نيالا.. ثاني أكبر مدن السودان تغرق في الفوضى
عاين- 1 يوليو 2025
تعيش مدينة نيالا، التي تُعد ثاني أكبر مدن السودان، واقعًا أشبه بكابوس مؤلم، حيث تحولت هذه المدينة ذات التاريخ الزاخر بالحياة والنشاط التجاري إلى ساحة تعج بالفوضى والخراب بعد عام ونصف من سيطرة قوات الدعم السريع على المدينة، مما جعلها مسرحًا للمعاناة، إذ تتسلل رائحة الموت من كل زاوية. ولا يمر يوم، دون أن يشهد حوادث من النهب والقتل أو حتى الاختطاف، لتصبح بذلك رمزًا للخراب الذي يعصف بأرضها.
“قد لا يمر علينا يوم دون سماع دوي انفجارات أو هجوم طائرات حربية أو مسيرة، بجانب أعمال العنف والمواجهات المسلحة التي تقع بين عناصر الدعم السريع خاصة في أسواق المدينة”. يقول علي بيلو وهو أحد سكان حي الجبل في نيالا لـ(عاين). ويتابع:” نعيش في حالة من الخوف المستمر، مع توقعات بقلق بالغ انتقال العمليات العسكرية البرية بين الجيش وقوات الدعم السريع إلى المدينة”.
وبحسب تقرير منظمة “هيومن رايتس ووتش” الصادر في الرابع من يونيو المنصرم إن الجيش السوداني شنّ هجمات بشكل متكرر على مدينة نيالا التي كان يقطنها أكثر من 800 ألف نسمة قبل اندلاع الحرب الجارية، مستخدماً قنابل غير موجهة أُلقيت جواُ على أحياء سكنية وتجارية قتلت وأصابت أعدادا كبيرة من المدنيين، مما يشكل جرائم حرب مفترضة.
إلى ذلك، تشهد المدينة بين الحين والآخر توترات أمنية بين مجموعات داخل قوات الدعم السريع، مما يؤثر سلباً على حياة المدنيين، ويتسبب في انتهاكات مستمرة بحقهم.
وحولت قوات الدعم السريع المدينة إلى مركز رئيسي للإمداد العسكري وإخلاء الجرحى، وذلك من خلال إعادة استخدام مطارها الدولي، الأمر الذي جعل المدينة هدفاً للغارات الجوية لطيران الجيش متسببة في مقتل المدنيين بجانب تدمير المؤسسات الحيوية.
محاولات استمرار الحياة
يسعى السكان الذين اختاروا البقاء في المدينة إلى التكيف مع الأوضاع بعد سيطرة الدعم السريع. يعمل بعضهم في الزراعة والتجارة التقليدية ضمن الأسواق البديلة، بينما يبحث آخرون عن فرص للهجرة أو الانتقال إلى مناطق أكثر أمانًا. وفي ظل الصراعات المستمرة والانفلات الأمني، يعيش السكان الحاليون في المدينة في شكل مجموعات سكانية تشكل تكتلات أهلية من أجل توفير الحماية لأنفسهم وأموالهم.

تتواجد في أحياء جنوب الوادي، الذي يقسم المدينة إلى قسمين، مجموعتي الترجم وبني هلبة الأهليتين، وهما من أكبر المجموعات السكانية، بالإضافة إلى السلامات والفلاتة والتعايشة والهبانية. بينما تسكن أحياء شرق المدينة مجموعة المسيرية، إلى جانب مجموعة الرزيقات التي تتواجد في شمال المدينة. أما بقية سكان المدينة، فقد فرّ الكثير منهم بسبب انعدام الأمن، بينما لجأ البعض الآخر إلى خارج السودان، ونزح آخرون إلى القرى ومدن أخرى، بالإضافة إلى المخيمات التي كانت موجودة قبل اندلاع الحرب، مثل مخيمات كلمة والسلام وعطاش ومخيم دريج.
اختطاف وطلب فدية
يشير أحد سكان حي الجبل شرق المدينة في مقابلة مع (عاين) إلى أن أكثر ما يثير قلق سكان المدينة هو عمليات الاختطاف من أجل الفدية، التي تتعرض لها المدنيون بشكل متكرر، وخاصة التجار والأطباء من الأقليات السكانية، حيث يتعرضون للاتهام بالانتماء إلى الحركات المسلحة أو الجيش. كما أضاف أن مسلحين مجهولين كانوا يستقلون سيارات قد اختطفوا اثنين من المواطنين في حادثين منفصلين الأسبوع الماضي في مدينة نيالا، حيث احتجزوا المواطن “آدم عمر” والتاجر “تاج الدين إبراهيم” في مكان غير معلوم، وطالبوا بفدية مالية مقابل إطلاق سراحهما.
ويقول سليمان حسين، وهو أحد أقارب المختطف تاج الدين، لـ(عاين):” أن الخاطفين اتصلوا بهم من خلال مكالمة فيديو باستخدام هاتف تاج الدين المختطف، وطلبوا فدية مالية قدرها 200 مليون جنيه مقابل الإفراج عنه”.

وشهدت المدينة أحداث مماثلة في إحياء النهضة والسد العالي وحي شم النسيم، طالت تجاراً وأطباء أطلق سراحهم بعد دفع فدية مالية للخاطفين دون أي ملاحقة من قوات الدعم السريع التي تحكم سيطرتها على المدينة منذ أكتوبر 2023، عقب انسحاب الجيش من المدينة. كما تعرضت أسواق رئيسية في المدينة مثل سوق موقف الجنينة والسوق الشعبي وسوق الجبل لعمليات نهب متكررة خلال الأشهر الماضية، مما دفع العديد من التجار لإغلاق محالهم التجارية آخرها سوق الجبل الثلاثاء الماضي.
يقول حامد محمود، أحد التجار في سوق موقف الجنينة بمدينة نيالا، لـ(عاين): “لقد تغير الوضع بشكل جذري في سوق المدينة الكبير بعد هجرة التجار بسبب الحرب. بعض التجار قرروا البقاء، وانتقلوا إلى الأسواق الطرفية، لكنهم يواجهون مضايقات أمنية مستمرة. نتيجة لذلك، تآكلت رؤوس أموالهم، وتحولوا إلى بائعين جائلين بعد أن كانوا من قبل رأسماليين في السوق.”
في مايو الماضي أصدرت الإدارة المدنية بولاية جنوب قرار أمرت بموجبه التجار فتح سوق المدينة الكبير الذي تعرض لعملية تدمير ونهب كامل أثناء المواجهات التي دارت لستة أشهر بين الجيش وقوات الدعم السريع وسط المدينة. ويشير أحد تجار سوق موقف جنينه، إن شح السيولة النقدية أصبح يشكل تحدياً كبيراً يواجه التجار، إذ يتداول الناس العملة النقدية القديمة، وهي عملة غير مجددة وآخذة في التلاشي التدريجي من الأسواق، رغم وجود التطبيقات البنكية الآن أن هناك فارقاً في الأسعار يقدر بنحو (١٠) بالمئة مقارنة بالكاش.
وتابع التاجر في سوق الجنينة: “كثيراً ما تختفي العملة الورقية، ويزداد الطلب عليها بشكل كبير. ولكن قوات الدعم السريع تقوم بين الحين والآخر بضخ مرتبات عناصرها بالدولار الأمريكي. وفي هذا السياق، يقوم التجار الذين يحتكرون العملة بسحبها من السوق لشراء الدولار، مما يساهم في تحقيق نوع من التوازن بين الكاش والمبيعات عبر التطبيقات البنكية.”
التجار الجُدُدُ
على الرغم من موجات النزوح التي تعرضت لها نيالا نتيجة الحرب، إلا أن المدينة لا تزال تشهد نشاطًا كبيرًا في شراء العقارات والسيارات بمختلف أنواعها، حيث تظل الأسعار مستقرة نسبيًا مقارنة بغيرها من السلع. ووفقًا لما ذكره “محمود حمدان”، أحد تجار العقارات في سوق نيالا، فإن حركة شراء وبيع العقارات تعود إلى توافر أموال كبيرة لدى عناصر قوات الدعم السريع، الذين يُعتبرون من أبرز المشترين للأراضي والسيارات والذهب.

أفاد محمود في حديثه ل(عاين) بظهور تجار ورأسماليين جدد يستوردون السلع من الدول المجاورة، وفي الوقت نفسه يعملون على تسويق المحاصيل الزراعية والماشية المنتجة في دارفور من خلال معابر تشاد وليبيا وجنوب السودان. وأشار إلى أن غالبية هؤلاء التجار يتعاونون أو يرتبطون بشراكات مع ضباط من قوات الدعم السريع.
خدمات معدومة
فيما يتعلق بالحياة العامة، هناك حكومة مدنية شكلتها القوات الدعم السريع لإدارة الأمور العامة، لكنها تواجه صعوبات في تحقيق الأمن وتوفير الخدمات الأساسية مثل المياه والرعاية الصحية والتعليم. يعتمد المواطنون على الحصول على المياه عبر الكارو من آبار تقليدية في وادي “برلي” الذي يقع وسط المدينة، إلا أن مصادر المياه هناك ملوثة ومكلفة بسبب ارتفاع أسعار الجازولين.
أما بالنسبة للكهرباء، فإن الحديث عنها في المدينة يبدو كأنه خيال في ظل استمرار النزاع، حيث انقطعت الكهرباء تمامًا عن الأحياء، وتعرضت البنية التحتية لشبكة الكهرباء للتدمير الكامل بشكل منهجي، وفقًا لشهادات السكان المحليين لـ(عاين).
على الرغم من نزوح عدد كبير من السكان خلال الأشهر الأولى من الحرب، وموجة النزوح التي صاحبت انسحاب الجيش، فإن المدينة استقبلت أيضًا أعدادًا كبيرة من النازحين الفارين من ولاية الخرطوم والجزيرة وسنار بعد سيطرة الجيش على تلك المدن، وقد وصلوا إلى مدينة نيالا نتيجة للروابط الاجتماعية. هؤلاء النازحون شكلوا ضغطًا إضافيًا على الخدمات مثل إيجار المنازل وتوفير المياه والغذاء.