مزارعو العباسية تقلي: مواجهة تحديات كبيرة أبرزها الأمن
عاين- 8 يوليو 2025
يعاني المزارعون في منطقة العباسية تقلي بولاية جنوب كردفان من صعوبات بالغة خلال الموسم الزراعي الراهن، حيث أضحت التحديات التي تواجههم الأكثر قسوة في ظل الظروف الراهنة. منذ أن اندلعت الحرب في السودان في 15 أبريل 2023، ازدادت الأزمات الأمنية والاقتصادية بشكل دراماتيكي، مما أدى إلى تفاقم الأوضاع وترك آثارها السلبية على أرزاق الآلاف الذين يعتمدون على الزراعة كمصدر أساسي للعيش.
يُجمع مزارعون في العباسية تقلي تحدثوا لـ(عاين)، على أن الأمن هو التحدي الأبرز الذي يهدد موسمهم الزراعي. ويشير محمد عبد الله، الرئيس السابق لاتحادات المزارعين في العباسية تقلي، إلى واقع لا يراعي فيه القانون أي حدود. ويقول عبد الله لـ(عاين): “القانون يضع حدودًا بين الأراضي الزراعية والمراعي للرعاة، وينص صراحة على منع عبور الماشية والرعاة أثناء فترة الزراعة، لكن هذا لا يحدث أبدًا على أرض الواقع“.
ومنذ اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023، تضاعفت محنة المزارعين في العباسية تقلي بشكل لم يسبق له مثيل. فبالإضافة إلى المشاكل القائمة، أضافت الحرب أعباء جديدة، وضاعفت من حدة الأزمات. وأدى انتشار السلاح بين الأفراد، وضعف قبضة الدولة، وتزايد النزاعات المحلية، إلى انعدام الأمن العام بشكل مخيف. وأصبح المزارعون أكثر عرضة للنهب المسلح، والاعتداءات على ممتلكاتهم وحقولهم، مما دفع الكثير منهم للتخلي عن أراضيهم خوفًا على حياتهم وعائلاتهم- وفقا لما يفيد به مزارعون في المنطقة (عاين).
ويشير المزارع عبد الله، للاحتكاكات المستمرة بين المزارعين والرعاة. ويقول: “الأراضي ملك للدولة والمزارعين مستأجرون، وبالتالي “يجب على الدولة حمايتهم، لكن هذا لم يحدث على مدى أكثر من عشر سنوات ماضية”. ويتابع: “المشكلة ليست جديدة، فقد كان الرعاة في السابق يستخدمون مراعي محددة للسير في الخريف، ويأتون إلى مناطق العباسية تقلي ثم يغادرون في فترات محددة. لكن منذ أعوام، استقر هؤلاء الرعاة حول المشاريع الزراعية، وأصبحوا يرعون في المناطق الزراعية أو حولها، وغالبًا ما يدخلون في زراعة المزارعين، مما يؤدي إلى نزاعات متكررة ومشاكل لا تنتهي“.

تسببت الأوضاع الأمنية السيئة في ابتعاد العديد من المزارعين عن الزراعة تمامًا أو تقليص مساحات أراضيهم المزروعة بشكل كبير. فمن يجرؤ على المخاطرة بحياته وممتلكاته من أجل محصول قد يجلب له الخسارة أو حتى الموت. يشير عبد الله، إلى أن الدولة “تهمل حماية الأراضي الزراعية والمزارعين”، متهمًا بعض الأفراد في المنطقة بالاستفادة من هذه الظروف والتعمد في عدم تطبيق القانون. ويضيف: “لقد طالبنا عدة مرات بضرورة تنفيذ القانون الذي يضمن حماية المزارعين والرعاة، والذي تم إقراره من قبل المجلس التشريعي، ولكن دون أي نتائج. هذه الحالة ما زالت مستمرة.”
يقول عبد الله: “الوعود الرسمية لم تجد طريقها إلى التنفيذ فالسلطات المحلية تذكر في كل مرة أنها سوف تنفذ القانون، وتخرج الرعاة من المناطق الزراعية، ولكن على أرض الواقع ما زال الرعاة في المناطق الزراعية.” ويشير إلى أن “هذا الوضع الأمني جعل الكثير من المزارعين يتوقفون عن الزراعة.”
يتفق المزارع بالعباسية تقلي، إدريس عبد الباقي مع “عبد الله”، ويقول لـ(عاين): “أكبر المشاكل التي تواجه المزارعين هي مسألة الأمن، حيث يتعرض المزارعون للنهب بطرق مختلفة”. ويضيف: أن “الحكومة لا توفر حماية بشكل مباشر، وإنما بمقابل مالي، حيث يجب على المزارع القادر الذهاب إلى الجهات الأمنية، ويطلب منها توفير حماية لأرضه الزراعية، ويدفع مقابل ذلك المال للجنود، وتوفير الأكل والجازولين لسيارة نقلهم وغيرها من احتياجاتهم“.
ويشير عبد الباقي إلى أنهم كانوا في وقت سابق يستطيعون دفع مصاريف التأمين غير القانونية لقوات الحماية، ولكن الآن في ظل الأوضاع التي تمر بها البلاد ونتيجة للحرب، قد خسر المزارعون الكثير خلال العامين الماضيين، مما جعل هذه التكاليف الباهظة تجعل الحماية رفاهية لا يستطيع تحملها معظم المزارعين، مما يعني أن المزارع الفقير أو متوسط الحال يترك عرضة للنهب أو التخريب.
تحدي الوقود والتمويل والتسويق
“لا تقتصر معاناة المزارعين على الجانب الأمني فحسب، فأزمة الوقود والتمويل والتسويق تشكلان تحديًا لا يقل خطورة، خاصة في ظل ظروف الحرب التي أدت إلى انهيار اقتصادي شامل”. يقول المزارع محمد عبد الله. ويشير إلى أن حديث السلطات المحلية عن توفير الوقود بأنه غير صحيح. ويوضح أن الوقود “لا يأتي من الحكومة أو البنك الزراعي مباشرة إلى المزارعين، كما كان في السابق، وإنما هناك العديد من الوسطاء الذين يتاجرون ويعملون على احتكار الوقود.”
يكشف عبد الله عن حقيقة صادمة: “الوقود يُوَزَّع دائمًا على خمس محطات وقود، ولكن يغلقونها، مما يخلق أزمة في الوقود. وبهذا يضاعفون السعر.” يضرب عبد الله مثالاً يوضح التناقضات والفوضى في سوق الوقود ويقول:”جالون الجازولين في بورتسودان بسعر 11 ألف جنيه سوداني، بينما سعره في العباسية يبلغ 23 ألف جنيه سوداني، أي ضعف المبلغ، ويرى عبد الله أن هذا الارتفاع الجنوني في الأسعار، وعدم منطقية التوزيع، يثقل كاهل المزارعين، ويزيد تكلفة الإنتاج، ويجعل الزراعة عملية غير مجدية اقتصاديًا.
أما بالنسبة للتمويل، فالوضع لا يقل سوءًا. “البنك الزراعي لا يمول جميع المزارعين”، يقول “الأسيعس” وهو أحد المزارعين في المنطقة لـ (عاين). بينما يشير المزارع إدريس عبد الباقي إلى أن الحكومة لا توفر أي شيء مشجع للزراعة، وكل شيء يقوم به المواطن.” ويشير إلى أنهم يستأجرون الآليات الزراعية، وأنهم رغم سماعهم المستمر بأن الحكومة توفر تقاوي، إلا أنهم لا يرونها، مما يضع احتمال أنها يتم بيعها خارج العباسية تقلي.
يذكر عبد الباقي أن معظم المزارعين قد قلصوا من مساحات زراعتهم لأسباب عدة، أبرزها نقص السيولة المالية التي أصبحت معدومة، بالإضافة إلى صعوبة تأمين الزراعة. فكلما كانت المساحة المزروعة صغيرة، أصبح من السهل تأمينها. وبالتالي، يفضل المزارع الذي يفتقر إلى المال اللازم لشراء الوقود أو استئجار المعدات، والذي لا يجد من يحمي أرضه، أن يزرع مساحة صغيرة يستطيع تأمينها بنفسه، أو أن يتوقف عن الزراعة تمامًا.
تُضاف إلى قائمة التحديات مشكلة تسويق المحاصيل، والتي تمثل مصدر قلق كبير يدفع المزارعين للعزوف عن الزراعة. يقول محمد عبد الله: “الدولة لا تتدخل في ذلك. وفي نهاية الموسم يقوم المزارع ببيع المحصول بخسارة لا تقل عن 40%، وهذا ما حدث العام الماضي وقبله، مما أدخل الكثير من المزارعين في ديون لم يستطيعوا الإيفاء بها، مما جعلهم لا يستطيعون الزراعة هذا العام.”
تشكل هذه الخسائر المتكررة نتيجة مباشرة للحرب، حيث أدت إلى تضييق خيارات تسويق المحاصيل. كان المزارعون سابقًا قادرين على بيع محاصيلهم في المدن الكبرى بأسعار جيدة، لكن في العامين الماضيين، يتم بيع المحاصيل للتجار الذين يستغلون ظروف الحرب وحاجة المزارعين، مما يدفعهم لشراء المحاصيل بأسعار منخفضة للغاية. هذا الوضع يجعل الزراعة غير مجدية للعديد منهم، مما يزيد معاناتهم، ويقودهم نحو الفقر. يشير عبد الله إلى أن المزارعين في الزراعة الآلية لم يحصلوا على أي دعم من المنظمات، بينما المساعدات المقدمة للمزارعين في الزراعة المطرية تكاد تكون ضعيفة جدًا. إن غياب الدعم من المنظمات الإنسانية الدولية، التي غالبًا ما تتدخل في مثل هذه الأزمات، يزيد إحباط المزارعين.
جهود محدودة في بحر المشاكل
رغم الصورة السلبية التي يعبر عنها المزارعون، تشير بعض الأصوات إلى وجود بصيص من الأمل. يقول الأسيعس، أحد المزارعين، لـ (عاين): “الوضع الآن أفضل من الموسم الزراعي الماضي نتيجةً لفتح وتأمين طريق كوستي إلى العباسية بواسطة القوات الأمنية تحت مسمى ‘الطوف’، مما سهل عليهم الحصول على احتياجاتهم.” ومع ذلك، يبرز أن هذا الأمر “متاح فقط لمن لديهم القدرة المالية، أي الذين يستطيعون تحمل تكاليف ذلك.” لذا، فإن فوائد تأمين الطريق تظل محصورة فيمن يمتلكون القدرة على شراء المستلزمات الزراعية، بينما يبقى الفقراء بعيدين عن هذه الفوائد.