مفصولي الإنقاذ .. ( ضحايا التمكين)
تقرير عاين : 28 نوفمبر 2018
منذ أن قدمت حكومة الانقاذ إلى السلطة أعطت أولوية قصوى للسيطرة على كل مفاصل الدولة فيما عرف في أدبيات الاسلاميين ب “التمكين” وأسلمة الدولة وغيرها من شعارات المشروع الحضاري الذي روجت له منذ فجر سلطتها. وعملت الأجهزة الحزبية للإسلاميين منذ ذلك الحين على فصل كل من لا يتسق مع ذلك المشروع من الخدمة العامة في البلاد ، وكانت النتيجة قذف آلاف من الكوادر المهنية والفنية والموظفين والمعلمين وغيرهم من الكفاءات إلى الشوارع ودمرت الخدمة المدنية التي كانت تعد مفخرة للسودانيين في منطقة الشرق الأوسط.
وتحت شعار الخصخصة التي ابتدعها عراب النظام الاقتصادي “عبدالرحيم حمدي” بيعت مؤسسات الدولة من مشروع الجزيرة وغيره من المشاريع الزراعية الرابحه وذات الجدوى الاقتصادية التي أحدثت الاستقرار النسبي في أرياف البلاد لفترات ليست بالقصيرة مثل مشروع جبال النوبة ودلتا طوكر والقاش وخور أبو حبل وغيرها، اضافة الى ميناء بورتسودان وهيئات الكهرباء والمياه ومصنع النيل الازرق ومصانع الدباغة والسكر وغيرها من مؤسسات الشعب الرابحة التي كانت تعيل الآلاف من العاملين واسرهم.
ونالت مؤسسات النقل والمواصلات في البلاد من السكة حديد وسودانير والخطوط البحرية السودانية والنقل النهري النصيب الأكبر من تلك الإجراءات الباطشة ودمرت تدميرا كاملا بعد أن كانت تربط مناطق البلاد المختلفة ببعضها البعض وتنقل المواطنين والبضائع بين مناطق البلاد المختلفة بأرخص الأثمان كما ربطت السودان بالعالم الخارجي وسهلت التجارة الداخلية والخارجية وأنعشت الأسواق وحياة الناس.
وتقدر اللجنة القومية للمفصولين أعدادهم بحوالي 350 ألف نسمة يشكوا جلهم من سوء الاوضاع المعيشية هم وأسرهم في ظل ظهور أساليب فاسدة عديدة صاحبت إجراءات فصلهم ودفع مخصصات نهاية الخدمة لهم. وتتحول أوضاعهم بصورة أكثر بشاعة حاليا مع ارتفاع حالة الغلاء والتدهور الاقتصادي الحالي في البلاد بشكل عام. وفي هذا التحقيق تقدم (عاين) نماذجا للفساد الذي شاب خصخصة عددا من المؤسسات الحكومية، وكيف استطاعت الة الحزب الحاكم وقادته جني أموال طائلة من خلال عمليات الخصخصة.
شركة عارف الكويتية
في عام 2007 باعت الحكومة السودانية 53% من هيئة النقل النهري الى شركة عارف الكويتية مقابل 105 مليون دولار دفع منها حوالي 70 مليون دولار. وأشرفت وزارة المالية على عملية الخصخصة التي أبقت نسبة 30% فقط للحكومة من أصول الشركة. وشاب بيع أصول هيئة النقل النهري الكثير من الغموض وشبهة الفساد، حيث دخلت شركة الفيحاء السودانية إلى جانب عارف الكويتية ليؤسسا ما سمي بالشركة السودانية الكويتية ويمتلكان سويا 70% من أسهم وأصول هيئة النقل النهري.
وفي يوليو 2008 أعلن مجلس الوزراء السوداني أن عملية خصخصة النقل النهري تمت وفق القرار رقم (94) الذي صدر عن المجلس، فيما قالت تقارير لاحقا ان شركة اماراتية اشترت أسهم شركة عارف الكويتية في النقل النهري.
فساد
وتقول ثريا حبيب محمد حسن وهي موظفة سابقة في النقل النهري، ادارة المشتريات والمخازن، تدرجت في العمل حتى وصلت إلى منصب مساعد مدير، وحاليا تسعى لتأسيس وكالة للسفر والسياحة، ان النقل النهري كانت هيئة مستقلة، وايراداتها ذاتية، وكانت فيها خدمة مدنية منضبطة، ومستوى الكفاءة عالي بين الموظفين، واهمية النقل النهري تركيب السفن والجرارات، وكان به عاملين ذو خبرة في تصنيع الوابورات، وتركيب الجرارات، والطلمبات، والمصبات لصيانة السفن- في أحواض مائية عائمة لتركيب السفن، وأعمال اللحام (برشمجية)، والعمل يتم بطريقة احترافية.
وتبين ثريا حبيب في حديثها لـ(عاين) ان الخدمات التي كان يقدمها النقل النهري تعتبر من ارخص الخدمات، وبالأخص في وسائل النقل النهري في العالم، نقل المواطنين من منطقة إلى أخرى، والسياحة، ثم نقل البضائع، ونقل المواد التموينية، يوجد ميناء النقل النهري في بحري، والآخر ميناء كوستي بولاية النيل الأبيض ينقل المواد المستخدمة في التنمية،في الفترات السابقة كان النقل النهري وهيئة السكة حديد مؤسسة واحدة (كانت تعتبر حاجة واحدة)، وتؤكد أن الفصل بين النقل النهري والسكة حديد تم في العام 1973م.
وقوف إلى جانب المستثمر
تسرد ثريا حبيب عن الكثير من الفساد في هيئة النقل النهري لا سيما ما صاحب إجراءات خصخصة الهيئة وفصل العاملين فيها، كما تكشف عن خداعهم من قبل إدارة الهيئة والحكومة مع الشركة الأجنبية المشترية، مبدية استغرابها من تامر الحكومة والهيئة مع الأجانب على حساب موظفي الهيئة. وتمضي الى القول بأنهم كموظفين تسلموا خطابات الفصل من الهيئة في العام 2007 ، ووعدتنا الحكومة في ذلك الوقت بأن العاملين لن يتضرروا من عملية البيع، وانهم سيكونون في نفس الوظائف، بل وستزداد مرتباتهم ومخصصاتهم من قبل الشركة التي وقع عليها العطاء.
وتضيف ثريا “ولكن بعد مرور سنة من العقد، بدأ تشريد وفصل العاملين من موظفين ومهندسين في النقل النهري من حلفا الي كوستي” مبينة أن ثلاثة أرباع موظفي النقل الذين يقدر عددهم ب 17 ألف،ذهبوا إلى الشارع. وتضيف “ايضا كانت هناك وعود ان يعطي العاملين مرتبات لـ 5 اعوام، اعتبرها كثيرون شيء معقول ووافقوا عليها، لكن لم يتم ذلك ، بعدها خرج العاملون إلى الشارع، وسلموا اوراق إلى المجلس الوطني، لكن لا حياة لمن تنادي”.
وفي ذات الاتجاه يذهب ادم التوم عمر محمد الذي عمل في النقل النهري بمدينة كوستي لمدة 15 عاما قبل أن يفصل من الخدمة في العام 2006 . ويقول ادم التوم ل (عاين) أن طريقة الفصل كانت متعمدة من قبل الحكومة التي انحازت إلى المستثمر على حساب العاملين. مضيفا ” انا تم فصلي وانا والد ل7 اطفال، والاسرة تعاني من الاحتياجات اليومية، وهذا اصعب وضع نواجهه في عهد هذه الحكومة، الأطفال ليس لديهم كتب، سابقا الكتب كانت مجانا، الان تباع بالقروش، والمستقبل كعب”.
وتكشف ثريا عن بيع قطعة أرض تابعة لإحدى الهيئات الرئيسية في الهيئة والواقعة في مدينة بحري لمستثمرين لم يتم الإعلان عنهم، مبينة أن المنطقة الآن قامت بها فلل وقصور بعد أن وزعت كقطع أراض استثمارية بأثمان عالية جدا.
قبل ان تضيف” اذا دايرين يعيدوا النقل النهري، قبل قرن من الزمن، لمن فحص الإنجليز التربة في السودان، وجدوا أن أنسب تربة في بحري، باعتبارها الحتة الأنسب لميناء نهري،الان الحتة باعوها وعملوا فيها قصور، وفلل، لذلك لا يمكن أن تعود هيئة النقل النهري كما كانت في السابق، والسكة حديد بنفس الصورة”.
السكة حديد
قصة مشابهة مع قليل من الاختلافات يرويها محمد عبدالله خميس ادريس، أحد مفصولي السكة حديد، بدأ ادريس عمله في السكة حديد كمراسلة ثم تدرج الى ان وصل الى مساعد سفرجي. يقول محمد لـ(عاين) أنه فصل من العمل بقانون إلغاء الوظيفة، وحاليا يعمل كبائع صحف، مشيرا الى أن حياته قبل الفصل كانت حياة كريمة جدا، وعند قدوم الانقاذ تدهور كل شيء، ويسرد أنه فصل من العمل عام 1992 رغم كونه عضوا في الهيئة النقابية، في تلك الفترة.
ويروي ادريس تجربته بحسرة مبينا ان الحكومة في تلك الفترة اعطتهم خيارين، لا ثالث لهما، إما تقديم الاستقالة وتأخذ الحقوق، أما الفصل من العمل من دون حقوق لا سيما بالنسبة للنقابيين. وندد ادريس بالخصخصة التي وصفها بأنها دمرت السكة حديد، متهما القيادي في المؤتمر الوطني إبراهيم غندوربتحمل مسئولية تشريد العمال وتدمير السكة حديد.
التمكين من أجل البقاء
أما احمد محمد علي منتصر المفصول من هيئة التربية والطباعة والنشر،إدارة المخازن والمهمات، فقد اتهم الحكومة بتصفية المخازن والمهمات في العام 2003 دون أسباب واضحة. ويقول منتصر في حديثه لـ (عاين) “انا كنت ماسك مخزنين كبار،من مخازن الثانوي العالي الذي يمد السودان بالكتب الثانوية، وكان العمل يسير على ما يرام وفي مواسم الإجازات الأقاليم تجي تستلم كتبها المدرسية في المواعيد المحددة”، ويضيف” إن مهمة المخازن والمهمات انها توفر جميع احتياجات الدولة من الأثاثات، واحتياجات المكاتب، وتوفير الكتاب المدرسي، وفي الوقت الراهن الكتاب المدرسي أصبح سلعة تجارية في الأسواق”.
ويتهم احمد محمد قيادات في الحزب الحاكم – لم يذكر اسمائهم- بسرقة أموال المفصولين التي كانت مودعة في التأمينات والصندوق القومي للمعاشات، مبينا أن أفراد يأخذون تلك الأموال ويتم توظيفها لمصلحتهم الخاصة.
ويشرح القيادي النقابي احمد محمد الاسباب التي قادت إلى الفصل من العمل ل(عاين) مشيراً إلى انها كانت في جلها سياسية هدفت إلى تأمين النظام الجديد عقب الانقلاب، وبدأت بالصالح العام في عام 1989. ويشير إلى أن الفصل السياسي كان منظم وممنهج، حيث بدأوا بفصل الأفراد المؤهلين من المؤسسات، وأصحاب الخبرة، وتركوا من ليس لهم خبرة في هذه المؤسسات، وأطلقت عليهم الدولة في مرحلة لاحقة فائض عمالة. ويوضح أحمد أن سياسة التخلص من فائض العمالة التي اتبعتها الحكومة أدت إلى تشريد أعداد كبيرة من الأسر، ويضيف قائلا “سياسة عبدالرحيم حمدي – عراب الخصخصة- انتجت سياسة الخصخصة وإعادة الهيكلة، وقادت الى بيع المنشآت، وكان من أهدافها تشريد العاملين من أجل التمكين وتأمين النظام، وهذا الأمر اعطاهم فرصة أكبر في البقاء على سدة الحكم” الى الان.
ويؤكد منتصر أن الحكومة حلت النقابات الشرعية المنتخبة خوفا منها ومن أجل المزيد من التأمين لنفسها، واستمرت علي ذات السياسة وشردت وفصلت الآلاف حتى يستتب لها الأمر ثم أسست النقابات الموالية على أنقاض الشرعية لضمان السيطرة وأسست ما عرف ب “نقابة المنشأة”.
“عندما حلت الحكومة النقابات الشرعية، أتت بمثل هذه النقابات، وهي تؤيد الفصل من العمل، في حقيقة الأمر أن قانون الخدمة المدنية ينص على ألا يتم فصل العامل أو الموظف إلا بموافقة اتحاد عام نقابات عمال السودان”.
“عن طريق الصالح العام، قاموا بفصل النقابات وكونوا ما يطلق عليه قانون المنشأة، ناس النقابات الأساسيين فصلوا، وتم تعيين اتحاد عام نقابات المنشأة”.
إلغاء الوظيفة
ويمضي القيادي العمالي في الحديث ل (عاين)، مشيرا إلى تحايل الحكومة وابتداعها لما سمي ب “إلغاء الوظيفة” التي استخدمتها- حسب منتصر- لإبعاد المؤهلين وإحلال الموالين في البداية، الأمر الذي أدى لتفشي المحسوبية وتعيين الأقارب وانهيار قيم وقوانين الخدمة المدنية وانضباطها وعدالتها.
ويكرر اتهامه الصريح بالمحاباة والمحسوبية والفساد، قائلا “البعض يعين الأقارب، في الفترات الفائتة، تعيين الموظفين يتم في لجنة اختيار، والكفاءة هي المؤهل للتعيين في مرافق الدولة المختلفة، والحكومة أطلقت على الفصل مسمى إلغاء وظيفة، هي ليست إلغاء وظيفة، بل هو تعيين من يوالي الحزب الحاكم ليحلوا مكان غيرهم من زملائهم الاكثر تأهيلا، وشعارهم الذي اتوا به من اجل (رفع المعاناة، هو بالحقيقة من أجل رفع المعاناة).
اللجنة القومية للمفصولين
وعن اللجنة التنفيذية للمفصولين ، يقول منتصر انها تكونت عام 1992، مشيرا الي انها بدأت كعمل سياسي واضح تم كرد فعل باعتبار الأسس السياسية التي تم علي أساسها الفصل للصالح العام. وأبان أن اللجنة بدأت برفع عدة مذكرات إلى المسئولين في الدولة قائلاً ” اللجنة رفعت مذكرة إلى رئاسة الجمهورية عام 2006، لم يتم النظر إليها من قبل رئاسة الجمهورية إلى يومنا هذا، كما قمنا بعدة وقفات احتجاجية أمام مجلس الوزراء وسلمنا إليهم عدة مذكرات، وجلست اللجنة مع عباس الخضر رئيس لجنة المظالم بالمجلس الوطني، وشرح له قضية المفصولين بأكملها، وكذلك ابعاد الحلول، وايضا لم يتم شئ حتي الان”.
ويشرح النقابي منتصر أن اهداف لجنة المفصولين متعددة تبدأ من البحث عن حقوق المفصولين واسترداد كرامتهم وتعويض الخسائر المادية والنفسية جراء المعاناة التي طالتهم و أسرهم اضافة الى الحقوق المعاشية أو نهاية الخدمة. ويشير إلى أن لجنة المفصولين تقوم ايضا باعداد دراسة اقتصادية لمعالجة أزمات المفصولين. ويضيف تقوم اللجنة بالعديد من الأعمال الاجتماعية ايضا مثل تقديم مساعدات لعدد من أسر المفصولين، ومساعدة ومعالجة بعض من أصيبوا بالامراض، ومعرفة حوجة المفصول من كافة النواحي المعيشية والاجتماعية.