما أظهرت الصور هذه القوات، وهي تنتشر بحديقة المتحف ومباني الهيئة، وأبلغ أحد العاملين بالآثار والمتاحف، يسكن بجزيرة توتي، برصد بعض القناصة بسقف المتحف.
مسؤولة حكومية: متحف السودان القومي معرض لخطر التكسير والسرقة والتخريب، بعد ظهور عصابات النهب بصورة كثيفة في العاصمة وهو ما يؤدي إلى انتشار ومهربي الآثار عبر الحدود
وُجود هذه القوات بمكانها الحالي، يدفع الأمين العام لهيئة الآثار والمتاحف غالية جار النبي، للقول في مقابلة مع (عاين): “أن الحال الآن يجعل متحف السودان القومي معرضاً لخطر التكسير والسرقة والتخريب، خاصة بعد ظهور عصابات النهب بصورة كثيفة في العاصمة وهو ما يؤدي إلى انتشار مهربي الآثار عبر الحدود”.
في وقت، أعربت كبير مفتشي الهيئة العامة للآثار والمتاحف، حباب إدريس، عن قلقها، لوقوع معظم المواقع الأثرية بالعاصمة في مناطق الاشتباكات كالمباني التاريخية من جامعة الخرطوم، ومتحف التراث، ومتحف التاريخ الطبيعي التابع لجامعة الخرطوم، ودار الوثائق، والقصر الجمهوري القديم.
هيئة الآثار: كل هذه المواقع لا نعلم للأسف ما حدث فيها بالضبط، لصعوبة الوصول إليها.
وقالت لـ(عاين): “للأسف كل هذه المواقع لا نعلم ما حدث فيها بالضبط، لصعوبة الوصول إليها”.
ولم تقتصر آثار التدمير على الخرطوم فقط، فقد تعرض مقر المديرية أو ما يسمى بمبنى “جراب الفول” نسبة (لمحمد سعيد باشا جراب الفول) وهو مبنى أثري من فترة التركية تم بناؤه عام 1883، وهو يجاور مبنى متحف شيكان بمدينة الأبيض عاصمة ولاية شمال كردفان.
وأنشئ متحف شيكان عام 1965 تخليدا لذكرى معركة شيكان، وهو الثالث بعد متحف السودان القومي ومتحف البركل، ويضم مقتنيات تمثل كل الحقب التاريخية بالسودان من أقدم العصور الحجرية وحتى دخول الإسلام بالإضافة لمقتنيات من فترة التركية والمهدية كذلك يضم مقتنيات من تراث ولايات كردفان الغني والمتنوع.
وبعد تمدد القتال إلى مدينة الأبيض أصبح وضع المتحف في غاية الخطورة، لقربه من مقر حكومة الولاية والإذاعة بجانب أن المنطقة كلها حول المتحف مطوقة بالقوات العسكرية.
أضرار
تقرير منظمة CHML (رصد التراث الثقافي وفقدانه) وثق، في أواخر أبريل، تعرض متحف التاريخ الطبيعي الذي أنشي عام 1929م والواقع في مناطق سيطرة الجيش، لأضرار كبيرة.
ويضم المتحف، وهو جزء من جامعة الخرطوم، مجموعة من النباتات النادرة وعينات من الأنواع المنقرضة في السودان، بالإضافة إلى الحيوانات والحشرات الحية، والتي تصل إلى نحو 100 عينة، فقدت جميعها وتعرض المبنى نفسه لأضرار بالغة.
ويساور هيئة الآثار والمتاحف، القلق بشأن المحافظة على عدد من المواقع التاريخية في ولايات السودان المختلفة، والتي من المتوقع أن يطالها التدمير.
هيئة الآثار والمتاحف لا تستبعد تأثر غير مباشر على المواقع الأثرية في غرب السودان، كمتحف الجنينة والسلطان علي دينار بالفاشر، وشيكان بالأبيض.
ولا تستبعد كبير مفتشي الهيئة العامة للآثار والمتاحف، حباب إدريس، حدوث تأثير غير مباشر على المواقع الأثرية بالولايات، في غرب السودان متحف الجنينة والفاشر، والسلطان علي دينار وشيكان بالأبيض، لكونها واقعة في محيط المناطق العسكرية؛ ومن ثم تأثر بعضها، بينما تعرض متحفي الأبيض وشيكان والجنينة للسرقة.
وتوقعت تقرير لهيئة الآثار عن وضع المواقع الأثرية بعد نشوب الصراع تحصلت (عاين) على نسخة منه، حدوث أضرار في متحف بيت الخليفة بأم درمان_ تم افتتاحه بمنزل بيت الخليفة في العام 1928م.
ويعد المبنى الذي يعود إلى تاريخ 1878م، قطعة أثرية يعرض مقتنيات من فترتي التركية والمهدية ومقتنيات خاصة بالإمام المهدي، ويقع المتحف في منطقة النزاع المسلح بالقرب من مبنى الإذاعة والتلفزيون، وهذه المناطق الآن تحت سيطرة قوات الدعم السريع، والتي توجَد حاليا بإحدى غرف المتحف “غرفة الملازمين”. كما ذكر التقرير، فإن الخطورة بهذا الموقف ليس على المقتنيات فقط، بل إن المبنى التاريخي للمتحف يتكون من مواد بناء ضعيفة سهلة الانهيار.
وأشار التقرير كذلك، إلى افتقار متحف الجزيرة بمدينة ودمدني، للنواحي التأمينية (كاميرات مراقبة وأنظمة إنذار حريق)، يجعله هو الآخر عرضة لسرقة مقتنياته وتخريبه في غياب حراسة الشرطة.
سرقات ونبش مقابر أثرية
يتحدث خبراء الآثار عن انتهاكات كبيرة في مواقع بولايتي نهر النيل والشمالية، تشمل السطو وزيادة البناء العشوائي من خلال التمدد العمراني والزراعة، وتشويه ونبش المقابر الأثرية، فيما تحولت بعض المناطق الأثرية إلى ساحة اشتباكات بين الجيش والدعم السريع كما حدث في ولاية نهر النيل بعد تسلل الدعم السريع إلى موقع النقعة والمصورات الأثري المدرج ضمن قائمة التراث العالمي، حيث نشرت مقاطع فيديو لعناصر من هذه القوات تتجول داخل المدينة الملكية، قبل أن تشتبك مع الجيش بعد مغادرتها موقع النقعة والمصورات.
هيئة الآثار تكشف عن نبش مجهولين أكثر من 50 مقبرة بجزيرة صاي شمال السودان والتي تذخر بالعديد من المواقع الأثرية، وتعود إلى فترات تاريخية مختلفة منذ العصور الحجرية القديمة إلى الفترة الإسلامية
وتمكن مجهولون من نبش أكثر من 50 مقبرة بجزيرة صاي شمال السودان التي تذخر بالعديد من المواقع الأثرية، تعود إلى فترات تاريخية مختلفة منذ العصور الحجرية القديمة إلى الفترة الإسلامية، متمثلة في العمائر بمختلف أنواعها الدينية، المدنية والجنائزية، كما تزداد المخاوف على متحف مروي لاند بالولاية الشمالية لوجوده في منطقة عسكرية فضلا عن حالة السيولة الأمنية. وفقا للمدير العام لهيئة الآثار غالية جار النبي.
تهديد
مسؤول الآثار بولاية نهر النيل، محمود سليمان، اعتبر في مقابلة مع (عاين) التهديد الذي يواجه المواقع الكبيرة لفترة ما بعد الحرب يتمثل في حركة النزوح من الخرطوم، حيث ارتفعت نسبة التعداد السكاني حول المناطق الأثرية؛ مما ساهم في دمار بعض المواقع من خلال التوسع العمراني والزراعي في ظل العدد القليل للخفراء وأفراد شرطة السياحة.
وبعد اندلاع الحرب شرعت السلطات المختصة بالولاية في تقييم آثار الحرب على المواقع خاصة المسجلة في قائمة التراث العالمي، (النقعة والمصورات وأهرامات البجراوية والمدينة الملكية) كما تم التواصل مع منظمات عالمية داعمة للأعمال الأثرية في السودان كجزء من الاحتياطات اللازمة- وفقا لحديث مسؤول الآثار بنهر النيل.
وكشف سليمان، عن استقبال عشرة بلاغات من مناطق مختلفة في ولاية نهر النيل، وردت إلى المكتب تأكد العثور على آثار في أثناء عمليات بناء المنازل أو استصلاح الزراعة، وكشف عن محاولات لإنقاذ هذه القطع والقيام بعمليات حفر إنقاذية.
مخاوف من خروج المواقع السودانية من قائمة التراث العالمي في حالة تعرضها للتدمير
وأشار محمود، إلى أنهم بصدد تنفيذ زيارة تفقدية لموقع النقعة تمهيدا لإعداد تقرير لتقييم الوضع الحالي وما فيه من بقايا معمارية فريدة.
إلا أن كبير مفتشي الهيئة حباب إدريس، تتخوف من خروج المواقع السودانية من قائمة التراث العالمي في حالة تعرضها للتدمير.
وتشير إدريس، إلى المواقع المعرضة للخطر هي “إقليم نبتة يقع بالولاية الشمالية تم تسجيلها في العام 2003، ويضم (جبل البركل، نوري، الكرو والزومة)، مواقع إقليم مروي وتضم (النقعة، المصورات وأهرامات البجراوية) تم تسجيلها 2011م.