ما الذي طرأ على معاش السودانيين بعد شهر من توحيد سعر صرف الجنيه؟
16 مارس 2021
“أسعار المواد الغذائية زي الصقر، لو طارت تاني ما بتنزل”، يقول فني ميكانيكا السيارات، بمنطقة الأزهري، جنوب العاصمة السودانية الخرطوم، مرتضى. ويضيف لـ(عاين)، تحولت مصاريفي اليومية على أسرتي، من مئتي جنيه، إلى ألفي جنيه في اليوم، منذ عدة أشهر، وهي محصورة فقط للأكل والشرب، رغم أنني أتناول غالبية وجباتي خارج المنزل”.
وتعادل الألفي جنيه سوداني، نحو 5 دولار أمريكي، ولكن عاملون كثر، لا تتجاوز مداخيلهم، أو يتقاضون مرتبات تتراوح بين 10ـ15 ألف جنيه شهرياً تعادل نحو 30ـ40 دولار أمريكي. وفي فبراير الماضي، أعلنت الحكومة السودانية، توحيد سعر صرف الجنيه، أمام العملات الأجنبية. وعملياً عنى هذا الإجراء، تخفيض سعر الجنيه السوداني بنسبة مئوية كبيرة، فبينما كان سعر الجنيه مقابل الدولار في البنك، 55 جنيهاً، لكن بعد توحيده وصل إلى نحو 380. انخفاض قيمة الجنيه، يُقابلها ارتفاع كبير لنسبة التضخم في البلاد، والتي تصاعدت بشكل تراكمي مخيف. وبحسب آخر إحصاء للمجلس المركزي للإحصاء، نشره في يناير الماضي، فقد بلغ نسبة التضخم أكثر من 304 في المئة.
لا فرق
يوضح مرتضى والذي كان يتحدث، وهو يقف في طابور لشراء الخبز التجاري بمبلغ 15 جنيهاً، أنه لايجد أي فرق في تكلفة معيشته، منذ أن أعلنت، الحكومة توحيد سعر صرف الجنيه السوداني، مقابل العملات الأجنبية، في فبراير الماضي. “الذي أعرفه، أن الأسعار ظلت كما هي عليه، منذ عدة أشهر، وهي في ارتفاع مستمر”، يشير مرتضى.
“خ . م أ”، هذه هي الأحرف الأولى لإسم موظف بدرجة متوسطة، بإحدى الشركات المعروفة، بالعاصمة السودانية الخرطوم، يقول إنه لم يرَ أثراً لسياسات الحكومة الجديدة في معيشته. “لا زلت أدفع نفس تكلفة المعيشة، إن لم تزد، كما أنه لا توجد انخفاضات مهمة في أسعار السلع الأساسية، يقول “خ.م.أ”، الذي يعول ثلاثة أطفال، في مرحلتي الروضة والمدرسة.
ويضيف: “يتحدثون عن انخفاض في سعر السكر، لكنه ليس بتلك الأهمية بالنسبة لأولوية المواد الغذائية، مثل اللبن المجفف أو الزيوت والخضروات والفواكه وغيرها من المواد الغذائية المهمة”. ويعبر عن اعتقاده، أن الحكومة اتخذت خطوة توحيد سعر صرف الجنيه أمام العملات الأجنبية لأسباب سياسية، تتعلق بمحاولة إظهار التشكيل الوزاري الجديد وكأنه يتخذ قرارات كبرى. ويبرر ذلك، بأن القرار موجود أصلاً في أضابير الحكومة الانتقالية، لكن توقيت إصداره ارتبط بأسباب سياسية.
يعود ويقول “لا يمكن اتخاذ قرار بهذا الحجم دون أن يُعالج في إطار اقتصادي كلي، ومن غير استعداد كاف.. لم تتخذ الحكومة أية سياسات تجاه السوق أو ضبطه”، كما أن التجار أنفسهم متخوفون ولا يشعرون بالأمان”، يوضح الموظف. ويزيد “لا توجد احتياطات من العملات الأجنبية بشكل كاف في البنك المركزي، للدخول في مثل هكذا سياسة، كما حدث في تجربة مصر، كما أنه لا يوجد إنتاج بالشكل الكافي”.
استقرار
لكن، تجار يشيرون إلى حدوث استقرار وانخفاض نسبي في أسعار السلع الغذائية، بعد إجراءات الحكومة الأخيرة. “حدث استقرار كبير في أسعار السلع، إلى جانب انخفاض أسعار بعض المواد الغذائية المهمة ، مثل السكر وزيت الطعام المنتج محلياً.. سياسات الحكومة الجديدة بتوحيد سعر الصرف ، ساهمت في استقرار عملنا، للمرة الأولى منذ أشهر”، يقول إدريس الجعلي، صاحب محل لبيع المواد الغذائية بالجملة، بمنطقة الثورة غربي العاصمة الخرطوم.
ويضيف إدريس لـ(عاين)، من محله وسط حركة بيع متوسطة، واستفسارات من الزبائن “كنا قبل إقرار السياسات الأخيرة، لا ندري ماذا نفعل، ففي كل يوم نجد أسعاراً جديدة، فيما نواجه بالاعتراضات من الزبائن عندما يأتون لشراء حاجياتهم منّا. كدنا نفقد الأمل، في استمرار عملنا”.
أثناء حديث (عاين) مع الجعلي، كثيراً ما يقاطعه اثنان من الشبان العاملين معه، مستفسرين عن سعر سلعة معينة، يرد عليهم في ثوان، ومن ثم ينهمك وراء مكتبه، ممراً يديه على الآلة الحاسبة، حيث تحيطه المواد الغذائية من كل الاتجاهات.
ويرى الجعلي، أن استمرار استقرار سعر صرف الجنيه أمام العملات الأجنبية، إن لم يُخفض الأسعار، فعلى الأقل يضمن ثباتها.
“حركة البيع جيدة الحمد لله، لكنا نتمنى أن تعمل الحكومة على ضمان استمرارية استقرار السوق، بما يضمن انخفاض أسعار السلع، في وقت قريب، حتى تكون متاحة لأكبر قدر من الناس”، يوضح الجعلي.
يبيع الجعلي غالبية السلع الغذائية، في محله الواقع، قبالة تقاطع مزدحم، يجمع بين عدة حارات (أحياء) بمنطقة الثورة الشنقيطي، وهي منطقة بها كثافة سكانية عالية، ويكثر فيها الطلب على المواد الغذائية، ومزدحمة بالخدمات الاخرى، مثل الخدمة الطبية، ومحال بيع الهواتف المحمولة والخضروات والفواكه.
استقرار مؤقت
غير أن مهتمين بالشأن الاقتصادي، يرون أن الاستقرار الحالي في السوق مؤقت، ويرتبط بكون تجار العملة (السوق الموازي)، في حالة ترقب.
“الاستقرار الحالي نسبي ومؤقت، وكان متوقع استقرار أسعار الجنيه، أو زيادتها بالتزامن مع نقص سعر الدولار قليلاً، بسبب أن تجار العملة والمجموعات المسيطرة على السوق الموازي، كانوا محتاجين لوقت لمعرفة المستجدات، لكن لا يوجد تغيير حقيقي بالنسبة للوضع الاقتصادي في البلاد”. يقول المهتم بالشأن الاقتصادي السوداني، حسام عثمان محجوب.
ويضيف محجوب لـ(عاين)، أن الأموال التي دخلت عن طريق تحويلات المغتربين، أو عن طريق البنوك هي جيدة، لكنها لا تؤثر في أساسيات الاقتصاد، بالإضافة إلى الأموال المتوقع دفعها من قبل السعودية”. وأعلنت السعودية، بحسب وكالة السودان للأنباء ـ سونا، عقب زيارة لرئيس الوزراء، عبد الله حمدوك للرياض الأسبوع الماضي، عن وديعة مالية، تبلغ 3 مليارات دولار.
ويشير محجوب، إلى أن العديد من المراقبين يقارنون سياسات الحكومة الحالية، مع النموذج المصري، لكنه يقول عندما وحدت مصر سعر الصرف، كان هنالك عشرات المليارات من الدولارات في البنك المركزي المصري. “لكن نحن حالياً نتحدث عن ملايين بسيطة جداً من تحويلات المغتربين، زائد بعض الأحاديث التي تتكلم عن دعومات مليارية، وفي الحقيقة غير متوقع حدوثها”، يوضح محجوب.
ويعود محجوب ويؤكد أن الأموال التي تتحدث عنها الحكومة قليلة جداً، وغير كافية لهزيمة السوق الموازي، مشيراً إلى أن تجار السوق الموازي الآن يراقبون، وهم يعلمون أن الحكومة لا تنتظر أموالاً كبيرة، لذا فهم ما يزالوا يسيطرون، بعد فترة الانتظار والمراقبة، سوف يعودون لرفع الأسعار مجدداً.
ويلفت إلى أن الحكومة ليس لديها إنتاج، وحل سعر الصرف، ليس موضوع جلب أموال من الخارج، حتى لو أتت أموال كثيرة. فمثلاً جمهورية مصر، بعد سنين من تطبيق مثل هذه الإجراءات الاقتصادية، بدأت تحدث فيها مشاكل متوقعة، خصوصاً تلك المتعلقة بالتضخم.
ويضيف قائلاً: “نحن حالياً في السودان، معدل التضخم زائد، إلى جانب الصرف الزائد للحكومة، حيث لم تقم الحكومة بشأنهما بأي شيء، وطالما لم تحرز تقدم في هذه الملفات، سيكون ليس لديها قدرة، وبالتالي سيزيد تجار العملة أسعارهم”.
ويلفت محجوب، إلى ما وصفها بالظاهرة المخيفة، متعلقة بتجار العملة، مشيراً إلى مقابلة رئيس الشركة السودانية للموارد المعدنية، مبارك أردول، لتجار عملة، رغم كونه مديراً لشركة حكومية. “فبالتالي مقابلته تجار عملة، لا تتماشى مع عملية القبض على صغار تجار العملة، في نفس الوقت الذي تقول فيه الحكومة إنها تحارب في سوق العملة، وفي الوقت نفسه، تتعامل مع أشخاص يمارسون عملاً غير قانوني بمثل هذه الصورة”، يتساءل محجوب.
ويزيد “لا أعتقد أنه بالإمكان خداع تجار العملة، لأنه لديهم مصالح مرتبطة بأشخاص داخل الحكومة وداخل أجهزة عديدة مرتبطة بالحكومة. “هذا الاستقرار مؤقت والأمور سوف تبدأ تسوء، لأنه لا يوجد تغيير حقيقي في الاقتصاد. التغيير الحقيقي في الاقتصاد ليس مقصوداً به تحويلات المغتربين، لأنها في نهاية المطاف محدودة، حيث يقومون بتحويل مصاريف لذويهم، وليس مقصوداً به دول تقوم بدفع مساعدات دولارية، سواء أكانت 100 مليون دولار أو 500 مليون دولار ، أو حتى مليار دولار”. يوضح.
دولار الجمارك
وحول أثر زيادة، أو توحيد سعر صرف الدولار الجمركي، يقول محجوب، إنه سوف يتسبب في في زيادة الأسعار، لأن معظم استهلاك البلاد مستورد، وكل هذه العوامل، سوف تزيد معدل التضخم.
ورداً على سؤال، حول هل يمكن وصف سياسات الحكومة الأخيرة بالناجحة، يقول إن انخفاض التضخم، وانخفاض عجز الموازنة وعجز الميزان التجاري، مشيراً إلى أن ارتفاع قيمة الجنيه ليست هدفاً في حد ذاته، بقدر ما هو نتيجة، واستقراره أهم. وفي فبراير الماضي، افتتح رئيس الوزراء السوداني، عبد الله حمدوك، برنامج دعم الأسر (ثمرات)، بمحلية جبل الأولياء، جنوب العاصمة الخرطوم.
وبرنامج ثمرات مدعوم من الدول الغربية، كما يلقى تشجيعاً، من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. ويقدم برنامج ثمرات دعماً مالياً مباشراً، يعادل 5 دولارات للفرد، في محاولة لتخفيف الضائقة المعيشية. وأشار حمدوك، إلى أن برنامج ثمرات، يعتبر أحد البرامج المهمة التي أطلقتها الحكومة الانتقالية لتحقيق أهداف ثورة ديسمبر، على حد قوله. وقال إن البرنامج سيعمم على جميع ولايات السودان.
واندلعت ثورة ديسمبر، ضد نظام البشير البائد، في ظل ظروف اقتصادية ومعيشية خانقة، ولكن حتى بعد مرور العام ونصف العام، على تشكيل الحكومة الانتقالية، لم تخف وطأة الظروف الاقتصادية، بل زادت. وتمثلت في ارتفاع قياسي لمعدل التضخم، وتضاعف الأسعار، بما فيها الأدوية، وشبه انهيار للخدمات، مثل الكهرباء. ومثلت فترة المجلس العسكري الانتقالي المحلول، من أبريل ـ أغسطس 2019، الذي تولى السلطة في البلاد عقب إطاحته بنظام الرئيس المعزول عمر البشير، فترة غامضة، لم يكن فيها واضحاً كيف أديرت موارد الدولة.
وعقب تشكيل الحكومة الانتقالية الأولى، في سبتمبر 2019، ألقى مسؤولون مدنيون وقيادات في الائتلاف الحاكم، باللائمة، على المكون العسكري، في تدهور الوضع الاقتصادي. والعام الماضي، قال رئيس الوزراء، إن 82 في المئة، من المال العام خارج ولاية وزارة المالية، بما في ذلك المؤسسات الاقتصادية التابعة للجيش.