كردفان.. حياة على فوهة البنادق
عاين- 19 مايو 2024
يعيش السكان في إقليم كردفان تحت ظروف أمنية سيئة، فبعد الحرب التي تدور على عدة جبهات، يواجه المواطنون أزمة الانتشار الكثيف للسلاح، والذي زاد وتيرة العنف وعمليات النهب، مما يؤدي إلى فقد مستمر في الأرواح والممتلكات، وإلى ما يشبه الشلل التام في الحياة العامة في المنطقة.
ولم يمر يوماً واحداً وفق ما نقله شهود لـ(عاين) دون أن تسجل حادثة نهب تحت تهديد السلاح، لا سيما في ولايتي شمال وغرب كردفان التي تشهد انتشاراً واسعاً للبنادق في أيدي المواطنين، والذي أدى إلى نشوء مليشيات مسلحة متخصصة في الاعتداء على المدنيين ونهب ممتلكاتهم.
وفي نهاية الأسبوع الماضي كان مواطنو بلدة أم دفيس بولاية غرب كردفان على موعد مع فاجعة جديدة نتيجة تعرض سيارة نقل جماعي قادمة من سوق أم دورور في مدينة أبو قلب إلى إطلاق نار من مسلحين قطعوا طريقها، وعلى إثر ذلك توفيت سيدة تسمى “بثينة النيل” وأصيب آخرون بجروح متفاوتة، ونُهبت ممتلكاتهم بما في ذلك المبالغ النقدية وحتى الطعام الذي كانوا يحملونه لعائلاتهم.
بثينة بحسب شاهد تحدث لـ(عاين) هي عاملة ترتاد الأسواق بغرض بيع المنتجات المحلية كمصدر رزق ظلت تعتمد عليه لعدة سنوات ماضية، في إعالة أفراد أسرتها، فخطفتها رصاصة عصابة النهب من وسط العشرات يرافقونها على متن عربة النقل الجماعي مخلفة حالة من الحزن في المنطقة، لما يُعرف عنها من كفاح في سبيل الحياة والكسب الحلال.
ولم تكن هذه الحادثة ليس سوى إحدى حالات الاعتداء على المواطنين في ولايتي شمال وغرب كردفان، وذلك بفضل الانتشار الكبير للسلاح في المنطقة، وتحولت الأسواق المحلية المعروف بـ”أم دورور” إلى أوكار لبيع الأسلحة والذخائر، بعد أن ظلت تاريخياً مكاناً آمناً لتبادل المنافع بين المواطنين.
يكلف الحياة
ويقول عبد العظيم أحمد مواطن من ولاية غرب كردفان لـ(عاين): “أعمال النهب المسلح أصبحت بين القرى والفرقان، وفي وضح النهار، لذلك أصبحت حركتنا منحصرة داخل قريتنا؛ لأن الذهاب إلى الأسواق ربما يكلف الحياة، فهذه المجموعات الإجرامية لا تتورع في إزهاق روح شخص من أجل نهب هاتفه المحمول أو حتى كيس الخضروات الذي يحمله إلى أولاده”.
“نعيش تحت وضع خطير للغاية، والمواطنون جميعهم دخلوا في سباق لاقتناء الأسلحة النارية من أجل حماية أنفسهم، فالبعض قام ببيع محصولاتهم الزراعية وأغنامهم بغرض شراء البنادق عوضا عن توجيه هذه المبالغ للأكل والشرب، فهذا شيء محزن للغاية، بينما يشتري البعض السلاح لاستغلاله في أغراض إجرامية” يضيف عبد العظيم.
وتكثر جرائم النهب المسلح في المناطق الواقعة في الجزء الشمالي الشرقي من ولاية غرب كردفان، وهي لا تخضع لسيطرة أي من طرفي الحرب، وهي خالية من وجود الجيش وقوات الدعم السريع، إذ تشهد فراغ واسعاً منذ اندلاع القتال في منتصف أبريل من العام 2023م، مما شجع عصابات النهب المسلح على ملئه.
وحول محيط الأبيض عاصمة ولاية شمال كردفان، ينتشر السلاح في أيدي المواطنين من خلال مجموعات أهلية، تحت ما يعرف بالمقاومة الشعبية الرامية إلى مساندة الجيش عسكرياً في حربه مع قوات الدعم السريع، لكن السكان في تلك المناطق يحصلون على الأسلحة من مالهم الخاص، ولم توزعه عليهم القوات المسلحة مثلماً فعلت في بعض المناطق الأخرى، وفق ما كشفه باحث في دراسات السلام من المنطقة لـ(عاين).
ويقول الباحث الذي طلب حجب اسمه لدواع أمنية، إن “الجيش لا يمتلك الموارد اللازمة لتسليح المواطنين، لكن مكونات أهلية اقتنت السلاح في محيط مدينة الأبيض من أجل الدفاع عن مناطقها من هجمات قوات الدعم السريع، مما جعلها تتحول ضمنياً للقتال إلى جانب القوات المسلحة، وقد حدثت تجاوزات وأعمال نهب وتعدي مرفوض على المدنيين نتيجة لذلك”.
تجارة منظمة
ولم يتوقف الأمر عند حد انتشار السلاح في أيدي المواطنين في ولايتي شمال وغرب كردفان، لكنه أنتج عمليات منظمة للاتجار بالسلاح عيانا بيانا في الأسواق يتكسب من وراءها أشخاص عاديون، وذلك قاد إلى تزايد في جماعات النهب المسلح التي تقطع الطرق على قوافل البضائع وسيارات النقل المدنية، بحسب ما يقوله الناشط في منظمات المجتمع آدم علي (اسم مستعار بطلب منه) في حديثه لـ(عاين).
ويضيف علي: “تقوم عصابات النهب التي في الغالب لا تنتمي إلى أي من طرفي الحرب، باعتراض حافلات النقل السفرية، وإنزال المواطنين وضربهم ونهبهم تحت تهديد السلاح، ويصل الأمر مرحلة اغتصاب النساء، وقد وثقنا حالة اغتصاب سيدة خلال الفترة القليلة الماضية، وهو وضع صعب للغاية جعل السكان هنا يدفعون فاتورة مضاعفة للحرب الحالية التي يجب أن تتوقف عاجلاً”.
يحتفظ الجيش بالسيطرة على مدينة الأبيض عاصمة ولاية شمال كردفان والفولة وبابنوسة والنهود في غرب كردفان، لكن قوات الدعم السريع تفرض ما يشبه الحصار الكامل على تلك المدن، وتركز تواجدها على طرق الأسفلت، بينما ظلت مساحات شاسعة ونائية في ولايتي شمال وغرب كردفان مسرحاً لنشاط عصابات النهب المسلح والتي تستبيحها بشكل تام.
ويروي أحد ضحايا النهب في شمال كردفان لـ(عاين) إن مسلحين أوقفوا الحافلة التي كان يستغلها عند خط نقل النفط شمالي مدينة الأبيض، وبينما كانوا ينهبون مقتنيات الركاب بداخلها، كان أحد العناصر المسلحة يحث أصدقاءه على الاستعجال خشية من أن يأتي منسوبين للجيش أو الدعم السريع، وهو ما يعطي مؤشراً لعدم تبعيتهم لأي واحد من طرفي الحرب.
لكن حادثة أخرى تؤكد تورط عناصر من قوات الدعم السريع في عمليات نهب المواطنين على الطريق القومي الرابط بين الأبيض وكوستي، حيث روت نهى وهي سيدة من ولاية شمال كردفان أن صاحب الباص السفري الذي كانت تستغله من الأبيض إلى كوستي اتفق مع فرد من قوات الدعم السريع لمرافقته بغرض التأمين نظير مبلغ مالي يدفعه الركاب عن طريق الاشتراك، وبعد مسافة قليلة من مدينة أم روابة نزل المسلح بحجة أن هذه نقطة ارتكازهم الأخير، ولم يمض طويلا تفاجأ الركاب بعربة على متنها 7 مسلحين ملثمي الأوجه وبمعيتهم موتر، يتتبعونهم بشكل مسرع، قبل أن توقفهم بالقرب من منطقة ود عشانا.
وتقول نهى لـ(عاين) “طلب المسلحين من السائق التوقف، وأُنْزِل الرجال والشباب والأطفال وضربهم، كما هُدِّدَت النساء بالسلاح الناري والاغتصاب من أجل منحهم المبالغ النقدية والهواتف النقالة، كما نُهِبَت خزنة الباص السفري التي تحتوي حقائب وأمتعة المسافرين، وعلمنا أن الشيء نفسه حدث مع مسافرين على حافلة كانت تسير خلفنا، واغتصاب 4 فتيات”.
استقطاب حاد
تمنع السلطات في مدينة الأبيض عاصمة ولاية شمال كردفان تحرك المركبات السفرية خلال الفترة المسائية في محاولة لتجنيبها عمليات النَهْبُ المسلح، لكنها في الوقت ذاته تمارس تضييقاً واسعاً على المواطنين والمسافرين داخل المدينة بقوانين الطوارئ وتقييد حركتهم عبر حظر تجوال يبدأ يومياً من الساعة السابعة مساء، كما يعاني السكان من تفلتات أمنية شديدة في المدينة.
ولم تعط المجتمعات المحلية في كردفان اهتماماً كبيراً لحملة الاستنفار التي ينشط فيها عناصر من نظام الإخوان المسلمين المخلوع، بقدر ما كان السواد الأعظم يسعى لامتلاك السلاح بغرض الحماية الشخصية أو استغلاله في أعمال إجرامية كالنهب المسلح، بينما وجدت بعض المكونات الاجتماعية التي استجاب لخطاب التعبئة والاستنفار نفسها في مواجهة مع قوات الدعم السريع.
وشهدت منطقة أبو حراز غرب مدينة الأبيض مؤخراً مواجهة دامية بين قوات الدعم السريع ومكونات أهلية محلية قتل خلال 15 مواطناً، ولم يتمكن المصابون من المدنيين الوصول إلى العلاج نتيجة لحدة التوترات الأمنية، كما حدثت معركة مماثلة بالقرب من رهيد النوبة في الحدود بين ولاية شمال كردفان وامدرمان خلال شهر ديسمبر الماضي، وخلفت جرحى وقتلى من المواطنين كذلك.
ويقول الناشط في منظمات المجتمع المدني في ولاية شمال كردفان، الطيب محمد (اسم مستعار بطلب منه) في مقابلة مع (عاين) “ظللنا دائما نحذر من استنفار المواطنين من جانب الجيش، وجعلهم طرفاً في الحرب، لأن ذلك يضعهم في مواجهة مع قوات الدعم السريع مثلما حدث في أبو حراز ورهيد النوبة، وأيضاً يتسبب في شرخ للمجتمعات المتماسكة في إقليم كردفان”.
ورغم الأوضاع المعقدة وحالة الكبت والتضييق التي تمارسها السلطات في ولايتي شمال كردفان، يرى الطيب ضرورة أن يجد المجتمع المدني لنفسه مساحات للتحرك وتوعية السكان بخطورة انتشار السلاح وسط المدنيين خلال الوقت الحاضر والمستقبل، ويمكن تبني حملات توعوية على وسائل التواصل الاجتماعي تستهدف المثقفين في المكونات الأهلية لرفع الوعي تجاه هذه المهددات”.
ويشدد على ضرورة أن تشمل الحملة، التوعية بخطورة عمليات الاستقطاب التي تنشط فيها كل من استخبارات الجيش وقوات الدعم السريع، لجعل المواطنين جزءا من الحرب، فبالتالي هزيمة هذا المخطط الذي ربما يقود استمراره إلى حرب أهلية شاملة.