النجاة من محرقة الفاشر مدفوعة الثمن
عاين– 20 سبتمبر 2025
مع اشتداد تدهور الأوضاع الإنسانية، خرجت علوية أبكر وأسرتها من الفاشر نحو محلية طويلة في ولاية شمال دارفور في رحلة نزوح مليئة بالمخاطر، وشجعها على خوض هذه المغامرة الدعوات المتكررة من قوات الدعم السريع للخروج من المدينة مع ضمان توفير مسارات آمنة ووسائل للترحيل.
لكن على بعد كيلومترات محدودة من الفاشر وفي قرية “حلة الشيخ”، اصطدمت علوية بواقع مغاير لما يتم الإعلان عنه، ففي تلك المنطقة خصص مسلحو قوات الدعم السريع سيارات أجرة تابعة لهم لنقل النازحين إلى تخوم محلية طويلة الخاضعة إلى سيطرة جيش حركة تحرير السودان قيادة عبد الواحد محمد نور، بمقابل مالي يصل 500 الف جنيه للفرد الواحد، في ممارسات علنية أشبه بالاستثمار بحسب ما روته هذه السيدة لـ(عاين).
ووفقًا لعلوية، خصصت قوات الدعم السريع مساراً للخروج من الاتجاه الغربي لمدينة الفاشر، حيث يغادر النازحون على ظهور الدواب للوصول إلى حلة الشيخ، ومنها ينقلهم مسلحو الدعم السريع إلى منطقة كفوت التي تتمركز فيها سيارات تابعة لقوات الدعم السريع لترحيل الفارين إلى طويلة أو مليط أو كورما حسب رغبتهم، لكن عليهم دفع مبالغ طائلة للتذكرة.
ومنذ هجومها الواسع على مخيم زمزم وأجزاء من مدينة الفاشر في أبريل الماضي، ظلت قوات الدعم السريع تطلق تعهدات مستمرة على منصاتها الإعلامية، بتأمين ممرات آمنة للمواطنين الراغبين في مغادرة عاصمة ولاية شمال دارفور التي تحاصرها لأكثر من عام ضمن محاولات للسيطرة عليها وهي آخر معاقل الجيش في إقليم دارفور، ومع ذلك يتحدث نازحون وصلوا إلى محلية طويلة عن تعرضهم إلى الضرب والنهب والقتل والاعتقال في الطريق على أيادي مسلحي قوات الدعم السريع.
التعهدات بحماية الفارين من الحرب في الفاشر، ظل يرددها كذلك تحالف السودان التأسيسي، والذي يضم قوات الدعم السريع وقوى مدنية وعسكرية، بينها الحركة الشعبية – شمال عبد العزيز الحلو، وحركة تحرير السودان – المجلس الانتقالي برئاسة الهادي إدريس، وتجمع قوى تحرير السودان، بقيادة الطاهر حجر، ومع ذلك تعرض المدنيون إلى مخاطر واسعة في الطريق إلى طويلة.
ثمن النجاة
وارتفعت وتيرة التصعيد العسكري في الفاشر بعدما كثفت قوات الدعم السريع هجماتها على المدنية، بالتزامن مع قصف مدفعي وبالطائرات المسيرة، والتي تصيب بعضها مواقع مدنية؛ مما خلف قتلى وجرحى وسط المواطنين. آخر تلك الهجمات نفذتها طائرة مسيرة يرجح تبعيتها إلى قوات الدعم السريع على مسجد في الفاشر صباح الجمعة التاسع عشر من سبتمبر الجاري، راح ضحيته عشرات القتلى من المدنيين.
ويتزامن التصعيد العسكري مع تراجع مستمر في الأوضاع الإنسانية تجلت في نقص الغذاء والأدوية، واضطرت بعض المطابخ المجانية التي يعتمد عليها غالبية السكان العالقين في الفاشر، إلى التوقف بسبب شح الموارد، وتحت هذه الظروف يرغب البعض في مغادرة المدينة، لكنهم لا يملكون المبالغ المالية الكافية، وفق ما أفاد به عضو في لجان مقاومة الفاشر (عاين).
يطلب مسلحو قوات الدعم السريع مبلغ 500 الف جنيه من كل نازح لتوصيله إلى طويلة، ونحن لا نملك هذه الأموال؛ لأننا خرجنا من حصار
نازحة
وقبل حوالي شهر من الآن، قررت علوية أبكر مع شقيقاتها الثلاث ووالدتها، سلك طريق النجاة من الفاشر إلى محلية طويلة في ولاية شمال دارفور، لكن الرحلة لم تكن سهلة ومليئة بالمخاطر، بخلاف تكلفتها المالية الباهظة.
تقول علوية لـ(عاين): “خرجت من الفاشر إلى قرية يطلق عليها حلة الشيخ، وهناك ركبت عربة جرار إلى منطقة كفوت التي توجد بها سيارات تنقل الناس إلى طويلة بمبلغ مالي قدره 500 ألف جنيه سوداني”. وتضيف أن المبلغ المطلوب كان يفوق قدرتهم المالية بشكل كبير، حيث كانت هي وأخواتها ووالدتها يملكون 300 ألف جنيه سوداني فقط، بينما كانت تكلفة الرحلة الإجمالية تصل إلى حوالي مليونين وخمسمائة ألف جنيه سوداني.

هذا المبلغ الكبير أجبرهم على البقاء في كفوت لمدة ثلاثة أيام، حتى تمكنوا من التواصل مع أخيهم الذي أرسل لهم المبلغ المطلوب ليتمكنوا من مواصلة رحلتهم نحو طويلة.
وتابعت: “هذه مبالغ كبيرة جداً علينا كمواطنين خرجنا من منطقة محاصرة لأكثر من عام. العربات التي تنقل الفارين إلى طويلة تتبع إلى وقوات الدعم السريع. من غير الممكن يرحلوننا بمقابل مالي باهظ، في الوقت الذي يطالبوننا فيه بالخروج من منازلنا، وأنهم سيؤمنون لنا الوصول!”.
تكاليف محبطة
تلك الرواية يؤكدها عضو في لجان مقاومة الفاشر وصل طويلة مؤخراً، حيث ذكر في حديثه لـ(عاين) بعدما طلب حجب اسمه، أن سيارات تابعة إلى قوات الدعم السريع تنقل الفارين من منطقة كفوت إلى تخوم طويلة بمبلغ مالي قدره خمسمائة الف جنيه سوداني، وهي مبالغ كبيرة لا تتوفر للفارين من الحصار، مما يجعلهم يصابون بالإحباط فور الوصول إلى كفوت والسماع بتكاليف الرحلة.
ويقدر مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في السودان “أوتشا” عدد المدنيين الذين ما زالوا عالقين في مدينة الفاشر بولاية شمال دارفور بنحو 250 – 300 الف شخص، يواجهون مصاعب في الحصول على الطعام، لافتاً إلى أن المساعدات لا يمكنها الوصول إلى هناك قبل وقف إطلاق النار.
ويقول مسؤول إدارة المنظمات والمتابعة في الهيئة العامة للعمل الإنساني، بالسلطة المدنية لحركة جيش تحرير السودان في طويلة، حمزة الطاهر عبد الصمد لـ(عاين): “هناك سيارات استثمارية تتبع إلى قوات الدعم السريع تنقل الفارين من الفاشر، إلى طويلة بمبلغ 150 الف جنيه للشخص الواحد، لكن هذه المبالغ ارتفعت إلى 500 الف جنيه، ويقال إنها قفزت إلى 600 الف جنيه خلال الأيام القليلة الماضية، فهذه مبالغ طائلة، وستكون صعبة خاصة على الأسر التي تضم عدة أفراد.
وبحسب الطاهر الذي يتبع إلى حركة جيش تحرير السودان قيادة عبد الواحد محمد نور التي تخضع منطقة طويلة إلى سيطرتها، فإن المواطنين يخرجون من الفاشر عبر الدواب إلى حلة الشيخ، ومنها تنقلهم عربات تتبع للدعم السريع إلى قرية كفوت التي منها يتم ترحيلهم بمقابل مالي إلى طويلة أو مليط أو كورما، وفق رغبتهم.
وذكر أنه بعد الأحداث التي شهدها مخيم زمزم في إبريل الماضي، أغلق الطريق الأساسي للخروج من الفاشر إلى طويلة، وأصبحت المغادرة من الاتجاه الغربي حيث تتمركز سيارات قوات الدعم السريع، لتوصيلهم بمقابل مالي، إذ يسمح للفارين التواصل مع أقاربهم ومعارفهم ليحولوا لهم قيمة التذكرة عبر التطبيق المصرفي.
ويضيف “توصل سيارات قوات الدعم السريع الفارين إلى منطقة قريبة من سيطرة حركة جيش تحرير السودان، وبعدها تتولى الحركة مسؤولية توصيلهم عبر الشاحنات إلى المعسكرات داخل محلية طويلة”.
توصيل مجاني
قواتنا لا تتحصل أي مبالغ من النازحين لتوصيلهم إلى طويلة، ونوفر لهم ترحيلاً وطعاماً وحماية ورعاية طبية، وجميعها خدمات مجانية
مسؤول بالدعم السريع
في المقابل، ينفي القيادي في تحالف تأسيس تحالف السودان التأسيسي، فتحي محمد، أن تكون قواتهم تتحصل مبالغ مالية نظير إيصال النازحين الفارين من الفاشر إلى وجهاتهم، وقال لـ(عاين): “التحالف يوفر كل الوسائل والمؤن التي تجعل الخارجين في أمان. قواتنا موجودة وتستقبل المدنيين، وتوفر لهم الحماية اللازمة، والمؤن من أكل وشرب ودواء وغيرها من المساعدات الإنسانية الضرورية للحفاظ على حياتهم”.
ويشير محمد، إلى أن “الآلاف من المدنيين تم إجلاؤهم هذا العام، ونحن نوصلهم إلى مناطق وجهتهم التي يودون الذهاب إليها”، نافيًا وجود أي سيارات تجارية تعمل لنقل المواطنين.
وقال متحدث باسم قوات الدعم السريع محمد المختار لـ(عاين): “نسمح للمدنيين بالخروج من الفاشر وشُكِّلَت قوة حماية المدنيين، وهي تعمل بالتنسيق مع وكالة الإغاثة الإنسانية وعدد من المنظمات الدولية لتوفير الإغاثة، كما وُفِّر مركز صحي للحالات المرضية الحرجة وسط النازحين من الفاشر”.

ويضيف أن الدعم السريع حدد مسارات للخروج عبر كرني وشقراء إلى طويلة وكورما ومليط، حسب الجهة التي يطلبها النازحون، ويتم ذلك بالتنسيق مع قوات تحالف السودان التأسيسي، والتي من بينها الحركات التي يقودها الطاهر حجر والهادي إدريس.
وينفي مختار وجود سيارات تجارية تعمل لنقل المدنيين، مؤكدًا أن الدعم السريع خصص عربات لنقل النازحين مجانًا، لأنه يدرك أن هؤلاء المواطنين لا يملكون الأموال لدفع تكاليف النقل.
التناقض بين تصريحات الدعم السريع وشهادات النازحين يثير تساؤلات حول حقيقة ما يجري على الأرض. وبينما تصر قوات الدعم السريع على أنها توفر الحماية والممرات الآمنة مجانًا، فإن النازحين يجدون أنفسهم في رحلة معاناة جديدة، حيث يتحول الأمان الموعود إلى عبء مالي ثقيل، يعمق الكارثة الإنسانية التي يعيشونها.
تبقى عيون الآلاف من العالقين في الفاشر شاخصة على وعود لا تتحقق، وعلى مسارات يتحكم فيها سعر النجاة، بينما تتواصل المعارك في المدينة، وتتفاقم الأزمة الإنسانية التي لا يبدو أنها ستنتهي قريباً.