الجنيه السوداني يواجه الانقراض بمناطق سيطرة الدعم السريع
عاين-13 أغسطس 2025
أوراق ممزقة، وشح حاد في السيولة النقدية، تروي الحال الذي وصل إليه الجنيه السوداني في إقليمي كردفان ودارفور غربي البلاد، بعدما ظل يكافح وحيداً في غياب للجهاز المصرفي لأكثر من عامين، نتيجة خروج كافة المصارف عن الخدمة؛ بسبب الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع، مما خلف معاناة كبيرة لدى المواطنين.
ومع تطاول أمد الصراع، تتصاعد المخاوف من انقراض العملات الورقية من الجنيه في مناطق غربي السودان تخضع لسيطرة قوات الدعم السريع، الأمر الذي يصعب المعاملات التجارية، ويهدد بضياع مدخرات المواطنين.
أصبح الكاش منعدماً تماماً، وصارت معظم المعاملات بالتطبيقات المصرفية وسط معاناة بسبب انقطاع الإنترنت، وربما ينقرض الجنيه قريباً
تاجر من غرب كردفان
يقول محمد حسن الهادي تاجر من ولاية غرب كردفان لـ(عاين): “الكاش أصبح منعدماً تماماً، وبتنا نتعامل بالتطبيقات المصرفية فقط، والتي لا تتوفر لجميع الناس، كذلك هناك انقطاع تام في شبكات الاتصالات والإنترنت، مما يعقد المعاملات التجارية اليومية. الوضع صعب للغاية، وربما ينقرض الجنيه تماماً خلال مدى قريب من الآن”.
ونسبة لعدم وفرة السيولة النقدية، يضطر عبد القادر عباس هو مواطن من غرب كردفان، إلى ترك كل المبالغ التي يرسلها له ابنه من الخارج شهرياً في الحساب المصرفي لأحد أصحاب المحال التجارية في منطقته، وينفقها في شراء المواد الغذائية، دون أن يضع منها جنيهاً واحداً في جيبه، وفق ما يرويه لـ(عاين).
حياة بلا نقود
ويقول: “لا يمكن أن تستمر الحياة بلا عملات نقدية، هناك مجاملات وتواصل في المناسبات الاجتماعية يتطلب وجود كاش. نحن نعاني بشدة من أزمة السيولة، فلا نستطيع بيع أي شيء حتى عندما نريد بيع أغنام أو محصولات زراعية يشترط المشتريين سداد قيمتها عبر التطبيق المصرفي بنكك، وهو وسيلة غير فعالة، ويرفضها الناس بسبب غياب شبكات الاتصال”.
ويضيف: “كان التجار يستقطعون مبالغ كبيرة كعمولة على المبالغ المُرسلة عبر تطبيق بنكك تصل إلى 20 بالمئة من إجمالي المبلغ المراد استبداله، لكن منذ شهرين أصبح التجار يرفضون استقبال تحويلات على حساباتهم المصرفية، بسبب الشح الكبير في السيولة النقدية. هذه معاناة كبيرة نتمنى أن تتوقف هذه الحرب اللعينة”.
وفي ديسمبر الماضي، شرع البنك المركزي في السودان في استبدال العملة الوطنية من فئتي 500 و1000 جنيه، بأخرى جديدة، في حين بقيت العملات القديمة من الجنيه سارية في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع في إقليمي كردفان ودارفور غربي البلاد، وقال البنك المركزي في تعميم صحفي وقتها إن الفئات القديمة تظل سارية مبرئة للذمة في الولايات المتأثرة بالحرب.
ومنذ اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023م، توقفت جميع المصارف في ولايات دارفور وكردفان بشكل كامل، وأصبحت الأموال والعملات النقدية تتداول خارج الجهاز المصرفي، في أيدي المواطنين، مما أدى إلى توقف عمليات استبدال العملات التالفة بأخرى سليمة عبر إيداعها لدى البنوك، الشي الذي تسبب في تآكل الكاش مع تطاول أمد الصراع المسلح.
هناك شح كبير في السيولة، وتعرضت الفئات الصغيرة من الجنيه للتلف، بينما يوجد تزويد وسط الأوراق الكبيرة، مما تسبب في معاناة كبيرة للسكان
مواطن من الجنينة
وفي مدينة الجنينة بولاية غرب دارفور، يرفض التجار التعامل بفئتي 100 و200 جنيه، نسبة لتعرضها للتلف الشديد، وسط ضغوط من السلطات المدنية التابعة لقوات الدعم السريع، لجعلها فئات مبرئة للذمة، وأصدرت في يونيو الماضي قرارا يلزم بالتعامل بجميع الفئات النقدية مع وضع عقوبات على الذين يخالفون هذه الأوامر.
عملات مزيفة
ويقول آدم عبد الرحمن وهو مواطن من الجنينة لـ(عاين): “هناك شح كبير في السيولة النقدية في المدينة، وفي مقابل ذلك توجد عملات مزورة بكميات كثيرة خاصة وسط الفئتين الكبيرتين 500 و1000 جنيه، وظللنا نتعرض للغش باستمرار، وأصبح التجار يفحصون المبالغ النقدية قبل إكمال عملية البيع، ويستخرجون الأوراق المزيفة من وسطها، ويقولون لنا هذا (متك) أي مزور ولا نستلمه”.
ويضيف: “في بعض المرات كان بحوزتي مبلغ 400 الف جنيه، وعندما ذهبت إلى السوق وجدت أن 150 الف منها مزورة، وكثيرون مثلي تعرضوا للغش والخداع في عمليات البيع والشراء. نحن نفقد مدخراتنا بشكل يومي بسبب النقد المزيف، لذلك أصبح معظم السكان يفضلون التعامل بالتطبيق المصرفي بنكك، رغم العمولات الطائلة المفروضة عليه”.
وقال تاجر آخر من الجنينه لـ(عاين): “العملات الورقية من فئتي مائة ومائتي جنيه أصبحت ممزقة ومهترئة، لذلك لا ينبغي أن نتسلمها. نحن لدينا سوق هنا اسمه الكتكت لتبادل العملات يضم تجار من مختلف دول الجوار، ويرفض التجار من تشاد وغيرها استبدال الفئات النقدية الصغيرة من العملة السودانية، وفي الغالب يستلمونها عن طريق عدها بالرزمة وليس الورقة، وبأسعار منخفضة للغاية مقارنة بقيمتها الحقيقية.
وبحسب التاجر الذي طلب عدم ذكر اسمه، فإن سوق الكتكت بمثابة منطقة تجارة حرة لتبادل العملات، حيث يذهب التجار السودانيون، ويستبدلون الجنيه، بالفرنك الأفرو أوسطي، حتى يتمكنوا من شراء البضائع من تشاد ومختلف دول الجوار، وجلبها إلى الداخل، لذلك من الطبيعي أن يوفى باشتراطات المنطقة الحرة، فلا أحد يقبل بعملات ورقية ممزقة أو مزيفة.
وتابع: “هناك شح كبير في السيولة النقدية، وربما يقع الأثر الأكبر على المواطنين العاديين، أما التجار يواجهون هذه المشكلة عن طريق تنشيط التعاملات بالتجارية بالتطبيق المصرفي، رغم أن السداد عن طريق الكاش ومنخفض عن بنكك، إلا أنه يمثل حلا لهذه الأزمة، ويجعل المعاملات التجارية مستمرة”.
ضخ متعمد
وفي نهاية يوليو الماضي، شكل تحالف السودان التأسيسي الذي يضم قوات الدعم السريع وحركات مسلحة وقوى مدينة، حكومة ثانية في البلاد من مدينة نيالا في دارفور، وجرت تسمية قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو رئيساً للمجلس الرئاسي، ورئيس الحركة الشعبية – شمال عبد العزيز الحلو نائباً له، كما تم تعيين عضو مجلس السيادة سابقاً محمد الحسن التعايشي رئيساً للوزراء.
وكان تحالف السودان التأسيسي برر خطوة نحو تشكيل سلطة موازية لتلك التي يقودها الجيش من بورتسودان، برغبته في معالجات الأزمات المعيشية والخدمية التي يعاني منها السكان في غرب السودان، والتي على رأسها العملات النقدية، والأوراق الثبوتية، والتعليم والصحة، وغيرها من الخدمات الضرورية.
ضخت قوات الدعم السريع عملات مزيفة عن عمد في مناطق سيطرتها في محاولة لمعالجة أزمة الكاش
مصدر مقرب من الدعم السريع
وتعيش مدينة نيالا العاصمة المتوقعة لحكومة تحالف السودان التأسيسي، أوضاعاً مماثلة في شح العملات مع انتشار كثيف للأوراق المزيفة خاصة الفئات الكبيرة، وسط اتهامات لقوات الدعم السريع بضخها عن عمد في محاولة لمعالجة أزمة الكاش.
وقال تجار من نيالا لـ(عاين) بعدما طلب عدم ذكر اسمه بسبب المخاطر الأمنية: إن “المدينة كانت تشهد أزمة حادة في السيولة النقدية لأشهر ماضية، لكن فجأة ظهر كاش بكميات كبيرة، لكن جميعها مزيفة، بعض الأوراق تحمل أرقاماً متسلسلة متطابقة، وأخرى لا يوجد فيها أي شيء، ولا يستطيع التجار رفضها؛ لأن المسلحين ربما يعتقلونه، أو يقتلونه”.
وذكر مصدر مقرب من الدعم السريع لـ(عاين): “القوات الدعم أدخلت عملات مزيفة إلى مدينة نيالا ومختلف المدن التي تسيطر عليها في إقليم دارفور وكردفان، ضمن خطة لتلافي أزمة السيولة النقدية التي تسببت في معاناة كبيرة للمواطنين”، لافتاً إلى أن هذا الممارسة مؤقتة إلى حين مباشرة حكومة تحالف السودان التأسيسي مهامها والبدء في طباعة العملة الجديدة.
وضع قاسي
وبدا الوضع أكثر قسوة في مدينتي الدلنج وكادوقلي بولاية جنوب كردفان، الخاضعتين إلى سيطرة الجيش، وتفرض عليهما قوات الدعم السريع والحركة الشعبية – شمال، حيث تكاد العملات الورقية منعدمة، مما فاقم محنة الحرب على آلاف السكان العالقين فيها، وذلك وفق نقله محمد سيد اسم مستعار لمتطوع في كادوقلي لـ(عاين).
وقال سيد، إن “عمولة استبدال الأموال من التطبيق المصرفي إلى الكاش وصلت 50 بالمئة من إجمالي المبلغ، في كثير من الأحيان لا تتوفر هذه المعاملات نتيجة لانعدام السيولة النقدية”.
ويشير إلى أن شح السيولة ألقى بأعباء إضافية على المواطنين في مدينتي كادوقلي والدلنج، حيث يزيد سعر السلع أو المواد الغذائية إلى الضعف حال كان سداد قيمتها عن طريق التطبيق المصرفي، وعلى سبيل سعر كيلوجرام من السكر بمبلغ 20 الف جنيه في حال السداد نقدا، و40 الف جنيه عن طريق بنكك.
الواقع نفسه تشهده ولاية غرب كردفان، فبحسب التاجر محمد حسن الهادي، فإن سعر جوال السكر زنة 50 كيلوغراماً بمبلغ 270 الف جنيه بالكاش، و295 الف جنيه بالتطبيق المصرفي، وتزيد هذه الأسعار على المواطنين عندما يأتون ويشتروا من المحال التجارية.
ويقول: “نحن نعاني بشدة بسبب شح الكاش والتلف الكبير في العملات الورقية، كذلك التزوير الذي ينتشر وسط الفئات النقدية الكبيرة. نخشى أن ينقرض الجنيه، ونعود سنوات إلى الوراء بعدما نضطر للتعامل بصكوك مكتوبة بخط اليد لتسيير المعاملات بين التجار والمواطنين”.
مركزية العملات
ويشير الخبير الاقتصادي د. هيثم فتحي، إلى أن شح السيولة النقدية من الجنيه، تسبب في نشوء أسواق بديلة في غرب السودان يجري فيها التعامل بمختلف العملات، كما اعتمدت مناطق أخرى في إقليم دارفور على عملات أخرى في التعاملات اليومية، مما قلل من مركزية العملة المحلية كمصدر نقدي في الإقليم.
ويقول فهمي في مقابلة مع (عاين): “تهدد العملات في دارفور أمراً واقعاً وليس اختياراً، لكن له سلبيات أبرزها، أن التاجر يستغل الأمر لصالحه، ويضع هامشا من الربح يرضيه هو فقط، كما أن التحويل من الجنيه للعملات الأخرى مربك لغالبية الأهالي، لذلك يحتم على المواطن معرفة أسعار العملات وعلاقتها بالجنيه.
ويضيف: “هذا الوضع تسبب في مشكلات عميقة تتراوح بين ظهور الأسواق السودان وتفاوت الأسعار بين مناطق دارفور، والاستغلال التجاري، وكلها عوامل تؤثر بشكل مباشر على حياة المواطنين”.