(حرب الأجواء).. الجبهة الأعنف على المدنيين في السودان
عاين- 17 ديسمبر 2024
مؤخرا لجأ طرفا الصراع في السودان لجأ إلى “حرب الأجواء” التي جاءت أشد فتكاً بالمدنيين، إذ تحصد عمليات القصف العشوائي بالطيران والمدفعية الثقيلة والمسيرات أرواح المدنيين بشكل يومي في مختلف أنحاء البلاد.
وعاش السودان أسبوعاً دام نتيجة لعمليات القصف التي نفذها طيران الجيش ومدفعية قوات الدعم السريع، ما تسبب في مقتل 232 مواطناً وجرح العشرات في العاصمة السودانية، وإقليم دارفور غربي البلاد- بحسب متابعات وحصر أجراه مراسلو (عاين).
وحصدت أعمال القصف إدانات واسعة، وسط دعوات للمجتمع الدولي بالضغط على الجيش وقوات الدعم السريع بالتوقف عن استهداف المدنيين، واتباع قواعد الحرب.
مجازر واسعة
في مطلع الأسبوع الماضي قصف طيران الجيش مدينة كبكابية في ولاية شمال دارفور، وأدى ذلك إلى مقتل 86 مواطناً وأصيب العشرات، بحسب متطوعي غرفة الطوارئ في البلدة، والتي نشرت مقاطع مصورة لآثار الغارة الجوية وأشلاء الضحايا.
ولم يمض طويلا، وبعد ساعات قليلة ارتكب الطيران الحربي مجزرة أخرى خلال قصف مدينة الكومة الواقعة في الجزء الشمالي الشرقي من ولاية شمال دارفور، مما تسبب في مقتل 45 مواطناً، وأصيب 200 آخرين، وفق ناشطين وزعماء أهلين، كما قالت منظمة يونيسف أنها تلقت تقارير تفيد بمقتل 13 طفلاً وجرح 4 آخرين، جراء القصف الجوي على الكومة.
وقصف طيران الجيش محطة أمونيا للوقود في منطقة سوق 6 مايو الجديد جنوبي الخرطوم، مما أدى إلى مقتل 28 مواطناً وإصابة 29 آخرين، بحسب غرفة طوارئ منطقة جنوب الحزام.
وتعليقا على القصف الجوي المكثف، والذي سقط على إثره مئات المدنيين، قال الجيش في بيان صحفي إنه “سيواصل ممارسة حقه في الدفاع عن الوطن والتعامل مع أي موقع أو منشأة تستخدمها قوات الدعم السريع وأعوانها لأغراض الحرب ضد دولة السودان، وهو قادر على ذلك”.
وفي مقابل ذلك قصفت قوات الدعم السريع بالمدفعية الثقيلة محطة 17 للمواصلات في مدينة أمدرمان، وسقط مقذوف على حافلة مليئة بالركاب المدنيين، مما أدى إلى مقتل 65 مواطناً بينهم نساء وأطفال، بحسب بيان صادر عن حكومة ولاية الخرطوم التي يديرها الجيش.
كما قصفت قوات الدعم السريع نهاية الأسبوع الماضي المستشفى السعودي المتخصص في أمراض النساء والتوليد في مدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور، وأدى ذلك إلى مقتل 8 مواطنين وإصابة 20 آخرين، وفق ما نقله مراسل (عاين) في المدينة، كما قصفت الدعم السريع خلال وقت قريب معسكر زمزم للنازحين أكثر من مرة، وسقط قتلى وجرحى.
وأرسلت قوات الدعم السريع طائرات مسيرة إلى مدينتي عطبرة وشندي في ولاية نهر النيل، كما استخدمتها بكثافة في مدينة الفاشر بولاية شمال دارفور، وسط تقارير بحصولها على منظومة جديدة من المسيرات وأنظمة هجوم ودفاع جوي.
رعب دائم
ووضعت الهجمات الجوية المواطنين في حالة رعب مستمرة حتى في المناطق التي لا تشهد معارك عسكرية، وبدأ البعض يفكر في المغادرة بعيداً، وهي كحالة أحمد إبراهيم الذي يرتب للخروج من منزله في أمدرمان.
وقال إبراهيم لـ(عاين): “كثفت قوات الدعم السريع القصف علينا هذه الأيام، مما دفعني للبقاء في منزلي طوال الوقت، لأن الخروج وارتياد الأسواق أصبح أمراً خطيراً. الوضع في أمدرمان مقلق وكارثي”.
ومن مدينة الكومة التي تتعرض لقصف جوي مستمر، يقول الناشط الاجتماعي صالح حارن لـ(عاين): إن “السكان يخرجون من المدينة في أوقات الليل، وينامون في العراء خشية الغارات الجوية، ويعودون بحذر خلال الفترة النهارية، بينما خفت الحركة في الأسواق”.
ويضيف “نُسْتَهْدَف بشكل منظم من قبل الطيران بناء على حملات تحريض وتضليل من قبل بعض نشطاء الإنترنت المحسوبين على الجيش، فالوضع سيئ والسكان باتوا في خوف دائم”.
ويشكل القصف الجوي والمدفعي وما يأخذه من طابع انتقامي بحق المدنيين، نقطة تحول في الحرب المستمرة في السودان لأكثر من عام ونصف بين الجيش وقوات الدعم السريع، كما يطرح تساؤلات بشأن المآلات العسكرية والسياسية لهذا التطور.
خطأ صفري
ويشير الخبير العسكري اللواء متقاعداً معتصم العمدة، أن عمليات القصف أحدثت خسائر فادحة وسط المدنيين من قتل وجرح وتشريد، ففي عدم التعمد تصبح خسائر جانبية، لكن الثابت يجب أن تكون نسبة استهداف المواطنين من طرفي القتال صفرية، فهامش الخطأ ضئيل في وسائل الحرب الجوية الحديثة، مما يرجح التعمد في أي عمل عسكري ضد المواطنين”.
ويقول العمدة في مقابلة مع (عاين) إنه “من الصعب تحديد نوايا أي جهة باستهداف المدنيين، لكن قوات الدعم السريع ظلت تقصف مناطق خالية من المواقع العسكرية؛ مما يؤكد سلوكها الانتقامي”.
ويضيف: “الأنشطة العسكرية لدى الجيوش النظامية فيها الجانب الاستراتيجي والعملياتي أو التكتيكي؛ وكما يقول المحلل الاستراتيجي الصيني صن إيزو التكتيكات الحربية دون إستراتيجية هي صخب ما قبل الهزيمة لذلك، فإن أي عمليات قصف أو مدفعية دون إستراتيجية متكاملة تعتبر بداية هزيمة للطرف الذي يستخدمها بعشوائية ودون أهداف عسكرية”.
وشدد أن العمليات العسكرية التقليدية تشتمل على استخدام الطيران ثم المدفعية بعيدة المدى، ثم تتدخل القوات البرية لاستلام الأرض، وهو ما نجح فيه الجيش منذ سبتمبر الماضي وحتى اليوم، في المقابل لجأت قوات الدعم السريع إلى القصف العشوائي لتحقيق أهداف سياسية، وإشاعة عدم وجود مناطق آمنة.
وفي سياق الإمكانيات المتاحة لحرب الأجواء في السودان، يرى الخبير العسكري عمر أرباب، أن الجيش أكثر تطورا، فهو يملك طائرات ومسيرات حديثة، بينما تملك قوات الدعم السريع مسيرات بدائية تقصف بها عشوائيا المناطق المدنية.
ويشير أرباب في مقابلة مع (عاين) إلى أن الهجوم على الأسواق وبعض المناطق ربما لا يكون ذا غرض عسكري في أغلب الأحيان بالنسبة للجيش، بقدر ما يكون بدافع ضرب النشاط الاقتصادي والتجاري، حتى لا تستفيد قوات الدعم السريع من عائدات الاستثمارات والتبادل التجاري في أماكن سيطرتها.
وفي المقابل، تقصف قوات الدعم السريع المواطنين في مناطق سيطرة الجيش بدافع الانتقام، وذلك يتنافى مع قواعد الحرب التي تجرم استهداف المدنيين سوء عن طريق الخطأ أو بشكل متعمد.
دور دولي
وبما يشبه السباق، كثف طرفي الحرب من استخدام أسلحة الجو بشكل متبادل، وفي كل مرة يكون الرد عنيفا، وفي مناطق لا تشهد معارك عسكرية على الأرض، ومأهولة بالسكان، مما يؤدي إلى سقوط قتلى من المدنيين، الأمر الذي يعطي مؤشراً بأن الجيش وقوات الدعم السريع جعلا المواطنين كإحدى أدوات القتال، وفق ما يقوله المتحدث باسم تحالف القوى المدنية والديمقراطية “تقدم” بكري الجاك لـ(عاين).
ويضيف: “ضرر القصف العشوائي بات أكبر على المدنيين؛ لأن الطرفين أصبحا يتعاملان معه كإحدى وسائل استدرار العطف والإدانة السياسية، وقد لاحظنا ذلك، وأكدنا بأن المواطن يتم استخدامه كرهينة في هذه الحرب”.
وشدد: “عندما ترتكب قوات الدعم السريع مجازر نشاهد الأصوات ترتفع في بورتسودان بالدعم لتصنيفه منظمة إرهابية وغيره، في المقابل عندما يستخدم الجيش الطيران تتحدث الدعم السريع عن ذلك، فمن الأسوأ أن يظل المدنيون رهينة، وأحد الأسلحة السياسية في الحرب، يستخدم موتهم في التصعيد السياسي في المعركة”.
وتابع: “كان دور المجتمع الدولي ضعيفاً، فإذا توفرت الإرادة الدولية خاصة للدول الكبرى مثل أمريكا، يمكن الضغط على الجهات المتحاربة بأن يكون هناك دور لحماية المدنيين”.
وشدد أن “الحرب ستستمر وتواصل أطرافها قتل المدنيين ما لم تكن هناك عقوبات دولية وضغط محلي واسع في سبيل إيقاف القتال بين الجيش وقوات الدعم السريع”.
انتهاك قانوني
وبخلاف مستوى التقدم والسبق لكل من الجيش وقوات الدعم السريع في حرب الأجواء الدائرة في المسرح السوداني؛ فإن المدنيين هم من يدفعون ثمن القصف، وترتفع حصيلة الضحايا وسطهم بمتوالية هندسية، في مخالفة للقانون الدولي الإنساني.
ويقول عضو التحالف الديمقراطي للمحاميين محمد عبد المتعال جودة، إن الحرب منذ يومها الأول لم تلتزم بقواعد الحرب المنصوص عليها في القانون الدولي والداخلي، إذ سقطت أعداد كبيرة من المدنيين نتيجة للقصف الجوي، إلى جانب ضحايا آخرين؛ بسبب الاشتباكات والانتهاكات، والتي أدت بدورها إلى فقدان أرواح وممتلكات.
ويرى جودة في مقابلة مع (عاين) أن ارتفاع وتيرة القصف الجوي والمدفعي في الفترة الأخيرة يعود إلى اتساع رقعة الحرب والتي شملت معظم أنحاء السودان؛ مما دفع الطرفين إلى استخدام أسلحة الجو في محاولة للوصول إلى مناطق بعيدة، بالإضافة إلى حصول الجيش على دعم وإسناد خارجي بالطيران من دول بينها مصر، وقوات الدعم السريع على أنظمة دفاعية وهجومية، فالحرب لم تعد تخص السودانيين.
ويتابع جودة: “الطرفان امتلكا طائرات مسيرة، ويستخدمانها للوصول إلى مناطق بعيدة دون أي مراعاة لقواعد الحرب، فالقانون الدولي الإنساني وكل المواثيق والمعاهدات الدولية تفرض حماية على المدنيين والأعيان المدنية العامة والخاصة، لكن نلاحظ استهدافاً للمنشآت بحجة تحولها لأهداف عسكرية”.
ويشير إلى أن السودان له تاريخ طويل وسمعة غير جيدة وتوفير الحماية والسماح بالإفلات من العقاب، وهو ما يصاحب النظم الشمولية الدكتاتورية التي تحمي منسوبيها بالحصانات لقمع المعارضين، لكن بعد ثورة ديسمبر والحرب الحالية ارتفع الضغط الجماهيري، وظهرت وسائل مراقبة للانتهاكات، مما يوفر فرصة لتحقيق العدالة لذوي ضحايا القصف العشوائي من خلال مسارات بديلة متاحة، فتجربة محاكمة علي كوشيب يمكن أن تعزز هذه الآمال.