النهود.. مدينة يخنقها الحصار وصراع النفوذ يهدد بانفجارها

عاين- 30 ديسمبر 2024

في الجزء الشمالي الغربي من ولاية غرب كردفان، تقف مدينة النهود صامدة في مواجهة الحرب لتشكل البقعة الآمنة الوحيدة في المنطقة، فما يزال الجيش يحتفظ بالسيطرة عليها، في الوقت الذي تساقطت فيه المدن والقرى في يد قوات الدعم السريع، بما في ذلك عاصمة الولاية الفولة، الأمر الذي جعلها وجهة إلى آلاف المواطنين الذين وصلوها بحثاً عن الأمن.

وبعد مضي نحو 20 شهراً من اندلاع الحرب، ارتفعت وتيرة الصراع السياسي في مدينة النهود التي ما تزال تحتفظ بكل مؤسسات الدولة، كما انتقلت إليها رئاسة ولاية غرب كردفان عقب سقوط مدينة الفولة في يد قوات الدعم السريع في يونيو الماضي، في ظل انتشار الجماعات المسلحة المساندة للجيش، والتي دائما ما تثير الرعب في المدينة، وهو ما زاد المخاوف من انفجار للأوضاع من الداخل، وكسر صمود المنطقة.

وتشهد المدينة اكتظاظاً سكانياً شديداً بمعدل يفوق طاقتها الاستيعابية بسبب نزوح آلاف المواطنين من المناطق المضطربة في ولاية غرب كردفان، وإقليم دارفور، مع ضعف انسياب البضائع والمواد الغذائية بسبب المسارات والحصار، ارتفعت الأسعار بشكل كبير، الأمر الذي أدى إلى تفاقم الوضع الإنساني بالمدنية.

لكن النهود تقاوم استنادا إلى إرث سياسي وثقافي واقتصادي، فالمدينة تضم أكبر بورصة للصمغ العربي الجيد الذي يتم إنتاجه من أشجار الهشاب في المنطقة، إلى جانب المحصولات الأخرى مثل الكركدي والفول وبذور البطيخ، والثروة الحيوانية لا سيما “الضأن الحمري”، فضلاً عن عدة مصانع للزيوت وغيرها.

وللنهود أدوار ثقافية وإسهامات فكرية وأدبية كبيرة، حيث تأسس بها أول نادٍ ثقافي ورياضي بالسودان، هو نادي السلام، والذي تأسس في العام 1917م، ليأتي بعده نادي الخريجين بأم درمان في العام 1918م.

والمدينة التي تضم رئاسة اللواء 81 مشاة، هي واحدة من أربع مناطق ما تزال تحت سيطرة الجيش في ولاية غرب كردفان، إلى جانبها حقل هجيلج النفطي، ومدينة لقاوة، والفرقة 22 بابنوسة، وكان سكانها يطالبون بأن تكون هي عاصمة الولاية بدلا عن الفولة، كما ظهرت مطالب في وقت سابق باستحداث ولاية وسط كردفان وعاصمتها النهود، وظلت متجولة في التبعية الإدارية بين ولايتي شمال وغرب كردفان خلال الفترة التي أعقبت توقيع اتفاقية نيفاشا للسلام في السودان، واستقرت مع ولاية غرب كردفان بعد استقلال دولة جنوب السودان.

وفي الوقت الراهن لم تشهد النهود حصاراً من قوات الدعم السريع فحسب، كما يقول الصحفي المقيم بالمدينة حمد سليمان، لكنها محاصرة أيضا بالمشكلات الداخلية، وصراع السلطة والنفوذ الذي كاد أن يفتك بالتعايش السلمي المعروف منذ عقود بعيدة.

مخاوف من أن يتحول الصراع على السلطة والنفوذ بالمدينة إلى صراع مسلح بين مكونات المجتمع

يقول سليمان لـ(عاين)، إنه يخشى أن يتحول الصراع على السلطة والنفوذ بالمدينة إلى صراع مسلح بين مكونات المجتمع، مع الانتشار الكبير للسلاح، وتكوين أعداد من الجماعات المسلحة، والتي صار لها نفوذ أكبر من نفوذ الدولة، وهو ما وضح مؤخراً عندما رفضت مجموعة مسلحة تعيين أمين عام للحكومة بديلاً للأمين العام الموجود في تحدٍ واضح، لكن تدخل أمير عموم قبائل حمر، الناظر عبد القادر منعم منصور وحسم القضية، وتُسُلِّم الأمين العام الجديد لمهامه.

ويضيف:”التأثير الأكبر على معاش الناس بالمدينة بدأت ملامحه بسبب إغلاق الطريق الرابط بين الأبيض النهود في بدايات الحرب، وزيادة حدة الاشتباكات، مما زاد صعوبة إيصال البضائع والمواد التموينية، حيث تتعرض للجبايات العالية من قبل القوات المسيطرة على الطريق، أو للنهب للمجموعات التي تقول إنها تدافع عن أراضيها ضد التمرد، مما يتيح لها فرصة أخذ مقابل من جميع العابرين بتلك الطرق، مقابل الحماية، وتسهيل المرور، أو تصفية الرافضين لإطاعة الأمر”.

وتعيش المدينة منذ أشهر طويلة حالة من الحصار والخوف والترقب من مصير مجهول، وقوات الدعم السريع تهدد بدخولها، مع حصارها من جميع الاتجاهات، الأمر الذي عقد الحياة بصورة كبيرة، خاصة في ما يتعلق بالمواد التموينية والعلاج، وخدمات المياه والكهرباء والاتصالات، بجانب ارتفاع غير مسبوق في الأسعار، وندرة الكثير من السلع.

ضائقة ويأس

وتروي إحسان علي، اسم مستعار لسيدة من النهود تحدثت مع (عاين)، أن غلاء الأسعار وما سببه من ضائقة معيشية جعل مواطني المدنية في حالة من اليأس، فالوضع وصل إلى مرحلة من الصعب التعايش معه.

بينما أبلغ أحد التجار (عاين)، أنه نتيجة لصعوبة الوضع، يخطط حالياً لنقل نشاطه التجاري إلى خارج البلاد نسبة؛ لأن السودان كبلد لا يصلح للعيش في الوقت الراهن في ظل انعدام الخدمات، وانتشار الفوضى والسلاح، والقتل خارج نطاق القانون مع تعدد المليشيات التي تسير في كيفية تكوينها على خطى الدعم السريع نفسه، والدعم السريع بات على مشارف مدينة النهود.

جانب من سوق النعام بولاية غرب كردفان على حدود دولتي السودان وجنوب السودان

يكشف تاجر آخر في النهود – فضل حجب هويته- عن وصول سعر شوال البصل إلى مبلغ 350 ألف جنيه، وجوال السكر ارتفع إلى مبلغ 280 ألف جنيه في فترة الخريف، مع صعوبة الطرق، لكنها شهدت في اليومين الماضيين انخفاضا كبيرا؛ بسبب عدة عوامل من بينها فتح طريق النهود – الدبة، والذي كان المرور عبره خلال فترة الخريف صعباً.

ويقول لـ(عاين) إن “الحرب أدت إلى ارتفاع غير مسبوق للأسعار، حتى أصبحت العملة السودانية مجرد ورق، وكل ذلك يتحمله الجنرالان المتنافسان على السلطة”.

توقفت عمليات تصدير المحصولات الزراعية مثل الفول السوداني والكركدي وبذور البطيخ وغيرها

أوضاع قاسية لم تستطع نفيسة محمد وهي سيدة من النهود تحملها، وتقول لـ(عاين): “عانينا طيلة الفترة الماضية، خاصة في فصل الخريف، بعد السيول التي هدمت المنازل، كعادتها في كل عام، وانعدام المأكل وصعوبة المشرب مع انقطاع الكهرباء، وصعوبة الحصول على العلاج، لكن رغم كل تلك الظروف، انقضى الخريف، وخرجت خيرات الأرض التي خففت علينا فثمنها في المتناول”.

أزمات متلاحقة

وتسببت الحرب في ضربة اقتصادية كبيرة لمدينة النهود، إذ توقفت عمليات تصدير المحصولات الزراعية مثل الفول السوداني، والكركدي وبذور البطيخ وغيرها نتيجة لقرار أصدرته قوات الدعم السريع بمنع تصدير المنتجات من مناطق سيطرتها إلى المدن التي يسيطر عليها الجيش، وإلى دولة مصر.

جانب من سوق مدينة النهود، الصورة مواقع التواصل الاجتماعي

ويقول حسام علي السعيد وهو أحد مصدري المحصولات في النهود لـ(عاين): إن “منع التصدير أحدث حالة من الارتباك وتكدس المحاصيل، بالرغم من الطريق إلى الدبة نفسه قبل قرار المنع، كانت الشاحنة الواحدة تكلف ما يقارب الـ (12) مليونا من الجنيهات، ما يقارب 4 آلاف دولار تدفع لقطاع الطرق ونقاط التفتيش التي تقيمها قوات الدعم السريع، لذلك فإن عملية التصدير أصبحت مهمة عسيرة، في ظل ندرة السيولة، وتخوف المشترين في الدبة من إرسال أموالهم قبل استلام البضائع، لأن الطرق غير مأمونة”.

النهود من فوضى أمنية جراء انتشار الجماعات المسلحة المساندة للجيش وإقامتها نقاط تفتيش لتحصيل الجبايات من المواطنين

ومع الضائقة المعيشية، تعاني النهود من فوضى أمنية جراء انتشار الجماعات المسلحة المساندة للجيش، حيث تشهد عملية ضرب نيران عشوائي، وإقامة نقاط تفتيش لتحصيل الجبايات من المواطنين، وفرض رسوم على التجار بذريعة أنهم يبسطون الأمن والحماية، بينما صار السلاح يباع علنا في أسواق المدينة، مما أثر في حياة المدنيين وجعلهم لا يشعرون بالأمان، وذلك بحسب ما نقله شهود لـ”عاين”.

وإلى جانب كل ذلك، أطلت أزمة التعليم برأسها على مدينة النهود في أعقاب الإلغاء المفاجئ لإقامة امتحانات الشهادة الثانوية في المدينة، مما زاد آلام الطلاب وأسرهم.

ورغم سيطرة الجيش على النهود، تغيب امتحانات الشهادة الثانوية التي انطلقت السبت الماضي، عن المدينة، وبحسب مصدر في إدارة التعليم بمحلية النهود تحدث لـ(عاين)، فإن نحو 15 الف طالب وطالبة سجلوا للجلوس لامتحانات الشهادة الثانوية المؤجلة، قدم بعضهم من خارج ولاية غرب كردفان، وأُلْغِيَت إقامتها بقرار من الحكومة المركزية في بورتسودان، نتيجة تداعيات وتحوطات أمنية، وفق ما ذكره الأمين العام لحكومة غرب ولاية غرب كردفان في مؤتمر صحفي.

أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *