«أرض السودان لا تنبَّت زرعًا».. تصاعد خطر المجاعة
عاين- 12 يونيو 2024
يواجه الموسم الزراعي الصيفي في السودان، شبح الفشل مع توسع نطاق الاضطرابات الأمنية نتيجة الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع المستمرة لأكثر من عام، وسط مخاوف من أن يزيد ذلك من خطر المجاعة الذي يحدق بسكان هذا البلد.
وضرب الصراع المسلح مراكز الإنتاج الزراعي في ولاية الجزيرة التي تضم أكبر مشروع زراعي سوداني، بجانب اقليمي دارفور وكردفان، والنيل الأبيض وسنار، بينما تعاني المناطق الآمنة نسبياً من تحدي توفير المدخلات الزراعية التي تشهد غلاء طاحن، في ظل غياب شبه تام للتمويل المصرفي، وتآكل مدخرات المزارعين.
ضرب الصراع المسلح مراكز الإنتاج الزراعي في ولاية الجزيرة التي تضم أكبر مشروع زراعي سوداني، بجانب اقليمي دارفور وكردفان، والنيل الأبيض وسنار.
ومن أحد مخيمات النزوح في ولاية كسلا شرقي السودان، يبدي حسين إبراهيم حسرته الشديدة على مزرعته التي ستظل بورا هذا الموسم لأول مرة منذ سنوات، وهو بعيد عنها يتوقف معاشه على مساعدات يجلبها متطوعون، بعد أن كان يمثل مع رفاقه المزارعين في مشروع الجزيرة، سلة غذاء السودان بأكمله.
ويقول إبراهيم في مقابلة مع (عاين): “اضطررت لمغادرة منزلي في شرق ولاية الجزيرة في شهر يناير الماضي؛ بسبب تصاعد هجمات قوات الدعم السريع على القرى، مما أجبرنا للخروج بأنفسنا فقط، ولم نتمكن من حصد محصولاتنا الزراعية في الموسم السابق. نريد أن تنتهي هذه الحرب، ونعود إلى بلداتنا وحواشاتنا مجددا”.
مع توسع الصراع المسلح، تحذر منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة “الفاو” من قلة إنتاج الموسم الزراعي الصيفي الذي يبدأ في يونيو الجاري بسبب انعدام الأمن ونقص المدخلات.
ودفع اجتياح قوات الدعم السريع لولاية الجزيرة في شهر ديسمبر من العام الماضي، مئات الآلاف من السكان إلى النزوح نحو المناطق الآمنة شرقي البلاد، تاركين خلفهم مساحات زراعية شاسعة، بينما يعيش من قرروا البقاء تحت ظروف أمنية مضطربة، جراء هجمات قوات الدعم السريع، والتي كان آخرها ارتكاب مجزرة “ود النورة” التي قتل خلالها أكثر من 100 مواطن.
فجوة غذائية
ومع توسع رقعة الصراع المسلح، تحذر منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة “الفاو” من قلة إنتاج الموسم الزراعي الصيفي الذي يبدأ في يونيو الجاري بسبب انعدام الأمن ونقص المدخلات، وهو ما يعمق الفجوة الغذائية الكبيرة في هذا البلد المضطرب.
وقالت المنظمة الأممية في تقدير صدر مطلع يونيو الجاري “رغم التوقعات بهطول أمطار أعلى المتوسط في السودان، إلا أن هناك مخاوف بشأن إنتاج الحبوب لعام 2024، مع انتشار الصراع إلى مناطق الإنتاج الرئيسية والنقص في المدخلات”.
وبحسب الأمم المتحدة، فإن 18 مليون شخص من أصل 40 مليوناً جملة سكان السودان، يعانون الجوع الشديد، بينهم نحو 5 ملايين شخص على حافة المجاعة، وسط توقعات بتزايد هذه الأرقام في ظل استمرار الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع.
تجمع مزارعي الجزيرة والمناقل: خروج 60 بالمئة من مشروع الجزيرة عن دائرة الإنتاج؛ بسبب اجتياحه من قبل قوات الدعم السريع.
ويكشف رئيس تجمع مزارعي الجزيرة والمناقل، طارق أحمد الحاج عن خروج 60 بالمئة من مشروع الجزيرة عن دائرة الإنتاج؛ بسبب اجتياحه من قبل قوات الدعم السريع، ومن الصعب يمكن زراعتها، وهي 10 أقسام من أصل 18 قسماً في المشروع، حيث توجد الـ8 أقسام الأخرى في امتداد المناقل التي تحظ بأمن نسبي نتيجة وجود الجيش.
ويقول الحاج في مقابلة مع (عاين) “من المبكر الحكم على الموسم الزراعي الصيفي بالفشل أو النجاح، لأن الذرة تُزْرَع حتى منتصف شهر يوليو، والفول السوداني حتى مطلع يوليو يمكن زراعته، كما يمكن زراعة المحاصيل البديلة مثل العدسية وفول الصويا حتى شهر سبتمبر، بينما شرع مزارعو المناقل في تحضر الأرض، رغم التحديات المتمثلة في التوترات الأمنية وغلاء المدخلات”.
ويضيف: “يوجد تحدي الحصول على البذور المحسنة من إدارة البحوث الزراعية، التي سيطرت عليها قوات الدعم السريع في ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة، ونناشد كل المنظمات المعنية بأمر الزراعة في العالم بأن تتطلع بمسؤولياتها ودورها والتدخل لإنقاذ الوضع في السودان الذي يعتبر مورداً أساسياً للغذاء في أفريقيا والوطن العربي”.
ورغم بداية الموسم الصيفي، لم تطرح المنظمات المعنية برامج لإنقاذ الزراعة في السودان، باستثناء “الفاو” التي ذكرت بأنها تخطط لتخفيف الصراع على الإنتاج الزراعي، بمساعدة 1.8 ملايين أسرة مزارعة، بما يعادل 9 ملايين فرد، في رصد الجراد ومكافحته، وتوفير المعدات الزراعية وبذور الذرة الرفيعة والدخن والسمسم والبطيخ والفول السوداني.
غلاء طاحن
ومن قرر البقاء تحت الظروف المضطربة، وفكر في زراعة أرضه بولاية الجزيرة، تحاصره نيران الغلاء الطاحن في أسعار مجمل المدخلات الزراعية، من أسمدة ومبيدات وتقاوي، وجازولين وغيرها بنسبة تصل إلى 150 بالمئة، فضلاً عن غياب التمويل البنكي، بينما قضت الحرب على مدخرات المواطنين، وذلك بحسب ما يرويه المزارع في مشروع امتداد المناقل، أحمد قسم الله لـ(عاين).
وأفاد قسم الله، أن سعر جوال سماد الداب ارتفع من 20 ألف جنيه سوداني إلى 60 ألف جنيه، وزادت علبة البصل تقاوي ثمار من 18 ألفاً إلى 60 ألفاً، كما ارتفع سعر جالون الجازولين من ثلاثة آلاف الموسم الماضي إلى 12 ألف جنيه، وصعد سعر نصف لتر من مبيد الحشائش من 10 آلاف جنيه إلى 40 ألف جنيه.
ويقول: “نحن في مرحلة تحضير الأرض حالياً، ونوجه كل هذه المشكلات والغلاء الطاحن، حيث فشل الموسم السابق بسبب عدم الحصول على التمويل اللازم، والمدخلات الزراعية، وتسبب ضعف الإنتاج في أن يصبح المزارعون غير قادرين على زراعة أراضيهم، فقد لامست لهيب السوق عنان السماء، والذي يفوق نيران الحرب نفسها”.
ويعتبر الاقتصاد السوداني تقليدياً تساهم فيه الزراعة بنسبة 48 بالمئة في الناتج المحلي الإجمالي، كما يعتمد 60 بالمئة من المواطنين السودانيين على الزراعة لكسب معاشهم من خلال موسمين في العام، شتوي وصيفي، وتمتص الزراعة وحدها 61 في المئة من القوى العاملة في البلاد، وفق بيانات رسمية.
ويملك السودان 170 مليون فدان من الأراضي الزراعية، بما يعادل 40 في المئة من المساحات الزراعية في الدول العربية مجتمعة، لكن المساحات المستغلة منها قليلة للغاية، ومع ذلك تقلصت إلى مستوى قياسي بسبب توسع رقعة الحرب بين الجيش وقوات مسلحة ووصولها إلى مناطق الإنتاج في ولاية الجزيرة التي تضم أكبر مشروع زراعي في البلاد، وسنار والنيل الأبيض، إلى جانب إقليمي دارفور وكردفان.
كارثة محتملة
لم يكن الوضع بأحسن حال في إقليم دارفور الذي تسيطر قوات الدعم السريع على 4 ولايات منه، شرق وجنوب ووسط وغرب دارفور، كما تفرض حصارا على مدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور وهي آخر معاقل الجيش في الإقليم. وفي ظل هذه الأوضاع يصعب على المزارعين التوجه للزراعة، رغم اعتماد 90 بالمئة من مواطني دارفور في معاشهم على الزراعة.
ووجد إبراهيم علي وهو مزارع من ولاية جنوب دارفور نفسه مضطرا للفرار من مزرعته الواقعة شمال مدينة نيالا العام الماضي، نتيجة تعرضه إلى تهديد مباشر من رعاة مسلحين يرتدون الزي العسكري لقوات الدعم السريع، بأنهم سيضربونه إذا لم يغادر زرعه، وفق ما رواه خلال مقابلة مع (عاين).
ويقول: “لا نشعر بالأمن على أنفسنا ومنازلنا داخل مدينة نيالا، فما بال الوضع في المزارع خارج المدينة، فلست متحمسا للزراعة هذا الموسم، على الرغم من أنني ظللت طوال حياتي نعتمد على الزراعة بشكل تام في كسب معاشي، فحالياً لا نستطيع الأكل والشرب بسبب فشل الموسم الزراعي السابق، كما توقفت المساعدات الإنسانية، لكن الذهاب إلى الزرع يكلف الحياة”.
حتى قبل اندلاع حرب الـ15 أبريل، كان المزارعون في دارفور يعانون هجمات واعتداءات الرعاة المسلحين، مما يؤدي إلى سقوط قتلى باستمرار، وكانت اللجان الأمنية في الولايات تضع خططاً سنوية لمجابهة هذه التحديات، الشيء الذي لم يكن متاحاً خلال الموسم الزراعي الحالي، بعد أن غرق إقليم دارفور بأكمله في الصراع المسلح.
خبيرة زراعية: الموسم الزراعي الحالي سيفشل في إقليم دارفور، لفقدان الأمن وعدم توفر التقاوي والمبيدات والآليات الزراعية.
وتقول الخبيرة الزراعية مروة كرسي لـ(عاين) إن الموسم الزراعي الحالي سيفشل في إقليم دارفور، ليس بسبب الاضطرابات الأمنية فحسب، بل نتيجة لعدم توفر التقاوي والمبيدات والآليات الزراعية، حيث تعرضت المحال التجارية للتدمير، وهو ما سيشكل كارثة بحق سكان الإقليم، لا سيما النازحين الذين كان يعتمد بعضهم على الزراعة لسد النقص الغذائي.
نهب مسلح
ولا يختلف الوضع في إقليم كردفان، فانتشار عصابات النهب سيقود إلى فشل حتمي للموسم الزراعي الحالي، وفق ما نقله المزارع في ولاية غرب كردفان الطيب الزين، الذي أبدى حسرته على عدم قدرتهم على الذهاب إلى المزارع والوصول إلى الأراضي الخصبة.
ويقول الزين لـ(عاين): “ربما نكتفي بزراعة محدودة بالقرب من القرية، فلن نستطيع الذهاب إلى المشاريع البعيدة نسبة لانتشار عصابات النهب المسلح، وهذا مؤشر خطير، فليس لنا مصدر كسب غير الزراعة، وقد بدأت معاناتنا من الآن، حيث ارتفعت أسعار الذرة بصورة جنونية بنسبة تفوق 100 بالمئة، وأصبح الناس عاجزين عن شرائها، ولا توجد جهة لمساعدتهم”.
وتحت هذه الظروف المضطربة، تشكك منظمة الأمم المتحدة للأغذية “الفاو” في قدرة السودان استيراد متطلباته من الحبوب والتي تصل 3.38 مليون طن، بما في ذلك 2.44 مليون طن من القمح، و662 ألف طن من الذرة؛ بسبب محدودي القدرة المالية واللوجستية.
بخلاف ذلك يقول المزارع عثمان عبد القادر، من القضارف شرقي السودان التي يسيطر عليها الجيش وهي آمنة نسبياً، لـ(عاين): إنه “يتوقع زيادة في المساحات المزروعة نتيجة لنجاح الموسم الماضي وتحقيق إنتاجية عالية في السمسم وزهرة الشمس والذرة، بجانب الأسعار التشجيعية التي وضعت، كما أن مصرفي النيل والزراعي، شرعا في تمويل المزارعين”.
ويضيف: “نواجه تحدي غلاء الجازولين ومجمل المدخلات، إلى جانب القيود التي تفرضها أجهزة الأمن للحصول على الوقود، والتي تشترط تصديقاً لنقل المواد البترولية، وهي عملية معقدة بسببها يفشل المزارعون في الحصول على حاجتهم من الجازولين”.
إحجام قسري
ومن ولاية سنار يقول المزارع حسام طه في مقابلة مع (عاين): “الوضع الأمني غير مطمئن، فهناك توترات تحدث بالقرب منا، لذلك لا نستطيع زراعة المساحات كلها التي زرعناها العام الماضي، لأن ذلك ربما يعرضنا إلى خسائر مادية، ويستنزف مدخراتنا المالية، فربما نكتفي بزراعة قليلة من الذرة لأغراض الأكل فقط”.
من جهته، يقول المهندس الزراعي الطيب عبد الله، في مقابلة مع (عاين) إن الموسم الزراعي الصيفي الحالي صعب للغاية، فكل المدخلات الزراعية تأتي من الخارج عبر شركات القطاع، وهي اضطرت للخروج من السوق بعد أن تعرضت إلى خسائر فادحة بسبب الصراع المسلح.
ويضيف: “90 بالمئة من المزارعين لم يبد أي حرص على شراء المدخلات الزراعة، ومن الواضح أنهم يحجمون عن الزراعة في الموسم الصيفي الحالي، وربما يكتفون بزراعة مساحات محدودة للاكتفاء الذاتي، وذلك خشية من التعرض لخسائر مالية، نتيجة استمرار الحرب وتوسع رقعتها”.
وتابع: “ما حدث في ولاية الجزيرة من نهب للمحصولات الزراعية، ومنع المزارعين من حصاد القطن وغيرها، زاد مخاوف المواطنين في المناطق الآمنة التي يسيطر عليها الجيش مثل سنار والنيل الأبيض، والقضارف، فهم يخشون هذا السيناريو”.