الزراعة المنزلية.. درع بيئي واقتصادي في حرب  السودان

عاين- 14 أغسطس 2025

مع اشتداد الحصار وتوقف إمداد السلع بسبب المعارك العسكرية، وجدت خالدة التجاني، وآلاف السكان العالقين معها في ضاحية الحاج يوسف شرقي العاصمة السودانية الخرطوم، في الزراعة المنزلية أملا للنجاة. فعلى ضفاف النيل بجوار بيتها استطاعت توفير حاجتها من الخضروات وبيع الفائض.

وعلى نحو سريع، تحولت فكرة خالدة التجاني، إلى مبادرة التفت حولها النساء وقدنها، وبمساعدة الشباب في الحي السكني، أصبح زراعتها رافداً أساسياً للمطابخ المجانية “التكايا” بالخضروات المختلفة، لتغذي شريان الحياة للسكان العالقين وسط نيران الحرب في المنطقة.

وخلفت الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع التي اندلعت في 15 أبريل 2023م، واقع إنساني قاسي مع توسع نطاق الجوع، مما دفع المواطنين إلى ابتداع الحلول، فكانت مبادرات المطابخ المجانية “التكايا”، بينما لجأ بعض المواطنين إلى زراعة الخضروات المختلفة داخل منازلهم وبمحيطها باستخدام مواد بسيطة وريها.

تحت نيران القناصة استطاعت سيدة في شرق الخرطوم الزراعة بمحيط منزلها، ودعمت بمحصولاتها المطبخ المجاني لمكافحة الجوع

وتروي خالدة التجاني وهي متطوعة تعمل كنائب منسق غرفة طوارئ حلة كوكو ومشرف تكية حي العرب لـ(عاين) أنها انخرطت في نقاشات مع النساء لمواجهة تحدي الأزمة المعيشية وكيفية توفير الطعام، حيث كان الحي مكتظاً بالسكان الذين آثروا البقاء في منازلهم، فرغم المخاطر الواسعة وانتشار المسلحين “القناصة”، قرروا الزراعة على ضفاف النيل.

وتقول: “كان لا بد من بدائل لتوفير الطعام. ومن هنا وُلدت فكرة استغلال ضفاف النيل الأزرق لزراعة الخضروات حيث الأرض خصبة والماء متاح. بعد اجتماع في التكية، اتفق الجميع على ضرورة إدخال محاصيل خضراء لمكافحة سوء التغذية، خاصة بين النساء والأطفال، وفي اليوم التالي مباشرة، بدأ التنفيذ”.

وتضيف: “أحد الخيرين تبرع بالبذور، وتكفل الشباب بتجهيز الأرض، وزُرعت الرجلة، الجرجير، البصل، الجزر، النعناع، الطماطم، وحتى الباذنجان رغم المخاطر الأمنية، ونقص الوقود لتشغيل مضخات المياه، لكن نجحت الزراعة في توفير خضروات للتكية، إضافة إلى بيع الفائض في سوق ستة بالحاج يوسف لتأمين دخل بسيط”.

روح التضامن

لم يكن الأثر ماديًا فقط، بل نفسيًا واجتماعيًا أيضًا، تقول خالدة “تغيرت نفسية الشباب، صار لديهم عمل ونشاط بدل الجلوس في المنازل لأشهر، كما لعبت النساء دورًا محوريًا في إدارة التكية والطهي، ما عزز روح التضامن، وجعل من الحي أسرة واحدة في مواجهة الأزمة”.

واليوم تتطلع هذه السيدة إلى أن تتحول هذه المبادرة إلى مشروع زراعي اقتصادي دائم، يستمر لما بعد الحرب، ليعيد الأمل، ويعزز الأمن الغذائي، ويكرس مبدأ الاكتفاء الذاتي الذي أثبت نجاحه حتى في قلب الحصار.

وفي ولاية كسلا بشرق السودان برزت مبادرات شبابية تعكس روح الأمل والبناء، من بينها مبادرة للتشجير والزراعة المنزلية يقودها متطوعون في غرف الطوارئ من بينهم زين العابدين، الذي أفاد خلال مقابلة مع (عاين) بأن الاهتمام بالتشجير والزراعة، خاصة في أوقات الأزمات، يوجه الناس نحو السلام والبناء، ويغرس مفاهيم وأفكاراً جديدة في المجتمع.

ويقول: إن “اختيار المواقع المستهدفة بالتشجير تم وفق الحاجة الفعلية، إذ جرى التركيز على المدارس والمراكز التي تفتقر لوجود الأشجار، وخصوصاً تلك التي توفر الظل، ولا تؤثر سلبًا على شبكات المياه الأرضية أو المباني. وقد لاقت المبادرة قبولًا كبيرًا من المشرفين على المراكز والمستفيدين، الذين رحبوا بحرارة بالشباب المتطوعين بالفكرة”.

ويشير زين العابدين، إلى أن أبرز التحديات التي واجهتهم كانت نقص المياه ورغم ذلك، لم يثنِ الأمر عزيمة الفريق، إذ زاد الحماس بعد أن طالب المستفيدون بزيادة عدد الأشجار والتنوع بينها، بإضافة أشجار الزينة والأشجار المثمرة، كما أبدى عدد من حراس المراكز اهتمامًا خاصًا بالزراعة، وأكدوا رغبتهم في الحصول على مواد وأدوات وبذور لدعم الزراعة المنزلية.

من خلال هذه التجربة أدرك القائمون على المبادرة أن نجاح مثل هذه المشاريع يتطلب استمرار التعاون بين الشباب والمجتمع المحلي، إضافة إلى التنسيق مع الجهات المعنية. كما شددوا على أهمية توفير أدوات ومعينات العمل، وتدريب القائمين على المراكز في أساليب العناية بالأشجار، إلى جانب تدريب المتطوعين لضمان تنفيذ العمل بطريقة منظمة وصحيحة.

 ويرى زين العابدين أن المتابعة المستمرة بعد الزراعة، من خلال الري، والتسوير، والتقليم، عنصر أساسي لضمان استدامة الأثر البيئي والتنموي لهذه الجهود.

السيادة الغذائية

في ظل مشهد إنساني يزداد قتامة، حيث تلوح المجاعة في الأفق مهددة حياة ملايين السودانيين بعد أكثر من ثلاث سنوات من الحرب، تبرز السيادة الغذائية كمفهوم محوري لإعادة بناء السودان من الجذور، واستعادة قدرة المجتمعات على التحكم في مواردها ومصائرها.

يقول الخبير في برامج الزراعة ونظم الغذاء أبو بكر عمر، إن السيادة الغذائية في السياق السوداني ترتبط تاريخيًا بعجز مزمن في إدارة الأصول المجتمعية المرتبطة بالنظام الغذائي، ويذكر أن السودان شهد ثماني مجاعات خلال الـ150 عامًا الماضية، وهو ما يعكس أزمة متجذرة في طريقة تعامل الدولة والمجتمع مع الموارد الزراعية والمائية.

ويضيف أبوبكر الذي عمل في السابق مع “الفاو” وبرنامج الأغذية العالمي في مقابلة مع (عاين) “ما نحتاجه اليوم ليس فقط استعادة الإنتاج، بل ابتكار نماذج عمل وتعاقد تضمن استخدامًا فعالًا وعادلًا للأصول المجتمعية، وتخلق توازنًا جديدًا بين الحقوق والواجبات”.

ووفق أبو بكر لم يعد الاكتفاء بالحديث عن إشراك المجتمعات في صياغة السياسات كافيًا، بل المطلوب هو نهج تشاوري وتصميمي حقيقي ينطلق من الميدان، حيث تُجرَّب النماذج الزراعية مع الناس على أرض الواقع، ويُقنعون بجدواها من خلال التجربة المباشرة، فالسياسات التي تُكتب في المكاتب، ولا تُختبر في الحقول غالبًا ما تفشل.

وفي ظل انهيار البنية التحتية وتدهور مؤسسات الدول يرى، الخبير الزراعي أن على الحكومة أن تدرك أن الجوع والفقر والفساد ليست أزمات اقتصادية فحسب، بل تهديدات خطيرة للسلم المجتمعي، ما يستوجب حشدًا وطنيًا وجماعيًا للتعامل معها، بعيدًا عن الصراعات البيروقراطية والانقسامات السياسية.

أما عن صغار المزارعين، فيرى أن مستقبلهم يكمن في التنظيم المحلي عبر التعاونيات أو الشركات الصغيرة التي تمنحهم قوة تفاوضية أعلى، وتعزز الشفافية، وتحدّ من فرص الاستغلال، خاصة في ظل غياب آليات تعويض أو دعم حكومي فعّال.

مستقبل بيئي آمن

الزراعة المنزلية تمثل ركيزة مهمة في تعزيز التنوع البيولوجي والحفاظ على الموارد الطبيعية في أوقات الحروب والأزمات

خبير بيئي

من جهته، أكد أستاذ الغابات والبيئة بجامعة بحري (سابقًا) البروفيسور طلعت دفع الله عبد الماجد، أن الزراعة المنزلية تمثل ركيزة مهمة في تعزيز التنوع البيولوجي والحفاظ على الموارد الطبيعية خاصة في ظل الأزمات والحروب.

“الزراعة المنزلية تسهم في تنوع النباتات وجذب الملقحات. وقد أثبتت دراسات عديدة أن الحدائق المنزلية، حتى الصغيرة منها على الشرفات، توفر غذاءً أساسيًا للنحل على مدار العام”، يقول طلعت لـ(عاين).

وأشار إلى مبادرات بارزة ظهرت قبل الحرب مثل بيتنا أخضر وحركة السودان الأخضر، التي أنشأت شبكات بين النازحين في دور الإيواء والمدارس لاستغلال المساحات الصغيرة في الزراعة.

كما أشاد بمبادرة “الزريع السوداني” التي تدعو إلى إدخال الأشجار والخضروات للمنازل بهدف إصحاح البيئة، وزيادة الغطاء النباتي، وتحسين جودة الحياة، بما يعزز التنوع البيئي، ويوفر موائل للحشرات والطيور، ويحافظ على النباتات المحلية.

وأوضح البروفيسور أن الزراعة المنزلية ليست جديدة على المجتمع السوداني، فقد انتشرت في مناطق كردفان ودارفور منذ عقود، حيث كان الأهالي يزرعون في الفسحات حول البيوت ما يُعرف محليًا بـ”الجباريك” أو “الجُبراكة” لتقليل النفقات وتجنب الاعتماد الكامل على الأسواق، وكتب عن هذه الممارسات منذ ستينيات القرن الماضي.

ويعتبر طلعت أن وجود النباتات المنزلية تحسّن جودة التربة عبر استخدام السماد العضوي، ما يساعدها على الاحتفاظ بالمياه وتقليل خطر التعرية، كما تساهم جذور الأشجار في تثبيت التربة، والسماح لمياه الأمطار بالتغلغل والحفاظ عليها لفترات أطول، وهو ما يساهم في تغذية المياه الجوفية وتقليل الفيضانات، وكذلك التقليل من التلوث الهواء تحديدا بعد انتشار الغازات السامة؛ بسبب المعارك وانتشار الأمراض بسبب الجثث، والأضرار البيئية المتعلقة بالأسلحة المستخدمة في الحرب.

وبحسب بروف طلعت فالزراعة المنزلية، تقدم خدمات بيئية كبرى مثل تقليل الحرارة المحلية والانبعاثات الإشعاعية، وتحسين جودة الهواء، وعزل الكربون، وإنتاج غذاء صحي محلي، وتقليل الحاجة إلى التنقل للأسواق، ما يخفض “البصمة الكربونية” كما تساهم في الحفاظ على التنوع الوراثي للنباتات وخاصة الأنواع المحلية.

اكتفاء ذاتي

ترى الباحثة الاقتصادية، كبير مسؤولي البرامج في منظمة التنمية الاقتصادية الدولية ميادة عبد العظيم، أن الزراعة المنزلية باتت اليوم تلعب دوراً محورياً في السودان، خاصة في ظل الأزمات المتراكمة التي تعصف بالبلاد، من حصار مباشر وغير مباشر على عدد من المدن، إلى اضطرابات الإمداد الغذائي المرتبطة بالركود الاقتصادي، وتذبذب أسعار العملات، وانخفاض الطلب نتيجة فقدان القوة الشرائية ومصادر الدخل والوظائف.

الزراعة المنزلية مهمة لتحقيق الاكتفاء الذاتي للأسر والاستجابة لمشاكل سوء التغذية وتخفيف آثار الجوع

 باحثة اقتصادية

وتوضح ميادة في مقابلة مع (عاين) أن أهمية الزراعة المنزلية تكمن في قدرتها على تحقيق الاكتفاء الذاتي على مستوى الأسر، والاستجابة لمشاكل سوء التغذية، والتخفيف من آثار الجفاف والمجاعة التي باتت واضحة، إضافة إلى تقليل هشاشة الأسر أمام الحرمان الممنهج من الغذاء. وهي تمنح الأسر نوعاً من الاستقلالية، وتقلل اعتمادها على سوق غير مستقر أو عادل.

وتربط ميادة هذه التجربة بمفهوم “السيادة الغذائية”، معتبرة أن الزراعة المنزلية قد تكون نواة لمشاريع مجتمعية أكبر نحو الاكتفاء الذاتي، وأردفت حتى وإن كانت في الوقت الراهن تجارب صغيرة لا يمكنها بمفردها إحداث تحول اقتصادي شامل في ظل الحرب. وتشير إلى أن إهمال الدولة للزراعة خصوصاً محاصيل الغذاء بعد اكتشاف النفط، والتركيز على المحاصيل التصديرية على حساب الخضروات والفواكه والمحاصيل المحلية، جعل هذه المبادرات أكثر إلحاحاً.

وتقول “الزراعة المنزلية تفتح المجال لتبادل الخبرات بين الأسر والمجتمعات، وتمكّنها من دخول السوق عبر بيع الفائض، مع إمكانية تطوير أساليب تمويل مبتكرة تخرجها من دائرة المشاريع الصغيرة التقليدية”.

وتضيف “هذه التجربة تحمل بعداً اجتماعي مهماً، إذ يمكن أن توفر للنساء قدراً من الاستقلالية، خصوصاً في أوقات الحرب التي ينخرط فيها عدد كبير من الأزواج والآباء في العمليات العسكرية. فالزراعة المنزلية قد تصبح مصدراً للدخل والاستقلال، وقاعدة لتنظيمات محلية متماسكة، قائمة على استغلال المساحات داخل وحول المنازل، وتخطيط الإنتاج بما يغطي الاحتياجات، ويستفيد من الفوائض. وتختم بالتأكيد على أن نجاح هذه المشاريع يعتمد على كونها ذاتية ومحلية الطابع”.

أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *