خطر يزحف على الرمال.. لدغات قاتلة للعقارب شمالي السودان
عاين- 10 أغسطس 2025
العقارب في شمال السودان تفصيل بيئي متجذر ودائم، وخطرٌ غالباً ما يتحوّل إلى مأساة في القرى والمناطق الطرفية كما في المدن. مع كل لدغة، تُختبر قدرة المجتمع على المواجهة بين غياب المصل وصعوبة إسعاف المصاب، يبقى الأطفال هم المُهدد الأول. في ظل تواضع الإمكانيات، تُصبح النجاة من السم مزيجًا من الحظ، والمعرفة، وسرعة البديهة.
في قوز جبة الواقعة غرب مدينة شندي بولاية نهر النيل، أصبحت العقارب جزءً من الحياة اليومية، لا طارئاً يُفزع الناس. هناك، لا تمضي بضعة أيام حتى تظهر عقرب كزائر سام في ركنٍ من أركان البيت أو على عتبات الحقول. أمجد عصام، أحد سكان القرية، وثّق بكاميرا هاتفه عقرباً ضخماً قضى عليه، وقال في مقابلة مع (عاين) بأسلوب يشبه الاعتياد أكثر من الذعر: “أصبحنا نجد عقرباً كل يومين تقريباً، وأحياناً تكون بأحجام كبيرة.”
لكن المفارقة أن أغلب أهالي قوز جبة لا يلجأون إلى المشفى عند حدوث اللدغة، رغم أن المصل غالباً ما يكون متوفراً في مستشفيات المدن الكبيرة في الشمالية ونهر النيل، ويبعد المستشفى من قرية قوز جبة نحو 15 كيلومتر إلا أن سكانها يتمسكون بعلاجات شعبية متوارثة، كالحجامة أو شق موضع اللدغة بالشفرة لاستخراج السم، “الثقافة أقوى من الدواء”، كما يعلق أمجد.
في مثل هذه الأجواء، يتعدى الخطر سم العقرب ليصل إلى التصورات المغلوطة التي تنسج حوله، وتُبقي الضحايا على مسافة من العلاج الناجع. ومع تردي الوعي الصحي، تصبح لدغة العقرب معركةً غير متكافئة.
حياة المناصير: صراع غير متكافئ
في منطقة المناصير “محلية البحيرة” الواقعة على ضفاف النيل شمالاً، حيث الطبيعة قاسية والخدمات شحيحة، يعيش السكان على الزراعة وصيد الأسماك، ويعتمدون على النهر في التنقل والحياة، فهو شريانهم الذي يمدهم بمتطلبات الحياة والوريد الذي يربط قراهم بالعالم الخارجي.
غير أن خلف هدوء النيل، تختبئ كائنات لا ترى في البشر سوى تهديد… فتهاجمهم دفاعاً؛ فالعقارب هناك ضيف دائم، يعرف طريقه إلى البيوت، ولا يميز بين صغير وكبير.
تحكي فاطمة محمد أحمد: لـ(عاين) عن الرضيعة التي اختارت لها إسم لدُن اسم لم تحمله سوى تسعة أيام فقط قبل أن يتسلل سم عقرب إلى جسدها الصغير واضعاً نهاية مأساوية لحياة لم تبدأ بعد و واشماً قلب فاطمة بألم وحزن عميق على صغيرتها.
العقارب أصبحت مألوفة في البيوت والحقول، واللدغات شائعة جداً. نعتمد على العلاج التقليدي، وننقل الحالات الخطرة إلى مناطق بعيدة
مواطن- المناصير
يقول حاج حمد فتح الرحمن إعلامي من أبناء المنطقة و عضو بعدد من المبادرات في مقاملة مع (عاين): “العقارب أصبحت مألوفة في البيوت والحقول، واللدغات شائعة جداً. نعتمد على العلاج البلدي أو حجر العقرب، وننقل الحالات الخطرة إلى مناطق بعيدة.”
“محلية البحيرة” لا تعرف الطرق المعبدة، ولا شبكات الاتصال، ولا كهرباء رغم أن بعض قراها تبعد من سد مروي فقط 5 كيلومتر . في غياب الدولة، تصر المجتمعات المحلية على مقاومة الصمت. شباب القرى يجمعون التبرعات لشراء بطاريات لتشغيل ثلاجات حفظ الأمصال، واستخدموا المصابيح فوق البنفسجية لاصطياد العقارب ليلاً.
محمد الشفيع، أحد هؤلاء الشباب يروي لـ(عاين) تجربتة الشخصية ويقول: “نخرج ليلاً بالأضواء فوق البنفسجية، كل شخص قد يقتل أكثر من 30 عقرباً، ونعود بأكثر من 300 عقرب في الليلة الواحدة.”
ورغم جهوده وترقبه لخطر العقارب في كل القرية وما جاورها فقد تعرّضت ابنته، ذات العام والنصف، للدغ قبل أسبوع. لم يتغير شيء. القدم تُربط، الجرح يُفتح، والبحث عن المصل يبدأ عبر رحلة في قارب، يشعر بسعادة يخالطها الخوف بنجاتها آملا الا تتكرر. يحلم محمد، أن تتحول هذه الأزمة إلى فرصة، باستخلاص السم وبيعه، لكن الواقع أقسى من الأحلام.
“كيف نستخرج السم ونحن لا نجد حتى حقنة المصل؟!”، يتساءل بمرارة.
ورغم غياب أرقام رسمية دقيقة من وزارة الصحة حول الوفيات المرتبطة بلدغات العقارب تشير تقديرات محلية إلى وفاة نحو 900 طفل في المناصير بسبب العقارب منذ 2016، لم تأتِ الحكومة بخطة واضحة، واكتفى المواطنون بمبادرات ذاتية مثل “شباب وطلاب من أجل تنمية المناصير” و”سوا بنقدر”، التي قدّمت قوافل صحية وأمصالاً ووعياً. لكن ذلك لا يكفي حسب حاج حمد.
“المسلط”: جَعلْ الهواية وقاية
وفي أقصى الشمال، في قرية أرقو السرارية، برز اسم حسن العندي، المعروف بـ”المسلط”، كصيّاد عقارب غير تقليدي. إختار حسن صيد و تصوير العقارب كهواية. مسلحاً بكشاف فوق بنفسجي وملاقط بسيطة، يخرج ليلاً مع صديقيه في مهمات صيد تُعرف بينهم باسم “آخر طلعة” – دعابةً تُخفي شيئاً من القلق المشروع.
لدينا نوعان من العقارب: الليريوس والأندروكتونس، وكلاهما فتاك. أستطيع التمييز بينهما بسهولة حتى انني أميز الذكر عن الانثي
صائد عقارب
يقول حسن لـ(عاين): “لدينا نوعان من العقارب: الليريوس والأندروكتونس، وكلاهما فتاك. أستطيع التمييز بينهما بسهولة حتى انني أميز الذكر عن الانثي.”
جهوده التوثيقية غيرت نظرة الناس له، فتحوّل من مجرد شاب يطارد العقارب، إلى رمز محلي للوعي والمقاومة. يفكر في استخراج السم، لكن الاصطدام بالتعقيدات القانونية والبيروقراطية يجعله يتمهّل فقد علم أن التصديق لمثل هذا العمل يحتاج لكثير من الإجراءات في المحلية والحياه البرية، غير الأدوات المفترض جلبها من خارج السودان ولا يعلم حسن حتى الآن عن جمركها ونقلها. ولكنه يركز حالياً على التخلص منها كمشكلة تؤرق أهل قريته رغم علمه بصعوبة المهمة “لا يمكن التخلص من العقارب كلياً، لكن يمكن تقليل اللدغات”، يختم بثقة.
بيئةٌ مثالية للعقارب… وخطرٌ متزايد على البشر
السودان، بمساحاته الشاسعة ذات الطبيعة الصحراوية وشبه الصحراوية، يحتضن بيئة مثالية للعقارب. فالمناطق الحارة والجافة، مثل ولايتي نهر النيل والشمالية، توفر الظروف المناسبة لتكاثر وانتشار هذه الكائنات.
مديرة مركز أبحاث الكائنات السامة بجامعة الخرطوم، رانية محمد حسن د.بليلة، توضّح: “توجد 17 نوعاً من العقارب في السودان، تنقسم إلى ثلاث درجات من السمية شديد متوسط وقليل السمية.” من بين الأنواع الأخطر، هناك عقرب أمدرمان (Leiurus quinquestriatus)، المعروف محلياً بـ”سقد” أو “أم سويط”، وهو الأكثر شيوعاً، بلونه الأصفر المميز وعقلته السوداء. وهناك أيضاً عقرب الصفيح (Androctonus amoreuxi)، شديد السمية، بلونه الأصفر الباهت وذيله السميك.
تضيف د. رانية في مقابلة مع (عاين):”العقارب لا تهاجم الإنسان، بل تلدغه دفاعاً عن النفس عند شعورها بالخطر. والتخزين العشوائي داخل المنازل ما يعرف ب”الكرور” يوفر لها بيئة مثالية.”
رغم جهود المركز في التوعية“مثل مبادرته عبر صفحتهم بفيسبوك” لتعريف الأنواع وكيفية الوقاية، فإن الحرب الأخيرة لم ترحم، إذ فقد السودان نماذجه المحنطة للعقارب في متحف التاريخ الطبيعي، ما شكل ضربة لذاكرته البيئية وخط دفاعه المعرفي الأول.
معظم مناطق السودان، تنتشر فيها ممارسات شعبية غير علمية في التعامل مع لدغات العقارب، مثل الفصد، أو مصّ السم، أو حتى استخدام الغاز والكلور وشريحة الهاتف.
مديرة مركز أبحاث الكائنات السامة- جامعة الخرطوم
وقتلاً للأساطير و الممارسات الخاطئة التي تزيد الخطر تحذر د. رانية، من أنَ معظم مناطق السودان، تنتشر فيها ممارسات شعبية غير علمية في التعامل مع لدغات العقارب، مثل الفصد، أو مصّ السم، أو حتى استخدام الغاز والكلور وشريحة الهاتف.
لكن العلم يقول غير ذلك. فالسم يعمل بسرعة ويؤثر على الجهاز العصبي مباشرة، ولا فائدة تُرجى من هذه الأساليب، الخطوة الصحيحة، كما تؤكد و يؤكد الأطباء، هي تحديد موضع اللدغة، ثم الإسراع بنقل المصاب إلى أقرب مركز صحي لتلقي المصل، وهو العلاج الوحيد الفعّال، الذي توجد منه نوعان حسب د. رانية: أحادي النوع (Monovalent): يستخدم إذا عُرف نوع العقرب. وآخر متعدد الأنواع (Polyvalent): يُستخدم في المناطق التي تنتشر فيها أنواع متعددة، وهو المعتمد والمسجل لدي وزارة الصحة في السودان.
في بلدٍ يعاني من الحرب والنسيان، يصبح السمّ امتحاناً يومياً للعدالة والحق في الحياة. وبينما يبتكر السكان وسائل النجاة من عتمة الليل وضيق اليد، يظلّ غياب خطة وطنية واضحة، واستمرار الاعتماد على المبادرات الذاتية، هو العقرب الأكبر الذي ينتظر من يواجهه.