“هدنة إنسانية”.. كيف يبدو الطريق إلى جوعى الفاشر؟ 

عاين- 30 يونيو 2025  

تقف أميرة عبد النبي في صف طويل يضم مئات النساء أمام قِدرة مليئة بالبلية العدسية في أحد الأحياء السكنية في مدينة الفاشر بولاية شمال دارفور غربي السودان، وذلك للحصول على حصة مجانية توزع مرة واحدة في اليوم.

لم يعد أمام أميرة أي خيار للحصول على الطعام في الفاشر غير مطبخ مجاني يقاوم في سبيل الاستمرار، إذ انعدمت معظم السلع الغذائية من الأسواق، بينما بلغت أسعار المتوفر منها مستوى قياسياً من الغلاء لا يستطيع شخص عادي شراءها، في واقع يجسد لكارثة إنسانية في المدينة التي تحاصرها قوات الدعم السريع منذ عام في محاولة للسيطرة عليها، وهي آخر معاقل الجيش في إقليم دارفور.

ومع تفاقم الكارثة، دفعت الأمم المتحدة بمقترح لهدنة إنسانية في مدينة الفاشر لمدة أسبوع بغرض وصول الإغاثة للمدنيين، وأحيا مقترح التهدئة أمل أميرة عبد النبي في وصول الغذاء والبقاء على قيد الحياة، بعدما تملكها اليأس نظراً للواقع المظلم الذي تعيشه، وذلك وفق تقوله لـ(عاين).

آمال أميرة وآلاف المدنيين العالقين في الفاشر في الحصول على الطعام، رهين موافقة طرفي الحرب، وأبدى رئيس مجلس السيادة، قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان موافقته على هدنة إنسانية في مدينة الفاشر لمدة أسبوع لإيصال الإغاثة، وذلك خلال اتصال هاتفي مع الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش يوم الجمعة الماضي.

موقف غامض

في المقابل، يكتنف الغموض موقف قوات الدعم السريع تجاه المقترح الأممي لهدنة إنسانية في الفاشر، فلم تصدر بيان رسمي حتى الآن، لكن عدد من مستشاري قائدها محمد حمدان “حميدتي” صرحوا بصورة ينضوي عليها رفض مبطن للهدنة، وذكر محمد مختار النور في تصريح لصحيفة الشرق الأوسط، أن قواته لم تبلغ رسمياً من الأمم المتحدة، بطلب هدنة إنسانية في الفاشر، وأن قواته لن تقبل أي هدنة لوقف إطلاق النار في الفاشر لأن المدينة أصبحت خالية من المدنيين الذين نزحوا إلى طويلة وكورما، حسب زعمه.

موافقة الجيش على هدنة إنسانية في الفاشر تحركه دوافع عسكرية ميدانية بحتة، بعد تدهور أوضاع قواته في المدينة، فالمعالجة الجادة للمأساة الإنسانية تتطلب حوارا شفافا وشاملا لتأمين المدنيين

 مسؤول بالدعم السريع

وقال عضو المكتب الاستشاري لقائد قوات الدعم السريع، إبراهيم مخير لـ(عاين): “إعلان سلطة الأمر الواقع في بورتسودان الموافقة على هدنة إنسانية لمدة سبعة أيام في مدينة الفاشر، تحرّكه دوافع عسكرية ميدانية بحتة، بعد تدهور أوضاع القوات التابعة لهم داخل المدينة، حيث وردتنا شهادات موثوقة تُفيد باستغلال المدنيين لتوفير احتياجات هذه القوات”.

وتابع: “نؤكد مجددًا أن موقفنا من الملف الإنساني موقف مبدئي وثابت ومستمر، فقد أعلنا مرارًا وتكرارا وأثبتنا بيانا بالعمل عن استعدادنا الكامل للتعاون مع الأمم المتحدة والمنظمات الدولية لضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى جميع المحتاجين دون تمييز أو عراقيل، بل وتأمين خروج المواطنين من مناطق الحروب كما حدث لمواطنين الفاشر أخيراً”.

وأردف: “نؤمن بأن المعالجة الجادة للمأساة الإنسانية في السودان تتطلب حواراً شفافًا وشاملاً حول تأمين المدنيين وفتح الممرات الإنسانية ولذا حضرنا إلى جنيف بينما رفض الجيش، ونؤكد أننا منفتحون على أي جهود جادة تصب في مصلحة الإنسان السوداني دون أجندات سياسية أو عسكرية”.

ضغط أممي

تباين مواقف طرفي الحرب في السودان يجعل الهدنة الإنسانية على المحك، لأن نجاحها يتطلب موافقة جميع أطراف الصراع لضمان سلامة عمال الإغاثة، حيث قُتل العديد من العاملين الإنسانيين في البلاد، وفق خبراء العمل الإنساني.

نازحو الفاشر بمناطق سيطرة (عبد الواحد محمد نور)..

والجمعة الماضية، أعلن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش خلال تصريحات صحفية عن اتصالات يجريها مع الأطراف المتحاربة في السودان بغية تأمين هدنة إنسانية تُمكّن من معالجة الوضع المأساوي في مدينة الفاشر، بولاية شمال دارفور.

وسُئل غوتيرش عما إذا كان قد تحدث مع قوات الدعم السريع، حيث أوضح أن الاتصال بالجانبين يهدف بالأساس إلى تحقيق هذه الهدنة، مشدداً على ضرورة تأمين هدنة لتوزيع المساعدات، وأن يُتَّفَق عليها مسبقا بهدف “إعداد عملية توصيل ضخمة للمساعدات” في الفاشر.

وانتقلت المواجهات المسلحة بين الجيش وقوات الدعم السريع إلى الفاشر في أبريل من العام 2024م، ومنذ ذلك الحين تعيش المدينة وسكانها تحت القصف والحصار الشديد من قوات الدعم السريع التي تسعى للسيطرة على المدينة وهي آخر معاقل الجيش في إقليم دارفور، الشيء الذي أدى إلى كارثة إنسانية في البلدة.

وطوال الفترة الماضية، ظلت الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي والفاعلين الدوليين، إلى التهدئة في الفاشر، لكن هذه هي المرة الأولى التي يُطرح فيها مقترح لهدنة إنسانية لفترة زمنية محددة في عاصمة ولاية شمال دارفور.

وفي مطلع يونيو الحالي، جرت أول محاولة لإدخال مساعدات إنسانية إلى الفاشر عبر قافلة سيرتها منظمتي برنامج الأغذية العالمي، واليونيسف التابعتين للأمم المتحدة، لكنها تعرضت إلى قصف جوي في منطقة الكومة بولاية شمال دارفور، مما أدى إلى مقتل 6 من العاملين في المجال الإنساني، وتبادل الجيش وقوات الدعم السريع الاتهامات بشأن التورط في استهداف القافلة.

مآسي بالأرقام

ويقول المتطوع في تقديم الطعام المجاني في الفاشر محمد الرفاعي لـ(عاين): إن مقترح الهدنة الإنسانية الذي طرحته الأمم المتحدة يمثل مفتاح أمل جديد لسكان الفاشر بعد ما تملكهم اليأس والإحباط عقب قصف القافلة الإغاثية الأخيرة في منطقة الكومة، فلا سبيل غير نجاحها؛ لأن الوضع الإنساني في المدينة لا يحتمل مزيداً من الانتظار.

مقترح الهدنة يمثل مفتاح أمل جديد لسكان الفاشر، وفشلها يهدد حياة أكثر من مليون مواطن ما زالوا عالقين في المدينة

 متطوع من الفاشر

“لقد اعتاد سكان الفاشر على القصف العشوائي والذخائر الطائشة، وتصدوا لها بخنادق وملاجئ في باطن الأرض، لكن صعباً عليهم مقاومة تداعيات الحصار والجوع، فإذا فشلت الهدنة الإنسانية المقترحة سيشهد العالم كارثة إنسانية غير مسبوقة في الفاشر”. يقول الرفاعي الذي يدير مطبخاً مجانياً في مدينة الفاشر تحت مسمى “مطبخ الخير من أهل الخير”.

وذكر الرفاعي، أن ما يفوق مليون مواطن ما زالوا عالقين في الفاشر بخلاف ما يُرَوَّج له بخروج جميع المدنيين من المدينة، وأن معظمهم يعتمدون بشكل أساسي على المطابخ المجانية، والتي اضطر معظمها للتوقف عن العمل بسبب شح التمويل، ولم يتبق في الفاشر سوى مطبخين كبيرين يعملان بانتظام، مع خفض الوجبات من وجبتين إلى وجبة واحدة في اليوم.

مطبخ مجتمعي يقدم وجبات الطعام للنازحين- شمال دارفور- الصورة (عاين)

وبحسب محمد الرفاعي بلغ سعر جوال الذرة الدخن مليون و400 الف جنيه (مليار وأربعمائة بالقديم)، ووصل سعر جوال السكر زنة 50 كيلو غرام 4 مليون و400 الف جنيه، وبلغ سعر جوال البصل مليون ونصف جنيه، وجركانة الجازولين سعة 4 جالون، 2 مليون جنيه سوداني، ووصل سعر جركانة الزيت مليون جنيه، وجوال البليلة العدسية مليون و800 الف جنيه، وبلغ سعر قطعة صابونة الغسيل الواحدة 25 الف جنيه، وبلغ جوال الدقيق زنة 25 كيلو غرام 800 الف، وغير متوفر في معظم الأوقات.

ووصل سعر كيلو العدس 60 الف جنيه، بينما انعدمت سلع مثل الأرز والمكرونة بشكل نهائي، ونتيجة للغلاء اضطر الرفاعي إلى خفض الوجبات لتكون واحدة في اليوم، عبارة عن كبسة بالذرة، وفي بعض الأوقات عصيدة ولحمة، حيث تكلفة وجبة محسنة مبلغ 4 مليون جنيه لعدد 350 أسرة، فالوضع مأساوي فهناك من يصطفون للحصول على الامباز- حسب الرفاعي.

جدل حول وصول طائرة إغاثة لدارفور

ومع ضبابية موقف قوات الدعم السريع تجاه مقترح الهدنة الإنسانية، لم تتضح معالم المبادرة من حيث كيفية وطرق إدخال الإغاثة والمناطق المستهدفة بها غير الفاشر، وسط تقارير عن موافقة الحكومة في بورتسودان على فتح 5 معابر لدخول المساعدات الإنسانية.

وكشفت منظمة الهجرة الدولية عن وصول أول طائرة مساعدات إنسانية إلى إقليم دارفور منذ اندلاع الحرب، الأسبوع الماضي دون أن تحدد مكان هبوط تلك الطائرة. لم تتحدث الحكومة التي يقودها الجيش عن هذه الطائرة الإنسانية.

فيما قال عضو المجلس الاستشاري لقائد قوات الدعم السريع إبراهيم مخير لـ(عاين) إنه “في ما يخص هبوط طائرة الأمم المتحدة فلا يسعني التصريح بصورة كاملة حول الأمر لأسباب أمنية تختص بسلامة العامليين الدوليين وأسباب دبلوماسية، ولكن نؤكد أن الدعم السريع سوى مباشرة أو عن طريق تحالف تأسيس، على تواصل مستمر مع الأمم المتحدة والجهات الإنسانية الفاعلة، ونؤكد التزامنا بمبدأ الشفافية والتنسيق الكامل حول آليات العمل الإنساني، خاصة في المناطق المتأثرة بالحرب لضمان سلامة العاملين في مجال الإغاثة وضمان التوزيع العادل للإغاثة”.

لن تدخل المنظمات إلى فضاء ما لتوزيع الإغاثة دون موافقة جميع الأطراف المتقاتلة، ومن المرجح أن الأمم المتحدة تواصلت مع الدعم السريع، وحصلت على موافقة غير معلنة

 خبير دولي في العمل الإنساني

يقول الخبير الدولي في العمل الإنساني، د. صلاح الأمين: إن “أي هدنة لتوصيل المساعدات الإنسانية للمدنيين المتضررين من الحرب في السودان مرحباً بها وشيء مفرح”.  ويشير الأمين، إلى أن المنظمات الدولية لن تتحرك في فضاء ماء لإيصال المساعدات إلا بموافقة كل الأطراف المتقاتلة، وهي الحكومة / الجيش الذي له السيادة على كل الأراضي السودانية حسب الأعراف الدولية والدعم السريع الذي يسيطر على معظم، أو كل الأراضي بدارفور.

وشدد في حديث لـ(عاين) أن توصيف الحرب في السودان هو أزمة إنسانية مركبة أو معقدة وهي أزمة تنتج من تواتر الحروب والكوارث الطبيعية، وتقود إلى أزمات متتالية منها تعدد النزوح، وهذا النوع من الأزمات بالضرورة أن يتم التعامل معها بعملية إغاثة مركزية وشاملة بحيث تتم مشاركة كل المتحاربين إضافة للذين هم يسيطرون على الأرض.

كما يتم التعامل معها من خلال المجتمعات المحلية، وأن تكون تحت قيادة جهة أو جهات دولية لها المقدرة على أن تلعب دور الحياد في توصيل المساعدات، وأن تبنى العملية الإنسانية على ما هو موجود في الأرض من مبادرات محلية (غرف طوارئ، تكايا، مطابخ مركزية ومبادرات محلية أخرى). إذن نحن في حاجة إلى عملية شريان حياة أخرى، حسب وصف د. صلاح الأمين.

موفقة الأطراف

“من المهم وجود جهات دولية في المنتصف لتنسيق ومراقبة الهدنة وضمان التزام الأطراف بها، ويعد ذلك من الإجراءات الواجب اتباعها لنجاح العملية، وإلا ستكون غير مؤثرة، ولن تحقق الأهداف المرجوة منها”. تقول العاملة في المجال الإنساني رميساء أزهري خلال مقابلة مع (عاين).

وترى رميساء، أن نجاح الهدنة الإنسانية في مدينة الفاشر يتطلب موافقة كل أطراف الحرب بما في ذلك قوات الدعم السريع، لأن عدم موافقة الجميع سيعرض العمال الإنسانيين للخطر مثلما حدث خلال الأشهر الماضية من الحرب في السودان، إذ قُتل ثلاثة موظفين من برنامج الأغذية العالمي في منطقة كبكابية، كما قُتل عدد من عمال الإغاثة إثر قصف جوي استهدفت قافلة إنسانية في مدينة الكومة.

تسمم كيماوي يصيب 74 شخصًا وسط السودان
تفريغ مساعدات إنسانية في ميناء بورتسودان- ارشيف

وتشير إلى أن الوساطة تكون من طرف محايد، وهي الأمم المتحدة التي بادرت بالدعوة إلى هدنة إنسانية في الفاشر، بجانب اللجنة الدولية للصليب الأحمر الذي يتيح له تفويضه التواجد في مناطق الصراع وأثناء المعارك لإجلاء الجرحى، ومن شأن ذلك إنجاح الهدنة الإنسانية الحالية، حال وافقت جميع الأطراف عليها.

وقالت: “الأوضاع الإنسانية في السودان سيئة للغاية، إذ تواجه البلاد أكبر كارثة إنسانية في العالم ومجاعة، وفق الأمم المتحدة، مما يتطلب تدخلا عاجلا. نحن نشاهد بالفعل العشرات يموتون بالجوع، والأمراض، يجب على الكل بما في ذلك أطراف الصراع استشعار المسؤولية تجاه ما يجري، فالإنسان هو رأس المال وأهم مورد واستثمار يفوق الذهب والبترول، فإذا مات الكل لن يجد المتحاربون من يحكمونه”.

وتتوقع رميساء تفاوض أوسع في الملف الإنساني ووقف الحرب في السودان، فلا خيار غير أن تستشعر الأطراف المسؤولية تجاه تدهور الوضع الإنساني ومعاناة المواطنين، وتضيف: “إذا لم تدفع مآسي المواطنين، المتحاربين إلى الجلوس للحوار، فلا شيء آخر سيوقفهم، فإن كان همهم الوطن والمواطن مع شكي في ذلك، عليهم التوجه إلى مائدة محادثات وإنهاء الاقتتال فوراً”.

أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *