عاصمة تحفها المخاطر.. شهادات من الخرطوم

عاين- 22 سبتمبر 2025

مع تزايد أعداد العائدين إلى الخرطوم في الأشهر الأخيرة، تبدو  الخرطوم العاصمة وكأنها مدينة تحاول النهوض من تحت ركام الحرب. ويكشف الواقع اليومي للسكان عن مزيج من المعاناة والخوف؛ فإن انقطاع الكهرباء والمياه يفرض على الناس حلولاً بدائية للحصول على أبسط مقومات الحياة، بينما يجد المرضى أنفسهم في مواجهة مستشفيات مدمرة أو مكتظة وأدوية منعدمة. إلى جانب السرقات والنهب تهديد الطائرات المسيّرة يدفع عائلات إلى تعليق فكرة العودة أو مغادرة مناطقها من جديد. كل ذلك وغيره يجعل معادلة الحياة في الخرطوم معقدة وقاسية.

مع عودة أكثر من مليوني شخص إلى مناطق مختلفة من السودان منذ نوفمبر 2024 وحتى منتصف 2025، بينها مئات الآلاف إلى ولاية الخرطوم، تواجه العاصمة وضعًا إنسانيًا وخدميًا متأزمًا. أعاد هذا التدفق الحياة إلى أحياء كانت خالية بفعل الحرب، لكنه فرض ضغطًا هائلًا على شبكات المياه والكهرباء والخدمات البلدية، في وقت تعجز فيه السلطات عن توفير حلول عاجلة، وفقا للمنظمة الدولية للهجرة.

انهيار المنظومة الصحية

تُظهر تقارير حديثة أن نحو نصف المستشفيات أو أكثر في ولاية الخرطوم خرجت عن الخدمة بسبب القصف أو النهب أو نقص الكوادر والإمدادات. تقرير “مختبر أبحاث العمل الإنساني بجامعة ييل” أوضح أن 41 من أصل 87 مستشفى في الولاية تعرضت لأضرار مباشرة، ما حرم آلاف السكان من خدمات الطوارئ والعناية المركزة.

كما أن منظمات طبية مثل “أطباء بلا حدود” أغلقت بعض مراكزها بعد تعرضها لاعتداءات وتهديدات، وهو ما يعكس حجم المخاطر التي تواجه العاملين الصحيين.

وتُظهر بيانات تقرير يونيسف الحالة الإنسانية رقم 32 (1 يناير – 30 يونيو 2025) أن أكثر من 10,000 مدرسة لا تزال مغلقة في السودان، وأن حوالي 2,100 مدرسة تُستخدم كملاجئ للنازحين، مما ترك أكثر من 14 مليون طفل خارج التعليم الرسمي على مستوى البلاد. لا تحتوي البيانات المتاحة حتى الآن على إحصائيات مفصّلة تُخص ولاية الخرطوم وحدها في هذا الصدد.

نقص المياه النظيفة

كما يواجه السودان نقصًا شديدًا في خدمات المياه الآمنة والصرف الصحي، وتسهم البيئات الملوثة في تفشّي الكوليرا.

والسبت الماضي حذرت منظمة أطباء بلا حدود من تزايد ملحوظ في حالات الإصابة بحمى الضنك في ولاية الخرطوم، مؤكدة أن الأوضاع الصحية الراهنة تنذر بتفاقم الأزمة إذا لم تُتخذ إجراءات عاجلة للحد من انتشار المرض.

وقالت المنظمة، إن تفشي المرض يجد بيئة مواتية في المنازل المهجورة، والمجاري المسدودة، وانقطاع إمدادات المياه التي تدفع السكان إلى تخزين المياه بطرق غير آمنة، مما يسهم في تكاثر بعوض الزاعجة المصرية الناقل للفيروس. وأضافت أن ضعف وسائل التشخيص والضغط الشديد على المستشفيات يعيقان جهود الاستجابة.

صورة حديثة لموقف مواصلات الاستاد بالخرطوم

ومع اندلاع الحرب في السودان في أبريل 2023، بين الجيش وقوات الدعم السريع، وتدهور النظام الصحي، ازداد خطر الأوبئة نتيجة لانهيار البنية التحتية الصحية ونقص الإمدادات الطبية.

ووفقاً لما سبق فإن عودة السكان بكثافة إلى أحياء مدمرة أو بلا خدمات فاقمت أزمة النفايات والصرف الصحي. إلى جانب غياب آليات جمع النفايات والازدحام السكاني يسهمان في زيادة المخاطر الصحية والبيئية، ويعرقلان أي جهود للتعافي المبكر.

أحد سكان الخرطوم العاصمة، فضل حجب اسمه روى لـ(عاين) تفاصيل عودته إلى العاصمة قبل عيد الأضحى الماضي، وما واجهه من ظروف معيشية قاسية في ظل الدمار المستمر وانعدام الخدمات الأساسية.

معاناة شديدة

قال: “منذ وصولي وجدت معاناة شديدة في الحصول على مياه الشرب، فالخطوط الرئيسية لا تصلها المياه. ومنذ الأيام الأولى للحرب، انقطع التيار الكهربائي تمامًا، وظلت الأزمة تتفاقم”.

وأوضح أنه وسكان الحي الذي يقطن فيه اضطروا لحفر حفرة بعمق مترين للوصول إلى خط المياه الرئيسي، ثم رفع المياه بالدلو وحملها إلى المنازل. وأضاف: “نقف في صفوف طويلة منذ الثالثة صباحًا في انتظار أن تمتلئ الحفرة. أحيانًا تأتي المياه يومًا بعد يوم، وأحيانًا تنقطع لعدة أيام، وإن وصلت تكون ذات رائحة كريهة أو ألوان غريبة. لا نستطيع استعمالها للشرب، بل فقط للأغراض المنزلية والحمامات”.

وعن أزمة الكهرباء، قال: «ما زالت منقطعة تمامًا في حينا. البنية التحتية للكهرباء مدمرة بالكامل: الأعمدة، الأسلاك، وحتى المحولات ملقاة على الأرض».

إذا توفرت المياه فهي برائحة كريهة أو ألوان غريبة، لا تصلح للشرب بل تقتصر على الاستخدامات المنزلية

مصدر من مدينة الخرطوم

أما الوضع الأمني، فوصفه بالمتدهور: «كثرت السرقات وخطف الهواتف، خاصة في السوق المركزي والمناطق التي تحيط به. وتابع” بعض اللصوص يقفزون إلى البيوت وينهبون ما يجدونه. في النهار نلحظ بعض الوجود الأمني في السوق، لكن في الليل تُفتح الدكاكين وتتعرض للنهب. كذلك زادت حوادث خطف الهواتف وانتشار السلاح».

وأشار إلى أن الأمراض انتشرت على نطاق واسع بسبب البيوت المهدمة والبيئة الملوثة: «تفشّت الكوليرا والأمراض المعوية، إلى جانب التهابات رئوية وأوبئة أخرى. الحشرات والذباب منتشرة بكثرة، ولا توجد حملات نظافة منتظمة من المحلية، باستثناء مرة واحدة تمت فيها رشّات

بالطيران ولم تُستكمل. الأدوية والمحاليل الوريدية نادرة جدًا في الخرطوم، وكذلك المياه النقية والكهرباء، بينما يظل الناس يرفعون أكفّهم بالدعاء أن يعمّ الأمن والأمان من جديد».

طبخ بقدر الحاجة

يقول مصدر من غرفة طوارئ محلية جبل أولياء، إنّ انقطاع الكهرباء المتكرر يسبب إزعاجاً كبيراً للسكان، لكونه يرتبط مباشرة بتوفّر مياه الشرب من الآبار. وأضاف: الناس لم يعودوا يعتمدون على استمرارية الكهرباء، وحتى الطبخ أصبح بقدر الحاجة فقط، حتى لا يفسد ما يتبقى بسبب انقطاع التيار.

وأوضح  لـ«عاين» أن حفظ الأدوية، توفير المياه الباردة، تنقية مياه الشرب، وحفظ الأطعمة، وحتى مجرد الاستمتاع بهواء المروحة أو التكييف (إذا سمح التيار الضعيف بذلك) كلها تتحول إلى تحديات كبرى تمتد لأيام أو لساعات طويلة أحياناً. الوضع يتحسن تدريجياً، لكنه بطيء للغاية”.

نلجأ للاقتصاد في استهلاك المياه لتغطية فترات انقطاع الكهرباء

مصدر من غرفة طوارئ محلية جبل أولياء

وعن كيفية الحصول على مياه الشرب في ظل الانقطاعات قال المصدر: نلجأ للاقتصاد في استهلاك المياه لتغطية فترات انقطاع الكهرباء. من لا يملك صهاريج أو موتورات يضطر إلى جلب المياه من الجيران أو الاعتماد على الآبار المفتوحة التي كانت في السابق مصدراً رئيسياً قبل عودة التيار بشكل تدريجي وتوفّر بعض البدائل”.

انعدام الأدوية

وأشار المصدر إلى أنّ أبرز الصعوبات التي يواجهها المرضى تتمثل في انعدام الأدوية الأساسية مثل دربات البندول، في وقت يتفشى فيه وباء الضنك والملاريا بأعداد كبيرة لا يمكن حصرها بدقة. وتابع: عدد كبير من المرضى لم يعد يلجأ إلى المستشفيات بسبب خلوها من الأدوية المجانية، أو لارتفاع أسعارها في القطاع الخاص إن وُجدت.

ويوضح: (اليوم فحص الضنك يكلف الشخص 10 آلاف جنيه). كذلك غياب المستشفيات التخصصية في الخرطوم وانحصارها في أم درمان يمثل تحدياً كبيراً للحالات المعقدة التي تحتاج إلى تحويلات. أما قلة المستشفيات والمراكز العاملة، فهي رغم ما تقدمه من خدمات، تتحول أيضاً إلى بؤر لانتشار العدوى بسبب التكدس الشديد”.

متطوعون في مستشفى النو بأم درمان

وبشأن الوضع الأمني أوضح: حوادث النهب والاعتداءات أصبحت ملحوظة في الفترة الأخيرة، ومع كثرة البلاغات بدأت الشرطة العسكرية حملات خففت من الظاهرة نسبياً. لكن الملاحظ عودة (الحرامي) التقليدي الذي يقفز الحيطان ليلاً ويسرق.

وحول الأولويات والمخاوف يقول هذا المصدر أن غياب الأمن هو أكثر ما يخشاه السكان. تجربتنا السابقة مع الانفلات الأمني الكامل في عهد المليشيات تجعلنا أكثر قلقاً الآن من عودة تلك الحالة. أما الجوع وانعدام الخدمات فهي تحديات واجهناها من قبل وتمكنا من التكيّف معها”.

الطائرات المسيرة

وفي بعض الأحيان فإن المخاطر الأمنية الناتجة عن تحليق الطائرات المسيّرة تجعل عودة السكان أكثر صعوبة وتعقيدًا. فكل حادثة من هذا النوع تعيد إلى الأذهان هشاشة الوضع الأمني وتضعف الثقة في الاستقرار.

ففي9 سبتمبر 2025 – هاجمت طائرات مسيرة تتبع لقوات الدعم السريع عدة أهداف في مدن العاصمة السودانية الخرطوم الثلاث بما في ذلك محطة كهرباء في وقت مبكر من صباح اليوم الثلاثاء للمرة الأولى منذ عدة أشهر.

يقول مصدر من جنوب الخرطوم لـ(عاين) بعض الأسر ألغت خطط العودة إلى الخرطوم بعد حادثة المسيرات الأخيرة، فيما اختار آخرون البقاء داخل منازلهم أو تجميد تحركاتهم، وهو ما يكشف كيف تتحكم الهواجس الأمنية في قرارات المدنيين وتبقي العودة رهينة بمستوى الأمان أكثر من أي عامل آخر.

يروي مواطن – فضل استخدام اسم مستعار (سامح الطاهر) – أنه اضطر لإلغاء موعد طبي لابنه المريض في أمدرمان صباح اليوم الذي أطلقت فيه المسيرات، خوفًا من المخاطر الأمنية. ويضيف أنه حاول تعويض الموعد لاحقًا، لكنه لم يجد الطبيب، ما يعني اضطراره لإعادة المحاولة مجددًا رغم معاناة طفله الصحية، وهو ما يكشف كيف تؤدي الظروف الأمنية إلى تعطيل الخدمات الطبية الأساسية.

مصدر محلي أوضح  لـ(عاين) أن الحادثة دفعت عددًا من الأسر إلى مغادرة المنطقة بالفعل، بينما توافدت أسر أخرى إليها في ذات التوقيت، ما يعكس ارتباك السكان وتناقض خياراتهم بين النزوح والبقاء.

وفي المقابل، يؤكد مواطن آخر (مبارك شمس الدين – اسم مستعار) أن شقيقته في الخارج طلبت منهم الخروج من المنطقة فور سماعها بالحادثة، لكنه اكتفى بطمأنتها بأن الوضع ما يزال تحت السيطرة.

كما أكد المصدر نفسه أن أسرة كانت قد غادرت إلى مصر عقب اندلاع الحرب، وأكملت بالفعل إجراءات حجز عودتها في نهاية سبتمبر، ألغت خطتها بعد سماع خبر المسيرات. وربطت قرارها بالعودة مرة أخرى باستقرار الأوضاع الأمنية، الأمر الذي يظهر كيف تظل العودة مشروطة بعامل الأمان، وأن أي تهديد جديد قد يبدد محاولات الاستقرار ويعيد إنتاج النزوح من جديد.

حلول بديلة

وقال مصدر آخر من منطقة الكلاكلات جنوب الخرطوم، لـ(عاين) إن الأهالي اضطروا إلى ابتكار حلول بديلة لمواجهة الانقطاعات الطويلة في الكهرباء، إذ يعتمد بعضهم على المولدات الخاصة أو ألواح الطاقة الشمسية لمن استطاع تحمل تكاليفها، فيما يلجأ آخرون إلى الاستعانة بجيران يملكون مصادر بديلة. ومع ذلك، يظل التيار المتوفر ضعيفًا للغاية، بالكاد يغطي احتياجات أساسية، ولا يوفر استقرارًا حقيقيًا للخدمة.

قطوعات للكهرباء بالخرطوم
قطوعات للكهرباء بالخرطوم

أما في ما يتعلق بمياه الشرب، وفقاً لهذا المصدر، فقد دفعت الأزمة المجتمعات المحلية إلى تنظيم جهود جماعية لمواجهة العجز، حيث اعتمد السكان على الآبار الارتوازية داخل الأحياء، وزودوها بمنظومات طاقة شمسية تعمل من شروق الشمس حتى غروبها لضمان استمرار الضخ وتأمين الحد الأدنى من الاحتياجات اليومية.

وفي ظل تدمير معظم المستشفيات ونقص الدواء، تحوّل الحصول على العلاج إلى تحدٍ يومي. ووفقا للمصدر فإن المستشفيات الكبرى التي كانت تتمركز وسط الخرطوم جرى تفريغها من المعدات والملحقات الطبية، ولم يعد السكان يلجأون إليها، بينما تقتصر الخدمات الطبية في الأطراف مثل الكلاكلات على المراكز الصحية الأولية والمستشفى التركي، وسط ارتفاع جنوني في أسعار الأدوية يفوق قدرة معظم الأسر.

الحصول على العلاج تحوّل إلى تحدٍ يومي

 مصدر من الكلاكلات، جنوب الخرطوم

ويضيف المصدر أن الأحياء تعيش حالة من توتر جماعي ناجمة عن الجوع وانعدام الخدمات، وهو ما انعكس مباشرة على الوضع الأمني. فغياب فرص العمل وندرة الغذاء والخدمات الأساسية أدى إلى تفاقم ما يسميه السكان بـ”السيولة الأمنية”، حيث تتزايد حوادث النهب والاعتداء. ومع تناقص الكثافة السكانية في بعض المناطق، يختفي الشعور بالأمان، وتصبح الحركة شبه معدومة ليلًا، إذ يتجنب السكان التنقل بين الأحياء خوفًا من التعرض للخطر.

أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *