الكوليرا.. وباء صامت يلاحق السودانيين
عاين- 7 أغسطس 2025
بينما تضرب الكوليرا أجزاء واسعة من المناطق السودانية تختبر السلطات الصحية بعض الخدمات الأساسية لمكافحة الوباء في ولاية الخرطوم مثل إيداع شحنات من المحاليل في أقسام الطوارئ بالمستشفيات الحكومية والمرافق الصحية.
تتعرض وزارة الصحة السودانية إلى انتقادات عنيفة من أطباء يعملون في المجال الإنساني والصحي بسبب تراجع جهود المكافحة إلى جانب وضع ملف الصحة تحت رقابة الأجهزة الأمنية والعسكرية ومراقبة المتطوعين الذين يعملون على الأرض.
الوضع الأمني فاقم الوباء في كردفان ودارفور
مسؤولة بالصحة السودانية
وأبلغت مسؤولة بإدارة الوبائيات بوزارة الصحة السودانية (عاين) أن الوباء انخفض في الولايات الواقعة تحت سيطرة الجيش السوداني بينما تعرقل قوات الدعم السريع والحركة الشعبية شحنة مساعدات تشمل المحاليل الوريدية من الدخول إلى اقليم كردفان ولا تزال الشاحنات عالقة في مدينة الأبيض بشمال كردفان نتيجة إغلاق الطرق والممرات الآمنة.
فيما ذكرت متطوعة إنسانية في منطقة أمبدة غربي أم درمان لـ(عاين) -تم حجب اسمها- لأسباب أمنية أنهم لم يواجهون صعوبة في الحركة لانقاذ المصابين بالكوليرا في الأحياء الطرفية بسبب القيود الأمنية.
وأردفت: “عشرات المرضى لم يتمكنوا من الانتقال إلى مراكز العزل بسبب شح المال وصعوبة العثور على وسيلة نقل كما إن الناس قبل أن يذهبوا إلى المستشفى يسألون أنفسهم هل لدينا المال لمقابلة المصروفات أم لا؟”.
وأنهت الكوليرا التي تزحف بشكل صامت حياة أكثر من ثلاثة آلاف شخاص في غضون عشرة أشهر فقط- وفق أطباء في أقسام الطوارئ ومراكز العزل بالعاصمة السودانية واقليم دارفور وكردفان.
شكوك حول المكافحة
ويشكك متطوعون وخبراء في مكافحة الوبائيات في الإجراءات الحكومية ويقولون إن وزارة الصحة السودانية تحاول إنشاء “منطقة عازلة عن الكوليرا” في مناطق بعينها داخل العاصمة الخرطوم بينما تغرق بقية الولايات في فاشيات خطيرة من هذا الوباء وصلت في اقليم دارفور إلى 4.5 آلاف إصابة ووفاة العشرات.
جهود المكافحة الحكومية للكوليرا خارج العاصمة السودانية شبه متوقفة
خبير وبائيات
خلال الفترة بين 23 إلى 29 يوليو 2025 لم يتمكن المتطوعون وعاملو الصحة في مدينة النهود بولاية غرب كردفان من نقل المصابين بالكوليرا إلى المستشفى تجنبا للغارات الجوية التي شنتها طائرات الجيش السوداني ضد مواقع الدعم السريع المتمركزة داخل المدن.
العزل المنزلي
ومع ذلك تمكن متطوعون من توفير المحاليل الوريدية للمرضى في قرى حول أبوزبد والمجلد والنهود والفولة على أن يكون هناك عزل صحي للمريض داخل المنزل جراء إغلاق المستشفيات والمخاوف من الطيران الحربي وفق المتحدث باسم غرفة طوارئ ولاية غرب كردفان عدي عبد الله لـ(عاين).

يقول عدي عبد الله: “أخبر المتطوعون مرضى الكوليرا بالالتزام بالعزل المنزلي لأنهم لم يعثروا على مستشفيات تحت التشغيل في المجلد وأبوزبد وتلك القرى الصغيرة بسبب المخاوف من الغارات الجوية”.
وتستخدم القوات السودانية وقوات حميدتي الطائرات المسيرة بكثافة عالية في اقليم كردفان واقليم دارفور مستغلة التعتيم الإعلامي وعدم وجود تغطية شبكات الاتصال والإنترنت وتؤدي هذه العمليات إلى تأخير التدخلات الإنسانية.
تدهور النظام الصحي
يقول الخبير في مجال الوبائيات عيسى حمودة لـ(عاين): إن “كفاءة النظام الصحي والبيئة تكاد تكون منعدمة تماما في السودان بسبب الحرب التي قضت على كل شيء ويعتقد حمودة أن الكوليرا ستكون أكثر انتشارا في موسم الأمطار الذي بدأ في يونيو ويستمر حتى سبتمبر”.
ويشير عيسى إلى مجهودات خارقة تنتظر الحكومة لمكافحة الكوليرا تبدأ من بؤرة الوباء بنقل المريض إلى مركز عزل وفي أحايين كثيرة لا يحصل المرضى على الوسيلة المناسبة في الوقت المناسب لذلك يموتون وراء غبار كثيف للتعتيم الإعلامي المتعمد من السلطات الصحية.
وحسب منظمة اليونسيف منذ إعلان تفشي الكوليرا رسميا في 12 أغسطس 2024، تم الإبلاغ عن أكثر من 94 ألف حالة إصابة و2.730 حالة وفاة في 17 من أصل 18 ولاية في السودان إيصال أكثر من 1.4 مليون جرعة من لقاح الكوليرا الفموي حتى منتصف يونيو 2025.
ويرى الخبير في مكافحة الوبائيات عيسى حمود، أن وزارة الصحة السودانية أشارت إلى وجود كمية من المحاليل الوريدية لمقابلة الحالات الطارئة في المستشفيات لكن هذه العملية في نطاق المدن الكبرى بينما هناك في إقليم دارفور آلاف المرضى يدفعون ثمن غياب الدولة.
الوباء الصامت في دارفور
في محلية عسلاية بولاية شرق دارفور الواقعة تحت سيطرة قوات الدعم السريع تشابهت الأوضاع الصحية مع نظيرتها في غرب كردفان بنقص المحاليل الوريدية وتفشي الكوليرا التي أودت بحياة ثلاثة أشخاص وفق إبراهيم أبوبكر عضو متطوع في شبكة الاستجابة الإنسانية.
ويقول أبو بكر لـ(عاين): إن “عشرات المواطنين ماتوا بالكوليرا في قرى شرق دارفور ولم يتمكنوا من الوصول إلى مراكز العزل كما إن عدم وجود الاهتمام الحكومي جراء الوضع العسكري جعل الموت بالكوليرا وكأنه أمرا اعتياديا.
وتابع: ” أنهى الوباء في صمت حياة عشرات الأطفال والنساء والمسنين”.
ويعكس المتحدث باسم منسقية اللاجئين والنازحين في إقليم دارفور آدم رجال صورة سيئة عن الوضع الصحي في قرى ومدن الاقليم في بيان 31 يوليو 2025، وقال إن العدد التراكمي لحالات الإصابة بالكوليرا بلغ 2571 حالة، منها 46 حالة وفاة، منذ ظهور الوباء.
وأضاف آدم رجال، أنه يوجد حاليًا 246 حالة في مراكز العزل، ويتراوح معدل الإصابة اليومي بين 100 و200 حالة وأوضح أن إجمالي الإصابات اليومية في مخيم كلمة بمدينة نيالا ولاية جنوب دارفور وصل إلى 312 إصابة، بينها 32 وفاة.
عدد الحالات المسجلة في المنطقة المحيطة بمدينة طويلة 2,145 حالة، مع تسجيل أكثر من 100 حالة جديدة يومياً، وفقاً لمسؤولين محليين. وتوفي ما لا يقل عن 40 شخصاً
منظمات إغاثة
وفي منطقة طويلة الخاضعة لسيطرة حركة جيش تحرير السودان قيادة عبد الواحد نور، والتي فر إليها الآلاف هربا من المعارك بشمال دارفور، الوضع أكثر سوءا، وتقول منظمات إغاثة أنه وحتى يوم الثلاثاء الماضي، بلغ عدد الحالات المسجلة في المنطقة المحيطة بمدينة طويلة 2,145 حالة، مع تسجيل أكثر من 100 حالة جديدة يومياً، وفقاً لمسؤولين محليين. وتوفي ما لا يقل عن 40 شخصاً، على الرغم من أن جمعية الأطباء السودانيين الأمريكيين، التي تعمل في المنطقة، قالت إن عدداً كبيراً من الوفيات لم يتم تسجيله.
وتقع طويلة على بعد حوالي 50 كم غرب زمزم، الذي كان سابقاً أكبر مخيم للنزوح في السودان، ومدينة الفاشر، التي تحاصرها قوات الدعم السريع حالياً. استقبلت المدينة ما يقدر بنحو 379,000 شخص منذ أن تعرض مخيم زمزم للهجوم والتدمير من قبل قوات الدعم السريع في أبريل، مما رفع العدد الإجمالي للنازحين في المنطقة إلى حوالي 560,000 شخص.

وجرى تحديد الكوليرا على بعد حوالي 20 كم جنوب طويلة في أوائل يونيو، ومنذ ذلك الحين انتشرت إلى العديد من المخيمات في المنطقة.
فيما تدير منظمة أطباء بلا حدود (MSF) مرفقين لعلاج الكوليرا في طويلة بسعة إجمالية تبلغ 146 سريراً، وتشرف على الاستجابة الطبية الكاملة تقريباً لتفشي المرض.
في بيان يوم الأحد، قالت منظمة أطباء با حدود، إن كلا المرفقين تجاوزا سعتهما بالفعل، وأنه وفقاً للتوقعات، يمكن أن يصل الطلب على الأسرّة إلى 800 سرير بحلول الوقت الذي يبلغ فيه التفشي ذروته.
وأضافت أن طويلة لم تشهد تفشياً للكوليرا منذ سنوات عديدة، وأن السكان المحليين لم يتم تطعيمهم ضد المرض. وقالت: “بدون توسيع جماعي للاستجابة، هناك كل الأسباب للاعتقاد بأن الوضع سيتفاقم”.
ويحتاج حوالي 400,000 شخص في طويلة إلى المساعدة للحصول على المياه، والصرف الصحي، والنظافة، وفقاً لتقرير نُشر الأسبوع الماضي من قبل مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية.
البحث عن جرعة محلول
ويقول معز عبد الرحمن وهو طبيب طوارئ عمل في مستشفيات حكومية بالمناطق الحارة في العاصمة السودانية لـ(عاين) إن تدهور حالة مرضى الكوليرا يتوقف على وجود محاليل وريدية حصلو عليها في الوقت المناسب أم لا؟.
ويردف قائلا: “أغلب الوفيات حدثت لأن المصابين لم يجدوا الجرعات المناسبة في الوقت المناسب”.
الوباء قد يفتك بمليون شخص في السودان إذا لم يكافح بصرامة
طبيب طوارئ
ويعتقد عبد الرحمن، أن حالات الكوليرا في السودان متسارعة وتجاوزت مائة ألف شخص في غضون 10 أشهر ومرشح للارتفاع لإصابة أكثر من مليون شخص خلال عامي 2025 و2026 في ظل انهيار الوضع البيئي والصحي بسبب الحرب وانعدام التمويل الحكومي.
وتابع: “انفقت وزارة الصحة السودانية نحو مليوني دولار على مكافحة الكوليرا في نطاق العاصمة الخرطوم وبعض الولايات شرق البلاد منتصف العام 2025 بالمقابل فإن مصير مكافحة وباء الكوليرا في كردفان ودارفور التي تشهد معدلات أمطار عالية مع فاشيات متسارعة من الكوليرا في مناطق مأهولة بحوالي 14 مليون شخص بات تحت رحمة الوضع العسكري.
ويرى طبيب الطوارئ معز عبد الرحمن أن مكافحة الكوليرا تبدأ بوقف الحرب والمعارك العسكرية ثم إنفاق الأموال على خدمات الطوارئ والأدوية المجانية لحوالي 35 مليون شخص في السودان عالقون بين أزمة اقتصادية ومعارك طاحنة في إقليم دارفور و إقليم كردفان.
موسم الأمطار يضاعف الوباء
وتعزو عضو اللجنة التمهيدية لنقابة أطباء السودان أديبة إبراهيم، تفشي الكوليرا إلى تدهور صحة البيئة في المدن والقرى وانتشار الجثث وتحللها ترافق هذه الأزمات خلال الحرب حالة مجاعة بين المواطنين تؤدي إلى نقص مناعة الجسم ومقاومة الوباء.
وتشير إبراهيم في حديث لـ(عاين)، إلى أن الأزمات المركبة في السودان حولت المدن إلى ساحة لـ”الجراثيم والأوبئة” وينبغي على الحكومة إجراء تدخلات في عمليات النظافة ونقل النفايات من الشوارع والأسواق إلى مواقعها المخصصة ومنع اختلاطها بمياه الأمطار.

كما تعتقد أديبة إبراهيم، أن مناشدة المنظمات الدولية والإنسانية مسألة في غاية الأهمية لمساعدة المواطنين على مكافحة الوباء.
وانزلق السودان إلى حرب بين الجيش وقوات الدعم السريع “شبه العسكرية” ذات الامتدادات العشائرية منذ 26 شهرا وسيطرت هذه القوات على عشرة ولايات خلال العامين الماضيين بما في ذلك أجزاء واسعة من الخرطوم توقفت خلالها سلاسل الإمداد والعمليات الإنسانية والتجارية في مناطق يقيم فيها قرابة 22 مليون شخص.
أدوية عالقة في كردفان
وتدافع مسؤولة في إدارة مكافحة الأوبئة بوزارة الصحة السودانية، عن السياسات الصحية التي اتخذت لمكافحة وباء الكوليرا مشيرة إلى أن المؤشرات العامة للوباء في انخفاض عما كانت عليها في العام 2024 بفعل الجهود الحكومية والدولية والوطنية.
وقالت المسؤولة بإدارة مكافحة الوبائيات بوزارة الصحة السودانية مع اشتراط حجب اسمها لـ(عاين): إن “وزارة الصحة تتوقع انحسار كبير في الكوليرا خلال هذا العام على أن يصل إلى نسبة منخفضة في العام 2026”.
وتتابع المسؤولة الحكومية، بإن الوباء انحسر في ولايات كسلا والنيل الأبيض والجزيرة والعاصمة السودانية والبحر الأحمر ونهر النيل والشمالية وسنار.
وأضافت: “نعم هناك انتشار للكوليرا في شمال كردفان واقليم دارفور لكن الوضع العسكري وقوات الدعم السريع تعرقل التدخلات الصحية والإنسانية لمكافحة الوباء في هذه المناطق”.
وقالت المسؤولة الحكومية، إن المنظمات الدولية والوكالات الإنسانية لم تتمكن من نقل شحنة مساعدات تشمل المحاليل الوريدية للكوليرا إلى مناطق شمال وغرب وجنوب كردفان بسبب الهجمات العسكرية للدعم السريع والحركة الشعبية جناح عبد العزيز الحلو. وزادت بالقول: “الشاحنات عالقة في مدينة الأبيض عاصمة شمال كردفان”.