منجم جبل عامر في دارفور: منطقة خارج السيطرة
16 مايو، 2013
بعد الأسبوع الأول من مايو، فإن أياً من سكان محلية السريف، شمال دارفور ممن باستطاعتهم المرور بجبل عامر سيشم الرائحة القوية لتعفن الجثث. لكن أحداً لم يجرؤ على الدخول إلى باطن الأرض لاستخراجها خوفاً من حدوث انهيارات جديدة.
كشفت أكبر كارثة في تاريخ التعدين بالسودان عن خطورة وإتساع رقعة التنقيب العشوائي عن الذهب كظاهرة إقتصادية غريبة من نوعها. خصوصاً في دارفور. حيث تتقاطع الإضطرابات السياسية مع جهود المنقبين عن هذا المعدن الثمين دون إشراف حكومي. فقد نبه إنهيار منجم جبل عامر في 29 من أبريل الماضي إلى أنه كان مفتوحاً أمام المنقبين رغم إعلان الحكومة في وقت سابق من هذا العام عن إغلاقه. نظراً إلى ما يشكله المنجم كواحد من أكبر مراكز الصراع على الموارد في إقليم دارفور. حيث أدى الصراع القبلي المسلح حول السيطرة على هذا المنجم إلى مقتل ما يقارب من 400 شخص بين يناير وفبراير الماضيين. ينتمي معظمهم إلى قبيلتي البني حسين وقبيلة الرزيقات-الأبالة، وهي الحرب التي وصفتها بعثة الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي (اليوناميد) بعد نزوح الآلاف بعدها بأنها الأسوأ منذ أحداث العنف التي وقعت في العامين 2003 و 2004 في بدايات اندلاع الصراع في الإقليم.
وكشف مواطن عامل في التعدين بالمنطقة ويدعى دريب الريح، عن توقف فرق الإنقاذ عن البحث لاستخراج الجثث. عقب مصرع اثنين من أفرادها داخل المنجم المنهار يوم الجمعة 3 مايو، وأكد دريب الريح، في حديث لـ (عاين) عن وجود عدد كبير من الجثث لم يتم استخراجها حتى الآن. مشيراً إلى أن العدد الذي تم التعرف عليه حوالي 60 قتيل. بينما يصل عدد المفقودين إلى ما يزيد عن 100 شخص.
المنجم
يقع المنجم الخارج عن سيطرة الحكومتين الولائية والمركزية في منطقة جبل عامر بمحلية السريف، والتي تبعد ما يزيد عن 100 كم شمال مدينة الفاشر، عاصمة شمال دارفور، وعلى الطريق باتجاه محليتي كتم وكبكابية اللتين تنتشر فيهما الحركات المسلحة.
ومنذ أن فتحت الحكومة المجال للعمل في التعدين والتنقيب عن الذهب في السودان قبل عدة أعوام. اندفع الآلاف إلى مناطق مختلفة من شمال وغرب وشرق البلاد للبحث عن الذهب، فاشتهر منجم جبل عامر من حينها بكثرة خام الذهب فيه.
وكشفت أحداث العنف التي بدأت في يناير الماضي عن وجود آلاف الأجانب من جنسيات أفريقية مختلفة جاءوا للتنقيب بالمنجم. يعود أغلبهم إلى دول السنغال والكاميرون ونيجيريا. الذين دخلوا إلى السودان بدون تأشيرات أو جوازات سفر. بالإضافة إلى العديد من المنقبين القادمين من تشاد المجاورة، ولم تنتبه السلطات المحلية لهذه الأعداد من المنقبين الأجانب إلا بعد لجوء المئات منهم إلى القنصلية التشادية في مدينة الجنينة كي تقوم بترحيلهم خلال اشتعال القتال حول المنجم.
ووفقاً لدريب الريح، تقوم القيادات القبلية في المنطقة بإيجار الأرض للمعدنين مقابل ضريبة إيجار معينة ونسبة من الذهب المستخرج. تدفع لملاك الأراضي من قيادات قبيلة بني حسين، وهو ما أحدث انتعاشاً اقتصادياً في المنطقة، فأصبحت قبيلة بني حسين تستثمر في إيواء المعدنين وتوفير المعدات اللازمة لعمليات التنقيب وإيجارها. كما توفر الكهرباء بالبيع. بالإضافة إلى إيجار السيارات. إلى جانب انتعاش التجارات السلعية الأخرى بجانب المطاعم والفنادق وغيرها.
صراع القبائل
قبيلة بني حسين التي تسيطر على المنجم تعد واحدة من أقوى القبائل ذات الجذور العربية في دارفور، والتي سبق لها أن تحالفت مع الحكومة وحاربت في صفوفها فيما يعرف بـ (الجنجويد) وهي المليشيات المسلحة من قبل الحكومة المركزية في الخرطوم، والتي غالباً ما يرتبط اسمها بارتكاب جرائم الحرب في الإقليم. حيث تتهم الحكومة من جهات دولية ومحلية عدة بأنها تحاول تفريغه من القبائل الأفريقية كالفور – التي يعود إليها أصل تسمية الإقليم – بالإضافة إلى الزغاوة والمساليت وغيرها، وتغيير الخريطة الديموغرافية للمنطقة لصالح القبائل العربية. خلال الصراع الذي اندلع في 2005 قبل أن تتشكل حركات متمردة من القبائل الأفريقية دفاعاً عن نفسها.
يقول ناشط دارفوي طلب عدم الإفصاح عن اسمه لـ (عاين) أن قبيلة بني حسين استقوت لدرجة جعلتها تخرج عن طوع الحكومة في الكثير من الأحيان. مشيراً إلى مشاركة القبيلة في الأحداث الانتقامية التي أعقبت مقتل معتمد محلية الواحة المجاورة لهم، وأدت لمقتل ما يقارب 1000 شخص مطلع العام 2011 حسب إحصاءات المنظمات العاملة في دارفور، ويضيف الناشط بأن القبيلة باتت ترفض مؤتمرات الصلح التي تدعوا لها الحكومة. كاشفاً بأن قبيلة بني حسين دعت العام الماضي لتحالف جديد للقبائل العربية لمواجهة خطة حكومية سرية لتسليح القبائل الأفريقية الصغيرة، ويؤكد تقرير منظمة (أيرين) عن انتشار الأسلحة الصغيرة بين المدنيين في دارفور صحة ما ذهب إليه ذلك الناشط، بأن الحكومة اتجهت لخطة جديدة لتسليح القبائل الأفريقية الصغيرة كالبرقد والبرتي والتنجور، والتي لا تمتلك حواكير ( وهي صكوك تملك الأراضي الموروثة من حقبة سلطنة دارفور) حيث ترغب الحكومة – وفقاً لحديث الناشط – في تغيير طبيعة النزاع القبلي التقليدي في دارفور، وتشير منظمة (أيرين) في تقريرها الذي حصلت (عاين) على نسخة منه أن الحكومة عمدت لتسليح هذه القبائل الثلاث (البرقد والبرتي والتنجور) لمواجهة القبائل الأفريقية الكبيرة (الزغاوة والفور والمساليت) التي تشكل القوام الأكبر لمقاتلي الحركات المتمردة.
ويضيف الناشط أن الحكومة أغرت تلك القبائل بالحصول على مكاسب وأراضي مقابل الوقوف ضد القبائل الأفريقية الكبيرة التي تدعم المتمردين، مرجحاً بالقول : “إن الحكومة تهدف لخلط الأوراق وتغيير شكل الصراع وإرباك المفهوم التقليدي للنزاع في دارفور لدى العالم الغربي بأنه صراع بين قبائل عربية مدعومة من الحكومة وأخرى أفريقية تدعم حركات التمرد”. مشيراً إلى أن هذا التطور ظهر عقب أن صدرت مذكرة المحكمة الجنائية الدولية العام 2009 باتهام الرئيس عمر البشير بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في الإقليم.
سيطرة
وبعد احتدام الصراع القبلي أوائل هذا العام فشل الجيش السوداني في دخول جبل عامر وفرض السيطرة الحكومية عليه. جراء المقاومة التي لاقاها من مقاتلي بني حسين على مدى عدة أيام خلال شهر فبراير، ويقول مصدر عسكري لـ (عاين) أن الحكومة لن تستطيع حسم الموقف ما لم تقم باستخدام الطيران. لكنها تخشى من إحدث خسائر كبيرة وسط المدنيين إذا ما أقدمت على هذا التصعيد. مما سيفقدها نهائياً أي فرصة للتفاوض مع بني حسين الذين لا يزالون يؤمّنون الجانب الشمالي والشمالي الغربي لولاية شمال دارفور من هجمات حركات التمرد.
يقول أحمد فضل القيادي بقبيلة بني حسين أن محاولات الصلح القبلي مع الرزيقات قد فشلت لعدم جدية الحكومة في الحل. متهماً والي ولاية شمال دارفور محمد يوسف كبر، باستخدام ما وصفه بسياسة “فرق تسد” بين القبائل العربية، لضمان وجوده على سدة الحكم في الولاية. نسبة لأن جذوره تعود لقبيلة البرتي الأفريقية التي تقف على الطرف الآخر من الصراع.
في غضون ذلك أعلنت وزارة المعادن السودانية يوم الاثنين 6 مايو عن اجتماع على مستوى الرئاسة عُقد لبحث خطة تقدمت بها حكومة ولاية شمال دارفور لمعالجة قضية جبل عامر، وقال وزير الدولة بالمعادن سراج الدين حامد في تصريحات عقب اجتماعه بالفاشر مع مجلس حكومة الولاية أن مشكلة جبل عامر مشكلة قومية وأمنية تحتاج لتضافر كافة الجهود للخروج برؤية مشتركة حول هذا الأمر، وأعلن حامد أن وزارته بصدد إرسال وفد من شركة متخصصة في مجال الرعاية الصحية الأولية، والتأمين الصحي؛ لدراسة الوضع الصحي بالمنجم، وإعداد المقترحات الخاصة بكيفية معالجة الأوضاع الصحية.
إنتقادات
ووجه الناشط الدارفوري في حديثه لـ (عاين) انتقادات حادة للحكومة جراء ما يحدث من انفلات كامل في جبل عامر. الذي وصفه بأنه “دولة داخل الدولة”، وحمل الحكومة مسئولية ما يحدث. متهماً الحكومة بتعميق النزاع القبلي وتفتيت التركيبة الإثنية في دارفور. مؤكداً بأن الإدارة الأهلية هي صمام الأمان ضد العنف في الاقليم.
في حين ينتقد الخبير الاقتصادي محمد إبراهيم كبج، السياسات الحكومية الحالية فيما يتعلق بالتعدين العشوائي جازماً بعدم وجود جدوى اقتصادية يمكن أن تعود على الاقتصاد السوداني المتدهور عبرها، ويوضح كبج بأن بنك السودان المركزي هو المخول بشراء كميات الذهب المستخرجة بهذه الطريقة، وهو الذي يشرف على تسويقه في السوق العالمي في سعيه لتوفير مدخول من العملات الأجنبية. عقب الازمة الاقتصادية الكبيرة التي يمر بها السودان جراء خسارته لثلثي عائدات النفط بانفصال جنوب السودان.
ويقول كبج : “الاستفادة من الذهب الموجود في السودان لا بد أن تكون عبر مشاريع كبيرة تشرف عليها الحكومة بمساعدة الاستثمارات الاجنبية كما يحدث في كافة دول العالم”. مبيناً أن بنك السودان المركزي يضطر في نهاية المطاف ومنعاً للتهريب، لشراء الذهب بأثمان مرتفعة من المعدنين. لكنه يبيعه وفقاً للأسعار العالمية التي تتحكم فيها ظروف مختلفة تماماً عما وصفه بـ “الأسلوب العشوائي الذي يحدث في السودان”.
وزارة التعدين بدورها، والعاجزة عن السيطرة على المناجم.
أطلقت اعترافاً ضمنياً بالأوضاع الحالية بعد أن غيرت في أدبياتها الرسمية
وصف ما تقوم به بني حسين، وغيرها في مناطق التنقيب الأخرى بالعشوائية.
واصفة إياه بـ”التنقيب الأهلي”. دون أن يسفر ذلك أي تطور متعلق بخططها المزمعة لتحسين الأوضاع في المنطقة وتقنينها.
على الجانب الآخر تستمر قبيلة بني حسين في سيطرتها على المنجم حتى بعد إنهياره. مستعينة في ذلك بمخزونها الوافر من الأسلحة والذخيرة التي ازدادت في مرحلة لاحقة بعيد سيطرتها على منجم الذهب. حيث أتاحت نسبتها من عائدات الذهب المستخرج والإتاوات التي تفرض على المنقبين شراء السلاح بكميات كبيرة. ليس فقط لإحكام السيطرة على المنجم والعاملين فيه، ولكن أيضاً لتأمين أفراد القبيلة أنفسهم. الذين يفتقرون إلى الشعور بالأمان في هذا الإقليم دائم الإضطراب. يقول أحمد فضل بأن قبيلته تخاف من انتقام الحركات المتمردة المدعومة من القبائل الأفريقية التي سبق لبني حسين أن وقفت مع الحكومة ضدها، ورغم تنفيذهم لأجندتها سابقاً يعترف فضل بالقول : “لا نشعر بأن الحكومة ستقوم بحمايتنا كما يجب”، ولذلك، قررت بني حسين أن تقوم بحماية نفسها بنفسها.