رشاوى وابتزاز.. كيف تعيق الحكومة إغاثة السودانيين؟

عاين- 8 أكتوبر 2025

في وقت يعتمد ملايين السودانيين على المساعدات الإنسانية للبقاء على قيد الحياة، تكشف شهادات حصرية لعاملين في القطاع الإنساني عن حقيقة قاسية لا تقل عن فداحة الحرب المستمرة في السودان، في إشارة منهم إلى العرقلة الممنهجة والفساد المستشري في مفوضية العون الإنساني الحكومية، والذي بات يُشكل “جداراً خفياً” يهدد بتحويل شريان المساعدات إلى مجرد قطرات بطيئة ومتقطعة.

 ويجمع عاملون في القطاع الإنساني في شهاداتهم لـ(عاين): على أن “العمل الإنساني في السودان لم يعد معركة ضد الفقر والنزوح بقدر ما أصبح صراعاً يومياً مع الروتين القاتل والأشخاص الذين يمارسون التعطيل المتعمد، مُهددين بذلك جهود الإغاثة الكبرى التي لا تحتمل أي تأخير”.

جدار البيروقراطية

“يواجه العاملون في المنظمات الدولية والمحلية تحديات يومية لا تقتصر على المخاطر الأمنية أو نقص التمويل، بل تتجذر في صميم الإجراءات الإدارية”. يقول أحد العاملين في منظمة دولية، والذي فضّل حجب اسمه خوفاً من العواقب المباشرة على عمل منظمته لـ(عاين). ويتابع: “العمل اليومي هو معركة مستمرة، لا مع الفقر أو النزوح، بل مع البيروقراطية والتعطيل الشخصي”.

هذه المعركة، وفقاً لشهادته، ليست صراعاً مع نظام إداري معطّل فحسب، بل تُدار من قبل “أشخاص محددين” يمارسون التعطيل داخل المفوضية الحكومية، والذي يصل إلى حد إضاعة الأوراق عمداً وتوجيه الشتائم لتعقيد الأمور، وهي ممارسات تجعل إتمام أبسط الإجراءات أمراً مرهقاً.

تصاريح التحرك الأساسية التي يُفترض أن تكون جاهزة بسرعة لإنقاذ الأرواح تستغرق مدة تتراوح بين ثلاثة إلى خمسة أسابيع

موظف بمنظمة إنسانية دولية

 “الحصول على تصريح أساسي للتحرك أو حتى تأشيرة دخول (فيزا) لموظف دولي أصبح يُشبه كابوساً إدارياً”. يؤكد المصدر. ويشير إلى أن إصدار تصاريح التحرك الأساسية – التي يُفترض أن تكون جاهزة بسرعة لإنقاذ الأرواح – تستغرق مدة تتراوح بين ثلاثة إلى خمسة أسابيع.

ويضيف المصدر شارحاً الدائرة المفرغة من التعطيل: “عندما نقدم طلبات الفيزا، يُسألون عن أوراق لم نُسلمها بعد، أو تضيع خطابات التحرك الهامة التي كنا قد جهزناها بالفعل، ويصبح الأمر دائرة مفرغة لا تنتهي”. ويشير المصدر،  إلى أن الموظفين يُسألون: “أين الفيزا التي قدمتها؟ أنت لم تأت بخطابات التحرك!” رغم أن الخطابات قد سُلمت لمكتب المسؤول المعني. ويقول: “هذا التباطؤ لا يعيق حركة المنظمات فحسب، بل يهدد بإهدار الموارد والوقت اللازمين للاستجابة السريعة، خاصة وأن كل هذا يحدث في أجواء لا تخلو من رقابة مستمرة من قبل أجهزة الاستخبارات، مما يزيد الضغط والحذر في كل خطوة”.

الثمن الخفي: “الرشوة أصبحت أمراً واقعاً

تتجاوز المشكلة مجرد التأخير الإداري لتصل إلى أبعاد مالية وأخلاقية خطيرة، حيث أصبح إنهاء المعاملات في كثير من الأحيان لا يتم إلا عبر شكل خفي ومقنَّع من أشكال الفساد.

يُقرّ العاملون في المجال الإنساني بمرارة أن “الرشوة أصبحت أمراً واقعاً، لكنها لا تُسمى كذلك.”

تسمم كيماوي يصيب 74 شخصًا وسط السودان
تفريغ مساعدات إنسانية في ميناء بورتسودان- ارشيف

يقول أحد المسؤولين عن متابعة الإجراءات في بورتسودان، والذي فضّل أيضاً حجب اسمه واسم منظمته لضمان استمرار العمل، لـ(عاين): أن “هناك موظفين فاسدين داخل مفوضية العون الإنساني وتحديداً في ما يُسمى مجمع الإجراءات بمدينة بورتسودان… هذا الفساد يُمارس بشكل علني.. مثال على ذلك: إذا لم تَدفع لتمرير التصاريح والمعاملات، وخاصة عند تجديد الأوراق وتسجيلها ستواجه مشكلة في الجهات الحكومية المركزية والمحلية (الولائية)”.

ويتابع: “الضرورة تضطر مندوبي المنظمات للدفع من نفقاتهم الخاصة، حيث لا تسمح المنظمات بتخصيص مبالغ مالية لهذا الفساد، ولا تصدِّق عليه”. ويضيف:”الأدوية والأغذية مرتبطة بفترة محددة ولا بد من استخراج تصريح العمل في وقت أسرع لذلك يصبح المندوب مجبراً علي تدفع شيئاً للموظف”.

ويتابع مندوب إحدى المنظمات في شهادته لـ(عاين): “الموظفون لا يأخذون الأموال دائماً بشكل مباشر، بل يطلبون أن تجلب لهم شيئا من السوق، أو تسليمهم المبالغ المالية سراً، وهي غالبا ما تُقدَّم على أنها ‘هدية’ أو (تسهيل). هذه التسمية المُلطّفة لا تُغيّر من جوهر الممارسة، لكنها توفر ستاراً يمكن من خلاله تجنُّب المساءلة العلنية. لا يمكن لأحد أن يتكلم عن ذلك علانية في الورش أو الاجتماعات، ما يُبقي هذه الممارسة في منطقة الظل، بعيداً عن أي مساءلة أو إصلاح”.

إجراء لمندوب تابع لبرنامج الغذاء العالمي (WFP) استغرق ثمانية أشهر

مصدر في منظمة دولية

وكدليل على خطورة هذا التعطيل المتعمد، ضرب  مندوب إحدى المنظمات في حديثه مع (عاين) مثالاً بمندوب تابع لبرنامج الغذاء العالمي (WFP) استغرقت إجراءاته ثمانية أشهر حتى تم الانتهاء منها، وذلك لالتزام المنظمة بمنع دفع الرشاوى، وهو ما يوضح الثمن الباهظ الذي تدفعه المنظمات الملتزمة بالمعايير الدولية.

ويشير محمد صالح، وهو مؤسس عملت من أجل التحول المدني الديمقراطي، إبان فترة الحكومة الانتقالية، إلى أن منظمته واجهت الرفض لإعادة التسجيل بعد الحرب بسبب مجال عملها حتى اضطرت لتغيير مجالها، ومع ذلك واجهت عقبات في تسجيلها. كما يؤكد صالح أن عملية الحصول على تصاريح العمل والوثائق الرسمية تواجه تحديات بيروقراطية ومالية متصاعدة.

يشير صالح في مقابلة مع (عاين) إلى ارتفاع “فلكي” في الرسوم، حيث قفزت قيمة التصريح من (35 الف جنيه سوداني) إلى (50 ألفاً) عند التقديم، ثم وصلت لاحقاً إلى مبالغ غير مسبوقة تقدر بـ (700 الف جنيه سوداني)، مما يجعل إكمال الإجراءات مستحيلاً للعديد من الأفراد والكيانات الصغيرة.

وينوه إلى أن إنجاز المعاملات يتطلب وجود توصيات أو اتصالات شخصية داخل الجهات الرسمية. فالشخص الذي “ليس لديه (واسطة) يواجه تأخيرات هائلة أو استحالة في إكمال إجراءاته، واصفاً هذا الوضع بأنه شكل من أشكال الفساد يتغلغل في بنية الدولة.

نازحات في انتظار وجبة مجانية في مخيم دبة نايرة بولاية شمال دارفور- ارشيف

ووفقا لصالح- تؤثر هذه العوائق أيضاً على المشاريع والكيانات، خاصة المرتبطة بملفات حساسة (مثل شؤون الهجرة والنساء)، حيث يمكن أن تؤدي التسميات أو التصنيفات إلى رفض التصاريح أو التعطيل، مما ينتج عنه خسارة فرص التمويل والدعم من المانحين والشركات التي تتردد في التعامل مع أفراد أو كيانات غير مصنفة بشكل سليم أو مُعرضة للعرقلة البيروقراطية.

يُحذر الخبير في شؤون العون الإنساني، حاتم يونس، من خطورة هذا التأخير في إجراءات العمل الإغاثي الإنساني. ويقول مقابلة مع (عاين): “العون الإنساني عموماً هو بطبيعته عون طارئ لأنه يلبي احتياجات لا تحتمل التأخير  في الطعام، والشراب، والعلاج، والحماية”. ويشدد يونس، على أنه “لا يوجد مجال للتسويف فيها، فأي تأخير فيها هو بمثابة موت لأشخاص.” قد يعني التأخير “موت فرد بسبب الجوع، أو العطش، أو المرض، أو الإهمال”. لذلك، يجب أن تُعالج كل عناصر المساعدة الإنسانية بـ “فورية”، وتوقيتها “بالغ الأهمية، بل يجب أن يُحسب بالدقيقة والساعة، وليس أن يتأخر أبداً”.

المساءلة الأخلاقية والجنائية

هذا التأخير، سواء كان سببه أفراداً أو مؤسسات، تترتب عليه تبعات أخلاقية، وقد تصل إلى مساءلة جنائية، لكونه قد يتسبب في وفاة شخص. وفقا ليونس الذي يدعو إلى ضرورة أن يشتمل النظام الإنساني على “نظام مساءلة داخلي ضمن هذه المؤسسات نفسها”. ويجب أن يُحسب الوقت بدقة: “الفترة من تقديم الطلب حتى صرف المساعدة يجب ألا تتجاوز ساعات، لا أن تصل إلى أيام.”

أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *