“معارك في الحقول”.. السودانيون وتحدي الجوع
عاين– 18 يوليو 2024
مع توسع عمليات القتال بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في ولايات إنتاج زراعي مهمة، ينتظر سكان إقليم دارفور غربي البلاد، الموسم الزراعي الصيفي الذي بدأ بحلول يوليو الجاري، آملين أن يخفف معاناة الجوع والعجز الاقتصادي، وسط مخاوف تأثير الوضع الأمني مرة ثانية على الموسم.
وعمّق خروج مشروع الجزيرة “أكبر مشروع زراعي في السودان” من الدورة الزراعية لأول مرة في تاريخه بسبب الحرب الجارية، من حجم المعاناة الإنسانية التي تعصف بالبلاد، الأمر الذي يعزز من مؤشرات مجاعة وشيكة تلوح في الأفق، ستكون أكثر تأثيرا على ولايات غرب البلاد، وولاية الخرطوم.
وفي ديسمبر الماضي سيطرت قوات الدعم السريع على ولاية الجزيرة وسط البلاد التي تضم أكبر مشروع في البلاد، والذي يساهم بنسبة 65 بالمئة من إنتاج البلاد من الذرة والقمح والقطن. بجانب توسع عمليات القتال في أجزاء واسعة من ولاية سنار، وأصبحت تهديد ولاية القضارف التي تضم مساحات واسعة من مشاريع إنتاج الدخن والذرة والسمسم.
وتأتي التطورات وسط تحذيرات أممية تشير إلى أن (25) مليون سوداني -ما يعادل أكثر من نصف سكان السودان- يواجهون مستويات حادة من انعدام الأمن الغذائي.
وثمة 14 منطقة عرضة لخطر المجاعة، منها مناطق في ولايات دارفور والخرطوم والجزيرة وَتجمعات من النازحين داخليا واللاجئين، وهذه أسوأ مستويات انعدام الأمن الغذائي الحاد التي سجلها التصنيف المرحلي المتكامل في السودان على الإطلاق- وفقا للأمم المتحدة.
مخاوف المزارعين
ويمثل الوضع الأمني في مناطق الصراع أبرز التهديدات للمزارعين من قطاعي الزراعة المطرية في ولايات كردفان ودارفور، والمروية في ولايات وسط السودان الجزيرة، سنار والنيل الأبيض خاصة بعد تعرض مشاريع رئيسية لعمليات نهب طالت الآليات والأسمدة والتقاوي.
ويواجه الموسم الزراعي الصيفي الحالي في دارفور تحديات تهدد بتراجع المساحات بصورة أكبر؛ بسبب الأوضاع الأمنية وغياب دور الدولة، وتخوف المزارعين الاعتداءات ونهب أو تلف محاصيلهم من قبل الرعاة، إضافة للظروف المعيشية القاسية التي يمر بها إنسان المنطقة من فقر ونزوح بعد أن عطلت الحرب سبل كسب عيشهم، واستهلاك مدخراتهم بسبب إطالة أمد القتال.
في خضم ذلك، توقع وزير الزراعة والغابات في ولاية جنوب دارفور، حامد حماد، أن ولايات دارفور المتأثرة بالحرب لن تخرج كلياً من دائرة الإنتاج لجهة أن المشاريع الزراعية تتركز في بشكل رئيسي على الأرياف، بينما يدور القتال حول المدن الرئيسية وعواصم الولايات.
نزوح سكان المدن إلى القرى زاد عدد المزارعين في دارفور، الأمر الذي سيسهم في توسع المساحات الزراعية خاصة في دارفور
مسؤول حكومي بجنوب دارفور
ويقول المسؤول الحكومي في حديثه مع (عاين): إن “نزوح سكان المدن إلى القرى زاد عدد المزارعين في دارفور، بعد توقف صرف أجورهم، تحول معظم الموظفين لمزارعين، الأمر الذي سيسهم في توسع المساحات الزراعية خاصة في دارفور.
وأضاف وزير الزراعة: أن “المواطنين استدركوا خطورة الأوضاع المعيشية والمجاعة القادمة، لجهة أن تمدد الحرب في مناطق الإنتاج الكبرى من شأنه أن يحدث خللاً في عملية توفير المخزون الإستراتيجي للبلاد للأعوام القادمة، إلى جانب ارتفاع تكاليف الإنتاج المتعلقة بارتفاع أسعار الصرف المتصاعدة والمخاطر الأمنية على الطرق”.
وتسبب القتال بين الجيش وقوات الدعم الذي اندلع في أبريل من العام الماضي في تعطيل الموسم الزراعي في معظم ولايات دارفور، وأحدث خلل في البنى التحتية للزراعة، وفاقم من مشاكل نقص الغذاء في المنطقة.
وأظهر تقرير حكومي حول تقييم الموسم الزراعي الماضي، إن إنتاج الموسم الزراعي الماضي من الذرة بلغ نحو (3) ملايين طن مقارنة بـ (5) ملايين طن في الموسم السابق عليه قبل اندلاع الحرب، و(633) ألف طن من الدخن مقارنة بأكثر من مليوني طن في الموسم السابق عليه، كما تراجع إنتاج القمح من (476) ألف طن إلى (377) ألف طن، وتعتبر هذه التقديرات لفترة قبل تمدد القتال إلى الولايات الإنتاجية.
وعزا التقرير الذي اطلعت عليه (عاين) تراجع الإنتاج إلى انخفاض المساحات، التي زُرِعَت من 46 مليون فدان حسب المخطط إلى نحو 35 مليون فدان، بسبب تأثُر ولايات الجزيرة وكردفان ودارفور بتدهور الوضع الأمني، التي تسببت في صعوبة نقل مدخلات الإنتاج من التقاوي والأسمدة والوقود وارتفاع أسعارها، بجانب ضعف التمويل المصرفي، وتعرض نحو (7) مليون فدان للتلف بسبب الأوضاع الأمنية.
ويبدو الوضع بالنسبة لمزارعي القطاع المطري في إقليمي دارفور وكردفان غربي البلاد أحسن حالاً من واقع القطاع المروي، إذ يعتمد غالبيتهم على أموالهم الخاصة في عمليات الزراعة، والتي تتم بشكل يدوي تقليدي، لكن مساهمة هذا القطاع في الإنتاج الكلي تظل ضئيلة مقارنة بالقطاع المطري، إذ يُزْرَع في مساحات محدودة لسد الاحتياجات المحلية.
قلق وسط سكان دارفور من توقف وصول الذرة والدخن التي تأتيهم من ولايات وسط البلاد؛ بسبب سيطرة قوات الدعم السريع على هذه الولايات الإنتاجية
وأبدى سكان في إقليم دارفور وكردفان تخوفهم حيال توقف وصول الذرة والدخن التي تأتيهم من ولايات وسط البلاد؛ بسبب سيطرة قوات الدعم السريع على هذه الولايات الإنتاجية، وتعرض المشاريع والآليات الزراعية، وسائل النقل والتقاوي والأسمدة للنهب.
ويقول تاجر الغلال بسوق بمدينة الضعين في ولاية شرق دارفور، حسن إبراهيم: “أكثر من 60 بالمئة من استهلاك ولاية شرق دارفور خلال العام الجاري جُلِب من ولايات الجزيرة والقضارف والنيل الأبيض، نتيجة لزيادة الطلب على الذرة والدخن بسبب تدفق الأعداد الكبيرة للنازحين من مدن السودان الأخرى”.
وأشار حسن في مقابلة مع (عاين) إلى أن توقف هذه المشاريع من الإنتاج سيفاقم الأزمة، ويشكل تهديداً لغذاء أكثر من مليون مواطن مقيمين بمدن وقرى شرق دارفور يعتمدون على الذرة والدخن كغذاء رئيسي لسكان الولاية.
“الموسم الزراعي في دارفور لا يزال مهددا، رغم الاستقرار النسبي الذي تشهده بعض قرى وبلدات الإقليم، علاوة على خيبة الأمل التي صاحبت تسويق المحاصيل الموسم الماضي من تدني الإنتاج وانخفاض الأسعار وحالة الكساد التي أدت إلى تعثر المزارعين في سداد التزاماتهم، لكن بالمقابل هناك تزايد في أعداد صغار المزارعين”. يقول الخبير الزراعي محمد صالح لـ(عاين).
توقعات المجاعة الوشيكة جعلت صغار المزارعين يواجهون التحديات الأمنية، ويخرجون بأعداد كبيرة لفلاحة المزارع خاصة في محليات ولايات شرق، جنوب، وغرب دارفور
مزارعون
ويقدر سكان دارفور بربع سكان البلاد ويعمل (80) بالمئة من القوة العاملة في الإقليم في قطاع الزراعة بشقيه النباتي والحيواني، وتسهم بنسبة تصل (70) بالمئة من توفير حاجتهم من الذرة والدخن للاستهلاك المحلي، بجانب الفول السوداني الذي يعتبر أحد أهم صادرات السودان من الحبوب الزيتية.
وبالرغم من التحديات الأمنية، فإن توقعات المجاعة الوشيكة جعلت صغار المزارعين يواجهون التحديات الأمنية، ويخرجون بأعداد كبيرة لفلاحة المزارع خاصة في محليات ولايات شرق، جنوب، وغرب دارفور وذلك وفقاً لاستطلاعات أجرتها (عاين) مع عدد من المزارعين.
وفي ولاية غرب دارفور الأكثر تضررا من الحرب الجارية بدأ الموسم الزراعي وسط مخاوف من تجدد الصراع بين الرعاة والمزارعين ملاك الأراضي، خاصة بعد ظهور ملاك جدد لبعض المزارع بعد نزوح ولجوء المواطنين الأصليين إلى دولة تشاد المجاورة.
وفي ولاية غرب دارفور الأكثر تضررا من الحرب الجارية بدأ الموسم الزراعي وسط مخاوف من تجدد الصراع بين الرعاة والمزارعين ملاك الأراضي، خاصة بعد ظهور ملاك جدد لبعض المزارع بعد نزوح ولجوء المواطنين الأصليين إلى دولة تشاد المجاورة.
وفي هذا الشأن أشار التجاني كرشوم الحاكم السابق للولاية، ورئيس الإدارة المدنية “المعين من قبل قوات الدعم السريع” إلى وثيقة مجتمعية تمنع تملك أراضي المزارعين الذين نزحوا بسبب الحرب، لافتا إلى اتفاق بين بعض المزارعين والرعاة إلى فلاحة الأراضي بنظام الشراكة بين الطرفين.
وقال كرشوم خلال حديثه لوسائل إعلام محلية: أن “تعثر تدفق الإغاثة إلى أماكن واسعة بالولاية أجبر آلاف المدنيين الموجودين في محليات الولاية، من بينهم نازحين إلى فلاحة أراضيهم رغم المهددات الأمنية، وذلك من خلال الوصول إلى اتفاقيات مجتمعية عرفية لضمان استمرار العملية الزراعية بالتوازي مع الرعي”.
اقبال على الزراعة
وفي ولاية شرق دارفور التي تعتبر أكثر استقراراً من بين ولايات الإقليم الخمس يقول عيسى حسن، وهو أحد المزارعين في بلدة “أبوانا” شرق مدينة الضعين عاصمة الولاية: إن “السكان استشعروا خطر المجاعة بعد تمدد الحرب إلى الولايات الإنتاجية جعل المزارعين يتوجهون بجهدهم الذاتي لزراعة الدخن والذرة، رغم المهددات الأمنية والظروف المعيشية القاسية التي تمر بها المنطقة”.
ويشير المزارع عيسى في مقابلة مع (عاين) إلى أنهم تمكنوا من زراعة مساحات واسعة لأول مرة من الدخن في شهر يونيو الماضي، رغم التحديات الأمنية التي تواجه سكان الولاية. وينوه إلى استمرار عملية زراعة الذرة خلال يوليو الجاري.
وعزا عيسى التوسع في زراعة الذرة إلى ارتفاع أسعاره هو والدخن القادمة من شرق وشمال البلاد، والتي بلغت أرقام قياسية تراوحت بين 200 – مئتين وعشرين ألف جنيه للجوال الواحد، مما حفز المزارعين إلى زراعتها بدلاً من المحاصيل الأخرى، علاوة على عدم وصول المساعدات إنسانية لجهة أن المساعدات التي وصلتهم تغطي نسبة 1 بالمئة من حاجة المدنيين في الولاية بحسب تقديرات- مفوضية العون الإنساني بالولاية.
التهديد الحقيقي للزراعة يأتي من قبل الرعاة الذين يحملون السلاح يرتدون الزي العسكري، ولا يخضعون إلى أي جهة.
مزارع
وويرى المزارع عيسى أن التهديد الحقيقي للزراعة يأتي من قبل الرعاة الذين يحملون السلاح ويرتدون الزي العسكري، ولا يخضعون إلى أي جهة، ويخططون لمنع المزارعين من زراعة مساحات واسعة، حتى تصبح المزارع مراعي لماشيتهم.
من جانبه، لفت عضو تجمع المزارعين بولاية شرق دارفور، عبدالله حسين، إلى أنه ولأول مرة يتدافع المزارعون في الولاية على زراعة الذرة والدخن في مساحات واسعة بدلاً من التركيز على زراعة صادر الفول السوداني، وقلصوا الزراعة التصديرية، مشيرا إلى أن ذلك ينسحب على ولايات دارفور وكردفان، وعزا ذلك إلى ارتفاع تكاليف النقل وإحجام المصدرين عن شراء إنتاج الموسم السابق، بسبب غلق الطرق من قبل قوات الدعم السريع، والرسوم التي تفرضها مليشيات أهلية مسلحة على الشاحنات